كيف يُستوى المبتدع بالمشرك بمجرد قصده الأولياء للشفاعة؟
يستدل المبتدعةُ على أن المشركين الذين نزلَ فيهم القرآنُ لا يشهدون أن لا إله إلا الله ويكذِّبون الرسولَ صلى الله عليه وسلم، وينكرون البعثَ ويكذبون القرآن، ونحن نشهدُ الشهادتين ونؤمن بالبعثِ ونصلي ونصوم.. إلخ، فكيف تجعلوننا مثلهم بمجرد قصدنا الأولياءَ للشفاعة؟! واحتجوا على هذا بحديث: أُمِرتُ أن أقاتلَ الناس حتى يشهدوا ... وحديث أسامة وغيرهما من الأحاديث الآمرة بالكفِّ عمن قال: لا إله إلا الله([1]).
الرد([2]):
أولًا: الإقرارُ بالشهادتين والاعترافُ بالشريعةِ الإسلامية لا يغني عن الاحترازِ من الوقوعِ في نواقضِ الإسلام، ولا يلزمْ من ذلك بقاءُ الرجلِ على الإسلامِ ولو أتى بالكفريات وبما يناقضُ الشهادتين، والأدلةُ على ذلك كثيرة:
1- إجماع([3]) العلماء - رحمهم الله تعالى - على أن من صدَّقَ الرسولَ صلى الله عليه وسلم في شيءٍ وكذَّبَه في شيءٍ يكفر، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا ۚ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا} [النساء:150-151]، وقد عُلِمَ أن التوحيد أهم أركان الإسلام، فمن أنكره أو أنكرَ بعض جوانبه فقد كفر.
2- وقد وقع في التاريخِ الإسلامي ما يدلُ على إجماعِ العلماء على تكفيرِ من أنكرَ بعضَ الشيء من الدين؛ ومن ذلك:
أ- إجماعُ الصحابةِ - رضوان الله عليهم - على قتالِ المرتدين بعد مناقشةِ عمر لأبي بكر وبيانه له، فلم يحصل بينهم في قتالِهم خلافٌ مع أن بعضهم لا زال يقرُّ بالإسلام.
ب- قد حرَّقَ علي - رضي الله عنه - الذين غلوا فيه وألَّهُوه، ولم ينكر عليه أحدٌ من الصحابةِ ولا التابعين، وقد أنكرَ عليه ابنُ عباس الإحراقَ بالنار، لا أصلَ قتلِهم.
3- فقهاءُ المذاهب يعقدون أبواباً في أحكامِ الردةِ ولو أن المسلمَ لا يمكن وقوعُ الكفرِ منه لما كانت حاجة إلى عقدِ تلك الأبواب.
وقد ذكروا في تلك الأبوابِ ما هو أقل بكثيرٍ مما نحن فيه.
4- قد وردت آياتٌ تدلُّ على ارتدادِ من ارتكبَ بعضَ الكفريات مع كونِهم من أصحاب رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يجاهدون معه ويقاتلون الكفارَ، قال تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} [التوبة: 74].
وقال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة: 65-66]. وهؤلاء كانوا مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في غزوةِ تبوك فلو كان مجرد الشهادتين يمنع الحكمَ بالكفرِ لما كفرهم، وحكمَ بأنهم كفروا بعد إيمانهم.
5- كما أنه قد وردت آياتٌ أُخَر تبين أن من أشركَ يبطل عملُه حتى ولو كان من الأنبياء والمرسلين مع أن اللهَ عصمَهم، فكيف بغيرِهم؟ قال تعالى بعد ذكر جملةً من الأنبياء: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88]. وقال جلَّ شأنُه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65].
6- الأنبياءُ والرسلُ الكرامُ وجلة الصالحين كانوا يخافون على أنفسِهم الشركَ، ولو كان مجرد النطق بالشهادتين يكفي ولا يضرُّ الإتيان بما يناقضُ ذلك لما خافوا على أنفسِهم من الشرك؛ قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم: 35-36].
