الرد على مدح الفقر وذم الغنى عند الصوفية (2)

الرد على مدح الفقر وذم الغنى عند الصوفية (2)





الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛

أولًا: إن قول حاتم الأصم:" من ادعى حب النبي صلى الله عليه وسلم من غير محبة الفقر، فهو كذاب"[1]، هو قبول باطل، لأن النبي صىل الله عليه وسلم نفسه لم يكن فقيرا، بل ومدح الغنى وذم الفقر كما سبق أن بيناه، وصح الخبر عنه أنه كان يتعوذ من الفقر، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:" اللهم فإني أعوذ بك من فتنة النار  وعذاب النار وفتنة القبر وعذاب القبر، ومن شر فتنة الغنى ومن شر فتنة الفقر"[2]، وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجرا فقال:"أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل البقاء ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفان كذا، ولفلان كذا وقد كان لفلان"[3].

وفي دعاء للنبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" اقض عنا الدين أعننا من الفقر"[4].

وبما أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يحب الفقر فمحبته لا تكون بمحبة الفقر، وإنما بمحبة بما كان يحب ويأمر.

علما بأن حب النبي صلى الله عليه وسلم لا يتطلب الفقر، وإنما يتطلب الجهاد في سبيل الله بديل قوله تعالى: { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24].

ويبتطلب أيضا الالتزام بالشريعة حتى جاء بها من عند الله تعالى، قال سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31].

ومما يدل على خطأ كلام الرجل أنه تضمن طعنا صريحا في الصحابة رضي الله عنهم بعدم حبهم للنبي صلى الله عليه وسلم تكذيبهم في قوله بحبه، لأن معنى كلامه أن أغنياء الصحابة قبل الخلافة الراشدة كانوا كاذبين في حبهم للرسول صلى الله عليه وسلم بحكم أنهم كانوا أغنياء، ولا يحبون الفقر، ومعنى كلامه أيضا أن كل الصحابة رضي الله عنه زمن الخلافة الراشدة لم يكونوا صادقين في حبهم للنبي صلى الله عليه وسلم بحكم أنهم لم يبقوا فقراء بعدما أصبحوا أغنياء أو ميسورين، فحسب زعمه أن معظم الصحابة رضي الله عنهم كانوا صادقين في حبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم عندما كانوا فقراء، ثم أصبحوا كاذبين في حبهم له بعدما تحسنت ظروفهم المادية وأصبحوا أغنياء أو ميسورين، وبما أنهذا كلام باطل قطعا، فإن الرجل أخطأ خطأ فاحشا فيما قاله من جهة، لكنه شاهد على صاحبه بأنه كان يتكلم بلسان العبادة الصوفية لا الشرعية من جهة أخرى، فالرجل كان صادقه مع تصوفه، ولم يكن صادقا مع دين الإسلام مع تستره به.

وأما قول رويم بن أحمد البغدادي:" التصوف مبني على ثلاث خصال: التمسك بالفقر والافتقار إلى الله، والتحقق بالذل والإيثار، وترك التعرض والاختيار"[5].

فهو قول فيه حق وباطل وتناقد، فالحق هو أن كل الناس فقراء إلى الله تعالى، وهذه حقيقة شرعية وكونية، وليست خاصة بالتصوف وأهله.

وأما الباطل فقوله هو دعوة إلى ترك التكسب والرضا بالفقر، وهذا ليس من دين الإسلام، كما سبق أن بيناه مرارا، وأما التناقض فيتمثل في دوعته إلى الفقر والسلبية من جهة، ودعوته إلى البذل والإيثار من جهة أخرى، فمن لا يعمل ويفضل الفقر ويرضى به، ويذم الغنى ويتوسل ليقتات، فمن أين له بالأموال لكي ينفقها، وإن تصدق ببعض ما حصل عليه بالتسول، فهذا لا يليق، لأنه حصل عليه بكسله، وذل السؤال، وتصدق بمال غيره.

ثانيًا: إن قول أبي حامد الغزالي عن المريد:" إنما يرفع حجاب المال بخروجه عن ملكه حتى لا يبقى له إلا قدر الضورة، فما دام يبقى له درهم يلتفت إليه فهو مقيد به محجوب عن الله عز وجل"[6].

