الحمدُ للهِ وَالصلاةُ وَالسلامُ على رسولِ اللهِ وَآلِه وَصحبِه وَمَنْ وَالَاه وَبعد... وَأول مَنْ تنشقُّ عنه الأرضُ يومَ القيامةِ، وَيُعطى لواءُ الحمدِ، وَأول مَنْ يدخل الجنةَ
قالَ اللهُ تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79].
قالَ الإمامُ ابنُ جرير: (قالَ أكثرُ أهلِ التأويلِ: ذلكَ هو المقامُ الذي يقومُه صلَّى اللهُ عليه وسلم يومَ القيامةِ للشفاعةِ للناسِ، ليريحَهم ربُّهُم منْ عظيمِ ما همْ فيه منْ شدةِ ذلكَ اليوم)([1]).
وَقالَ الإمامُ القرطبي في تفسيرِه: (اختُلِفَ في المقامِ المحمودِ على أربعةِ أقوالٍ: الأول: وَهو أصحُّها: الشفاعةُ للناسِ يومَ القيامةِ)([2]).
وَقالَ الحافظُ ابنُ كثير: (قولُه صلَّى اللهُ عليه وسلم: ((وَأُعْطِيتُ الشفاعةَ))، يريدُ بذلك صلواتُ اللهِ وَسلامُه عليه: المقامَ المحمودَ الذي يغبطهُ به الأولون وَالآخِرُون، وَالمقام الذي يرغبُ إليه الخَلْقُ كلُّهم ليشفعَ لهمْ إلى ربِّهم، ليفصلَ بينهم وَيرحمَهم منْ مقامِ المحشرِ، وهيَ الشفاعةُ العظمى التي يحيدُ عنها أولو العزمِ، لِمَا خصَّه اللهُ به منَ الفضلِ وَالتشريفِ)([3]).
وَقالَ الحافظُ في الفتح: (الراجحُ أنَّ المرادَ بالمقامِ المحمودِ الشفاعةُ)([4]).
وَروى الإمامُ البخاري في صحيحِه عنْ ابنِ عمرَ - رضيَ اللهُ عنهما - قالَ: (إنَّ الناسَ يصيرون يومَ القيامةِ جُثًا، كلُّ أمةٍ تتبعُ نبيَّها، يقولون: يا فلان اشفعْ لنا، حتى تنتهيَ الشفاعةُ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وَسلم، فذلك يوم يبعثُه اللهُ المقامَ المحمودَ)([5]).
وروى الإمامُ أحمدُ في مسندِه وَابنُ حبان في صحيحه بسندٍ صحيحٍ على شرطِ مسلم، عنْ كعبٍ بنِ مالك - رضيَ اللهٌ عنه - أنَّ رسولَ اللهِ - صلَّى اللهُ عليه وَسلم – قال: ((يُبْعَثُ النَّاسُ يومَ القيامةِ، فأكونُ أنا وَأُمَّتِي على تَلٍّ، وَيكسونِي رَبِّي تبارك وتعالى حلةً خضراء، ثمَّ يؤذنُ لي فأقول ما شاءَ اللهُ أنْ أقولَ، فذلكَ المقامُ المحمودُ))([6]).
ورَوَى الإمامُ أحمدُ في مسندِه، وَالترمذي فِي جامعِه بسندٍ حسنٍ لغيرِه، عنْ أبي هريرة - رضيَ اللهُ عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلم في قولِه تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]، وَسُئِلَ عنها فقال: ((هيَ الشفاعةُ))([7]).
ورَوى النسائيُّ في السننِ الكبرى بسندٍ صحيحٍ عنْ حذيفة - رضيَ اللهُ عنه - قالَ: ((يُجْمَعُ النَّاسُ في صعيدٍ، وَلا تَكَلَّمُ نفسٌ، فأولُ مدعو محمدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلم، فيقولُ: لبيكَ وسعديكَ وَالخيرُ فِي يديكَ، وَالشرُّ ليسَ إليكَ، والمهديُّ منْ هَدَيْتَ، وَعبدُك وَابنُ عبدِك وَبِكَ وَإليكَ، وَلا ملجأَ وَلَا منجى منكَ إلا إليكَ، تباركتَ وَتعاليت))، فهذا قولُه: { عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]([8]).
قالَ الإمامُ القرطبي: (إذا ثَبُتَ أنَّ المقامَ المحمودَ هوَ أمرُ الشفاعةِ الذي يتدافعُه الأنبياءُ - عليهم الصلاةُ والسلام -، حتى ينتهيَ الأمرُ إلى نبيِّنا محمدٍ - صلَّى اللهُ عليه وسلم -، فيشفع هذه الشفاعةَ لأهلِ الموقفِ، ليُعَجِّلَ حسابَهم وَيُراحُوا منْ هولِ موقِفِهم، وهيَ الخاصةُ به صلَّى اللهُ عليه وسلم، ولأجلِ ذلك قالَ صلَّى اللهُ عليه وسلم: ((أَنَا سيدُ وَلَدِ آدم وَلَا فَخْرَ)))([9]).