وقد حذَّرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أمته من الشركِ فقال: «يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك، فإنه أخفى من دبيبِ النملِ فقيل له: وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ قال: قولوا: اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئًا نعلمُه ونستغفرك لما لا نعلم»([4]).
7- ويُقال أيضاً في الجواب: «إن الجامعَ بين المشركين من الأولين والآخرين موجودٌ وهو الشرك؛ فالحكمُ في ذلك واحدٌ لا فرق فيه لعدم الفارق ووجود الجامع، وفي أصولِ الفقه: إن العبرةَ بعمومِ اللفظِ لا بخصوصِ السبب، ويلزمُ من هذا الاعتراض أن يُقال: كُلُّ حكمٍ نَزَلَ على سببٍ مخصص في قضية سالفة فهو لا يتعداها إلى غيرها، وهذا باطلٌ، وتعطيلٌ لجريان الأحكامِ الشرعيةِ على جميعِ البرية»([5]).
لأنه يلزمُ من اعتقادِ أن الآيات لا تشمل إلا المشركين الأوائلَ الذين نزلت فيهم أنها لا حكم لها الآن، فالذي يجب على الإنسانِ إذا قرأَ القرآنَ أن لا يحسب أن المخاصمةَ كانت مع قومٍ انقرضوا، بل الواقع أنه ما من بلاءٍ كان فيما سبق من الزمان إلا وهو موجودٌ اليومَ بطريق الأنموذج([6]) بحكم الحديث: «لتتبعنَّ سُنَنَ من كان قبلكم حذو القذةِ بالقذةِ ...»([7]).
وأما احتجاجُهم بالأحاديث الآمرة بالكفِّ عمن قال: لا إله إلا الله، فيُقال: إن الأحاديث تدلُّ على وجوبِ الكف عمن قالها إلا إن تبيَّن منه ما يناقضُ تلك الكلمة([8])، كدعاءِ غيرِ اللهِ تعالى والاستغاثة بالأولياء .. إلخ.
وقد ثبت في بعض طرق الأحاديث ما يفيد ذلك، وهو قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في بعضِ طرقِه عند مسلم: «أُمِرْتُ أن أقاتلَ الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئتُ به»([9])، فقوله صلى الله عليه وسلم: «ويؤمنوا بي وبما جئتُ به» يدلُّ على وجوبِ الإيمان بكلِّ ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يكفي مجردُ الإيمان بالشهادتين فقط.
كما ورد نحوُه في حديثٍ آخر وهو ما أخرجه مسلمٌ أيضاً من حديث أبي مالك الأشجعي عن أبيه قال: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يُعبد من دونِ اللهِ حرَّمَ ماله ودمه، وحسابه على الله»([10])، فدلَّ على اشتراط الكفر والبراءة مما يُعبد من دونِ اللهِ وأنه لا يكتفي بمجرد النطق بلا إله إلا الله.
ويدل لذلك أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي احتجوا به «إلا بحقِّها»، وفي رواية: «إلا بحقِّ الإسلام»([11])، وحقُّها إفراد الإلهية والعبودية لله تعالى، والقبوريون لم يُفرِدُوا الإلهية والعبادةَ فلم تنفعهم كلمةُ الشهادةِ فإنها لا تنفعُ إلا مع التزامِ معناها، كما لم ينفع اليهودَ قولُها لإنكارِهم بعضَ الأنبياء»([12]).
وقد صرَّح بعضُ العلماء بأن حديث الأمر بالكفِّ بالإقرار بالشهادة خاص بمشركي العرب، وأما من كان يقرُّ بالتوحيدِ كاليهود فلا يكتفي بقوله: لا إله إلا الله لأنها من اعتقادِه، فلا بد من إيمانِه بجميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم([13]).
فاتضح بما سبق أن كلمة الشهادتين وإقامة الصلاة .. إلخ إنما يفيد من التزم: بمقتضى ذلك ولم يأتِ بما يناقضه، وأما من لم يلتزم بذلك وأتى بالنواقض فلا يمنعه.
([3]) انظر في حكاية الإجماع على ذلك الشفا لعياض: (2/1072)، وما بعدها ويراجع الروضة للنووي: (10/71)، وجلاء العينين: (446).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.