هذا القول غير صحيح في معظمه، وفيه تلبيس وتغليط، وفيه طعن صريح في الشرع والصحابة، لأنه لا يصح تخصيص المريد بذلك الكلام، لأن المريد إن ان مسلما فيجب عليه وعلى كل الصوفية والمسلمين الخضوع للشرع، ولا يختص واحد منهم بأمر يجعله فوق الشرع، وعليه فكلام الغزالي فيه تلبيس وتغليط وتحايل على الشرع ليخرج المريد من دائرة الشرع ويجعله خاضعا للعبادة الصوفية لا الشرعية، وهذه الطريقة مارسها الصوفية قديما وحديثا كوسيلة للتهرب من الشرع والالتفاف حوله بدعوى أن الشرع يتعلق بكل المسلمين، لكن التصوف يخص أهله فقط، ومن ثم يحق للصوفي أن يترك الشرع وراء ظهره تمسكا وخضوعا للتصوف، فهذا من طرق الصوفية في تعاملهم مع الشرع في مخالفته وتعطيله بل وهدمه أيضا انتصارا للتصوف وأهله.

وليس صحيحا أن الغني محجوب عن الله، وأن الفقير غير محجوب عنه، لأن المحجوب عن الله تعالى ليس الفقر ولا الغنى، وإنما المحجوب عنه هو الكافر، والمعطل لشريعة الله، قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 146].

وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [الأنعام: 153].

والمال عند المسلم هو وسيلة قرب وتزكية وتطهير وجهاد، وليس طريقا إلى البعد عن الله تعالى كما زعم الغزالي، قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 103].

وقال تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [التوبة: 41].

وبما أن المال الحلال والمنفق في الطاعات وسيلة تزكية وتطهير وجهاد فكلام الرجل باطل وليس من الإسلام، وإنما هو من شريعة الدين الصوفي.

وبناء على ذلك فليس صحيحا أن المال يفسد النفوس مطلقا وعلينا أن نتخلص منه، إنه لا يصح لأن الناس معادن فهم ليسوا سواء في موقفهم من المال، فكم من غني منفق من غير تبذير، وكم من غني منفق بتبذير، وكم من غن مبذر على نفسه وأهله من دون تصدق على الفقراء، وكم من غني بخيل على نفسه وأهله وعلى الناس، وكم من فقير غني النفس عفيف، وكم من فقير لص طماع حسود حقود، وكم من غني أدخله ماله الجنة، وكم من فقير أدخله فقره النار؟ والعكس صحيح.

فقوله لا يصح على إطلاقه، فقد يكون المال الحلال سبب استقرار واطمئنان وجهاد، وإخلاص وثبات وتثبيت، ولهذا فرض الله تعالى نصيبا من مال الزكاة يعطى للمسلمين الجدد لتأليف قلوبهم، قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [التوبة: 60].

فالمال هنا وسيلة علاج وتربية وتحصين وتقريب إلى الله تعالى، وليس وسيلة حجاب وإبعاد عن الله حسب قول الغزالي.

ومن جهة أخرى قد يكون الفقر سببا في القلق والاضطراب والانحراف عن الشرع، فيجعل الفقير طماعا متلفتا إلى ما عند الناس حسودا وقلقا لا يستطيع التفرغ للعبادة، ويشهد التاريخ المتواتر أن الصوفية كانوا أكثر الناسب طمعا فيما عند الأغنياء والسلاطين، فكانوا يتقربون منهم، ويمشون في ركبهم، ليتصدقوا عليهم، وليبنوا لهم الزوايا، وليقيموا لهم الولائم ومجالس الغناء والرقص، فالقوم أورثهم فقرهم الطمع والحرص فيما عند الناس، فكانت قلوبهم معلقة بالمناسبات والولائم، حتى قيل فيهم:" أكلة بطلة سطلة، لا شغل ولا مشغلة" وقيل كذلك:" نعوذ بالله من العقرب والدار، ومن الصوفي إذا عرف الدار"[7]، وحالهم هذا كان وما يزال يصدق على أكثر الصوفية إلى يومنا هذا.