وَمِنْ خصائِصِه - صلَّى اللهُ عليه وسلم - أنَّه أولُ مَنْ تنشقُّ عنْه الأرضُ يومَ القيامةِ، وَيُعطَى لواءَ الحمدِ، وَأول مَنْ يدخلُ الجنةَ:
روى الإمامُ البخاري فِي صحيحِه عنْ أبِي سعيدٍ الخدري - رضيَ اللهُ عنْه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلَّى اللهُ عليه وَسلم -: ((لا تخيَّرُوا بينَ الأنبياءِ([10])، فإنَّ الناسَ يُصْعَقُونَ يومَ القيامةِ فأكون أولَ مَنْ تنشقُّ عنه الأرضُ))([11]).
وروى الإمامُ مسلم فِي صحيحِه عنْ أبِي هريرة - رضيَ اللهُ عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وَسلم: ((أنا سيدُ وَلَدِ آدم يومَ القيامةِ([12])، وَأولُ مَنْ ينشقُّ عنه القبرُ))([13]).
وَرَوى الإمامُ أحمدُ في مسندِه بسندٍ جيدٍ عنْ أنس - رضيَ اللهُ عنه - قالَ: سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وَسلم يقولُ: ((إنِّي لأولُ الناسِ تنشقُّ الأرضُ عَنْ جمجمتِي يومَ القيامةِ، وَلَا فخرَ، وَأُعطَى لواءَ الحمدِ، وَلا فخرَ، وَأنا سيدُ الناسِ يومَ القيامةِ، وَلَا فخرَ، وَأنَا أولُ مَنْ يدخلُ الجنةَ يومَ القيامةِ، وَلَا فخرَ))([14]).
ورَوى الإمامُ مسلمٌ فِي صحيحِه عنْ أنس بن مالك – رضيَ اللهُ عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وَسلم: ((آتي بابَ الجنةِ يومَ القيامةِ، فَأَستفتِحُ، فيقول الخازنُ: مَنْ أَنْتَ؟ فأقول: محمدٌ، فيقول: بِكَ أُمِرْتُ، لَا أفتحُ لِأَحَدٍ قَبْلَكَ))([15]).
([5]) رواه البخاري، كتاب التفسير، باب قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]، (4718).
([7]) رواه أحمد في مسنده، (9735)، والترمذي، كتاب التفسير، باب ومن سورة بني إسرائيل، (3404)، وقال الترمذي: هذا حسن.
([8]) رواه النسائي في السنن الكبرى، كتاب التفسير، باب قوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]، (11230)، وأورده الحافظ في الفتح، (9/316)، وصحح إسناده.
([9]) رواه الترمذي، كتاب أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة بني إسرائيل، (3415)، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر الشفاعة، (4308)، وهو حديث صحيح لغيره، وانظر كلام الإمام القرطبي في تفسيره، (13/148).
([10]) قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم، (15/30): (وأما الحديث الذي فيه: ((لا تَفْضُلُوا بينَ الأنبياء)) فجوابُه من خمسةِ أوجهٍ:
أحدها: أنَّه - صلى اللهُ عليه وسلم - قاله قبلَ أن يعلمَ أنه سيدُ ولدِ آدم، فلما عَلِمَ أخبرَ به.
الثاني: قالَه أدبًا وتواضعًا.
الثالث: أن النهيَ إنما هو عنْ تفضيلٍ يؤدي إلى تنقيصِ المفضولِ.
الرابع: إنما نهى عنْ تفضيلٍ يؤدي إلى الخصومةِ وَالفتنةِ كما هو المشهورُ في سببِ الحديثِ.
الخامس: أنَّ النهيَ مختصٌّ بالتفضيلِ في نفسِ النبوةِ، فلا تفاضلَ فيها، وإنما التفاضلُ بالخصائص، وفضائلَ أخرى، ولابد من اعتقادِ التفضيل؛ فقدْ قالَ اللهُ تعالى في سورةِ البقرة: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253]).
([12]) قال الإمام النووي في شرح مسلم، (15/30): (قولُه - صلى اللهُ عليه وسلم - "يوم القيامة"، مع أنه سيدُهم في الدنيا وَالآخرةِ، فسببُ التقييدِ أنَّ في يومِ القيامةِ يظهرُ سؤدُدُه لكلِّ أحدٍ، وَلا يبقى منازعٌ ولا معاندٌ نحوه، بخلافِ الدنيا، فقدْ نازعَه ذلك فيها ملوكُ الكفارِ وزعماءُ المشركين، وَهذا التقييدُ قريب منْ معنى قولِه تعالى في سورةِ غافر: {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16]، مع أنَّ الملكَ له سبحانه قبلَ ذلك، لكن كان في الدنيا من يدَّعي الملك أو منْ يُضاف إليه مجازًا، فانقطعَ كلُّ ذلك في الآخرةِ).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.