ثالثًا: إن ما ذكره القشيري في مدح الفقر وأهله واستشهاده بحديث نبوي تأييدا لموقفه:" والفقر شعار الأولياء، وحلية الأصفياء، واختيار الحق سبحانه وتعالى من الأتقياء والأنبياء، والفقراء: صفوة الله عز وجل من عباده، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لكل شيء مفتاح ومفتاح الجنة: حب المساكين، والفقراء الصبر: هم جلساء الله تعالى يوم القيامة"[8]، فأقول: الحديث لا يصح، بل موضوع[9]، ومتنه باطل، لأن أقرب المؤمنين إلى الله تعالى بدليل القرآن الكريم والسنة الصحيحة الموافقه له هم: الأنبيء والصديقون، والأولياء، والشهداء، والصالحون.

قال سبحانه: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69].

وقال تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62، 63].

فليس من بينهم الفقراء ولا الأغنياء، ولا جعل الله تعالى الفقر ولا الغنى شرطا يجب توفره في هؤلاء، وإنما الشرط هو الإيمان والتقوى لا غير.

ولهذا كان في الأنبياء الأغنياء والفقراء، والملوك و غير الملوك، وكان الصديقين والأولياء الفقراءوالأغنياء كما هو حال الصحابة رضي الله عنهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، فالحديث باطل دون شك.

أما قول القشيري:" والفقر شعار الأولياء، وحلية الأصفياء، واختيار الحق سبحانه لخواصه من الأتقياء والأنبياء، والفقراء: صفوة الله عز وجل من عباده، ومواضع أسراره بين خلقه، بهم يصون الحق الخلق، وببركاتهم يبسط عليهم الرزق، والفقراء الصبر جلساء الله تعالى، يوم القيامة، بذلك ورد الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم".

فهو كلام باطل بلا شك، تكلم الرجل به بلا علم، أو تعمد قوله لغاية في نفسه انتصارا للتصوف وأهله، وهو ظاهر البطلان بما ذكرناه في نقدنا للحديث الذي استدل به، ولأن كلا من الفقر والغنى حال من أحوال الدنيا التي اختبر الله تعالى بها عباده، فكل منهما قد يكون طريقا إلى الجنة، أو طريقا إلى النار، وأكرم الناس عند الله تعالى أتقاهم وليس أغناهم، ولا أفقرهم، ولا أصوفهم.

وأما الحديث الذي ذم الأغنياء كما رواه القشيري، فقال:" وروي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: لئن أقع من فوق قصر فأتحطم أحب إلي من مجالسة الغني، لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم  يقول:" إياكم ومجالسة الموتى" قيل: يا رسول الله ومن الموتى؟ قال:" الأغنياء"[10].

وأقول: الحديث لا يصح[11]، والمتن باطل قطعا، لأن من الأنبياء من كان غنيا، ونبينا كان فقيرا فأغناه الله تعالى، وطائفة من كبار الصاحبة كانوا أغنياء، ثم أصبحوا كلهم أغنياء، أو ميسورين، ولم يبق فيهم فقير وحد بما فتحه الله عليهم، وقد وعدهم بذلك، ومدحهم به في قوله سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55].

وهذا إذا تحقق يستلزم وجود الغنى وذهاب الفقر وهذا الذي حدث فعلا زمن الخلافة الراشدة، وهذا شاهد دامغ على أن الصوفية يتعمدون مخالفة الشرع والتاريخ الصحيح عن سبق إصرار وترصد تعصبا لرغباتهم وأحوالهم وعقيدتهم الصوفية.

رابعًا: إن المقارنة التي عقدها إبراهيم الخواص بين الفقير والغني وانتصر فيها للفقيل، هي مقارنة غير صحيحة في معظمها وذاتية صوفية متعصبة للتصوف، وليست متعصبة للشرع ولا للحق، وهي نظرة جزئية متحيزة وليست نظرة موضوعية شاملة لموضوعي الفقر والغنى، وفيها مبالغات وتغليطات وتلبيسات، وهي نموذج دامغ على تقديم الصوفية لرغباتهم وأحوالهم وتصوفهم على الشرع والعقل والعلم، إنها كذلك بدليل الشواهد الآتية:

أولها: لا يصح مدح الفقر ولا ذم الغنى بدعوى أن الغنى يفسد الإنسان والفقر يصلحه، فهذا خطأ لأن كلا منهما قد يكون سببا في إصلاحه وسعادته، وقد يكون سببا في  إفساده وتعاسته وخسرانه للدين والدنيا معا، فكم من إنسان أضله فقره وأطغاه، وكم من إنسان أسعده غناه وأصلحه؟ والعكس صحيح أيضا، فالرجل اتخذ موقفا متحيزا، وهذا الذي أوقعه في أخطاء كثيرة تضمنها كلامه.

والشاهد الثاني: إنه لا علاقة للإخلاص بالفقر والغنى، لأن الإخلاص يقوم على النية الحسنة ومحلها القلب، فقد يكون الغني مخلصا والفقير مرائيا أو منافقا، وقد يكون العكس .

والشاهد الثالث: إن الإيمان محله القلب ولا علاقة له في الأصل بالفقر ولا بالغنى، وقد يجمع الإيمان المؤمنين في جماعة واحدة، مع أن منهم الفقير ومنهم الغني، وهذا يصدق على الصحابة رضي الله عنهم فقد جمعهم الإيمان ولم يجمعهم الفقر ولا الغنى، قال سبحانه: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29].

وقال تعالى: { وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 63].

وقد يكون الغني أكثر إيمانا وإخلاصا من الفير بما يخرجه من زكاة ماله، وبما ينفقه في سبيل الله من دون الزكاة، فيتزكى بهذه الصدقات لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 103]، ويستطيع الغني أن يتحرك في الدنيا بسهولة بما له من وسائل وأموال، ونفوذ ومعارف، وبهذا يكون الغني قد جمع بين قوة الإيمان وقوة المال، وقوة النفوذ والتأثير في الواقع، فجمع بين حسن الدنيا والآخرة.

وقد يكون الفقير أقل إيمانا وإخلاصا بما فيه من طمع، وحرص على طلب الدنيا، وبما فيه من قلة الصبر وكثرة الطمع والحقد على الأغنياء والميسورين من الناس، ومن جهة أخرى فهو لا يتسطيع أن يتحرك يجول في الأقطار للسياحة، أو لطلب الرزق، وأو للعبادة لقلة ماله وحيلته وضعف نفوذه وتأثيره في المجتمع، فيكون قد جمع بين الفقر والضعف في الدنيا، وسيحاسبه الله تعالى يوم القيامة على عدم صبره على فقره في الدينا، ومن هذا حاله قد يفضل البقاء في الدنيا ولا يحب الآخرة.

وأما ما رواه الهجويري عن رد أبي بكر الشبلي على من سأله: ما الذي يجب أن يعطي من الزكاة؟ فكان مما أجاب به:" هذا في مذهبك، أما في مذهبي فيجب أن لا تملك شيئا حتى تتخلص من مشغلة الزكاة"[12].

فأقول: إن الشبلي أوجب أمرا مخالفا للشرع مخالفة صريحة، وهو دليل قاطع على أن الصوفية يرجعون في عقائدهم وسلوكياتهم إلى العبادة الصوفية لا الشرعية، وقوله هذا دعوة إلى تعطيل الجانب الاقتصادي من الإسلام، الذي من ثماره الزكاة وهي ركن من أركان ديننا الحنيف، فالرجل وأمثاله يعملون على تعطيل الإسلام وهدمه من حيث يدرون أو لا يدرون.

ومن جهة أرخى إنه نسي أو تناسى أنه لا يصح له أن يجعل الزكاة مشغلة لأنها عبادة وركن من اركان دين لإسلام، وهي وسيلة هامة من وسائل التربية الإيمانية لأنها تربي النفس وتطهرها وتزكيها، قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 103].

وذلك الموقف هو من تناقضات الصوفية، فهم يدعون أنه يجاهدون أنفسهم لتربيتها وتزكيتها ثم هم يعطلون فريضة الزكاة التي هي من أهم وسائل التربية الإيمانية والروحية والأخلاقية في الإسلام.

علما بأن الشبلي وأصحابه تركوا الدنيا من أجل الدنيا وليس من أجل الآخرة، فلو تركوها من أجل الآخرة ما خالفوا الشرع وما عطلوه، وما ازدروا الآخرة، وما شرعوا لأنفسهم عبادة علمانية دنيوية لا آخر فيها.

والذي لا يطلب الآخرة ولا يعبد الله خوفا من ناره ولا رجاء فيما عنده من نعيم فهو بالضرورة يطلب الدنيا ويعبد الله من أجلها ومن أجل أهوائها وأحواله التي توصله إى سر التصوف الذي حرص الصوفية على إخفاه وقد سموه الفناء في الله، فهو جنة الصوفية التي يطلبونها، إنهم تركوا الدنيا من أجل الدني ولم يتركوها من أجل الآخرة.

وأما ما زعمه السراج الطوسي بأن الله تعالى لم يدع الخلق إلى جع الأموال والصنائع والتجارات، ولكن أباح لهم ذلك علمه بضعفهم[13]، فالأمر ليس كذلك لأن الله عالى أمرنا بعمارة الأرض، وسخر لنا ما في السموات والأرض، وجعل الأموال لنا قياما، وأمرنا أن نجاهد بها في سبيله، وأن نخرج منها الزكاة، وأمرنا بالإنفاق مما جعلنا مستخلفين فيه.

ومن جهة أخرى فرض علينا شريعته دعوة وتطبيقا، وقال لنا: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60].

وحثنا على العمل وأكل الحلال، ونهان عن التسول، وكل هذا لا يتأتى إلا بوجوب عمارة الأرض وجمع الأموال واتخاذ مختلف وسائل القوة بالطرق الحلال، علما بأن دين الله تعالى الذي فرضه الله علينا وكلفنا بالدعوة إليه لا يمكن أن يتم له ذلك إلا بوجوب جمع الأموال واتخاذ كل أسباب القوة لتسخيرها في سبيل الله، ومن أجل خير البشر.

خامسًا: إن قول الشهاب السهروردي بأن الفققر:" كائن في ماهية التصوف، وهو أساسه وبه قوامه"[14]، فهو اعتراف من الرجل بأن الصوفية أخذوا موقفهم من الفقر والغنى من التصوف لا من الشرع، فالفقر المادي عندهم من أصول ممارسات الطريق الصوفي، ويندر ضمن تركهم للدنيا والتكسب بدعوى التفرغ للعبادة، وهذا أصل عملي عندهم، وهو مخالف لدين الإٍسلام، ولهذا اختلقوا الأحاديث لتأييد موقفهم، وتركوا النصوص والحقائق التي ضدهم.

مع أن الفقر المادي في حقيقته هو نقص وعجز، وسلبية ودعوة إلى تدمير الإسلام وأهله،لكن هل صحيح أن الصوفية كانوا فقراء ماديا؟

إنهم ليسوا كذلك، فهم إن ذمموا الفقر بألسنتهم ومظهرهم فإنهم لم يرضوا به في باطنهم وحقيقة أحوالهم وسعوا بطريتهم الصوفية لتأمين غناهم وسد جوعهم بالتسول وعلاقاتهم بالناس والأغنياء والحكام، وبعرض أنفسهم في الولائم والأعراس، فهم كانوا أغنياء بما عند الناس لأنهم يعلمون أنهم سيجبلون أموال هؤلاء إليهم بطريقهم الخاصة، ولهذا يمكن القول: إن الصوفية لم يرضوا بالفقر ولا فعلوا ذلك انسجاما مع تصوفهم في السية مما رسة التقية وجلب للدنيا بالطرق الصوفية.

إنهم تصوفوا وافتقروا طلبا للدنيا لا طلبا للآخرة، لأنهم ذموا أيضا من يطلب الآخرة، إنهم طلبوا الدنيا بعدة وسائل، منها الفقر، بل وذموا الفر جلبا للأموال لا جلبا للفقر!!.


الهوامش

[1] القشيري: الرسالة القشيرية، (2/411).

[2] الغزالي إحياء علوم الدين (3/75).

[3] السبكي: معيد النعم (125).

[4] أبو الحسن الكناني: تنزيه الشريعة المرفوعة، (2/286)، والألباني: الضعيفة (5/581).

[5] الحافظ العراقي، المغني عن حمل الأسفار (3/58)، والسبكي: أحاديث الإحياء التي لا أصل لها (23).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
الرد على مدح الفقر وذم الغنى عند الصوفية (2).doc doc
الرد على مدح الفقر وذم الغنى عند الصوفية (2).pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى