بدعة مسح الوجه بعد الفراغ من الدعاء
شاعَ عند كثير من الناس أنهم إذا رفعوا أيديهم في الدعاء وفرغوا منه مسحوا بها وجوههم استنادًا إلى ما رُوي في بعض الأحاديث، وقد بيَّن أئمة الحديث أن الأحاديث المروية في ذلك ضعيفة لا تقوم بها حجة، وأن الأمر بمسح الوجه بعد الدعاء زيادة منكرة، بل صرَّح بعض العلماء بأنه عمل مبتدع.
ولعلماء الشافعية المحققين - رحمهم الله - جهود طيبة في بيان ضعف تلك الروايات، وعدم استحباب مسح الوجه بعد الفراغ من الدعاء، ومن هولاء الأعلام: الإمام الحافظ البيهقي - رحمه الله - حيث قال: (فأما مسحُ اليدين بالوجهِ عندَ الفراغِ من الدعاءِ، فلستُ أحفظُه عن أحدِ السلفِ في دعاءِ القنوت، وإن كان يُروى عن بعضِهم في الدعاءِ خارج الصلاة، وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثٌ فيه ضعف، وهو مستعملٌ عند بعضِهم خارج الصلاةِ، فأما في الصلاةِ فهو عملٌ لم يثبتْ بخبرٍ صحيحٍ، ولا أثرٍ ثابتٍ ولا قياسٍ، فالأولى أن لا يفعله، ويقتصر على ما فعله السلفُ - رحمهم الله -، من رفع اليدين دون مسحهما بالوجهِ في الصلاةِ، وبالله التوفيق)([1]).
ثم رُوي بإسناده حديثًا من سنن أبي داود عن محمد بن كعب القرظي، عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((سلوا اللهَ ببطونِ أكفكُم ولا تسألوه بظهورِها، فإذا فرغتم فامسحُوا بها وجوهَكم))([2])، قال أبو داود: (رُوي هذا الحديث من غيرِ وجهٍ عن محمد بن كعب، كلُّها واهيةٌ، وهذا الطريق أمثلُها، وهو ضعيفٌ أيضًا)([3]).
ثم روى الحافظُ البيهقي عن علي الباشاني قال: (سألتُ عبدَ الله - يعني ابن المبارك - عن الذي إذا دعا مسحَ وجهَه؟ قال: لم أجدْ له ثبتًا، قال علي: ولم أَرَه يفعلُ ذلك، قال: وكان عبدُ اللهِ يقنتُ بعد الركوعِ في الوترِ، وكان يرفعُ يديه)([4])، هذا آخر كلام الحافظ البيهقي - رحمه الله - في كتابه "السنن الكبرى"([5]).
ومن هؤلاء الأعلام: الإمام النووي - رحمه الله - فقال: (وأما مسحُ الوجهِ باليدين بعد الفراغِ مِنَ الدعاءِ، فإنْ قُلْنَا لا يرفعُ اليدين لم يشرعْ المسح بلا خلاف، وإن قُلنا: يرفع، فوجهان؛ أشهرهما: أنه يُستحب، والثاني: لا يمسح، وهذا هو الصحيح([6]) ...).
ثم نقل كلامَ البيهقي السابق، ثم قال: (وأما حديثُ عمرَ رضي الله عنه: (أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: كان إذا رفعَ يديه في الدعاءِ لم يحطهما حتى يمسحَ بها وجهَه)، رواه الترمذي وقال: (حديثٌ غريبٌ انفردَ به حماد بن عيسى، وحمادُ هذا ضعيفٌ)([7])، وذكر الشيخُ عبد الحق هذا الحديث في كتابه "الأحكام الوسطى"، وقال الترمذي: (وهو حديثٌ صحيحٌ)، وغلط في قوله أن الترمذي قال: هو حديث صحيح، وإنما قال: غريب([8])، والحاصل: لأصحابِنا ثلاثةُ أوجهٍ؛ الصحيح: يُستحب رفع يديه دونَ مسحِ الوجهِ ...)([9]) ثم ذكر الوجهَ الثاني والثالث.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (وأما رفعُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم يديه في الدعاء: فقد جاءَ فيه أحاديثُ كثيرةٌ صحيحةٌ، وأما مسحُه وجهَه بيديه فليس عنه فيه إلا حديثٌ أو حديثان لا يقومُ بهما حجةٌ، والله أعلم)([10]).
([1]) قال الشيخ بكر أبو زيد - رحمه الله - تعليقًا على كلامه هذا: (هو كلامٌ من درى السنن وخبر الأثر)، جزء في مسح الوجه باليدين، ص(75).
([2]) رواه أبو داود، كتاب الصلاة، باب الدعاء، (1485)، قال البيهقي: (ورُوي ذلك من أوجهٍ أُخَر، كلها أضعف مِنْ رِوايةِ مَنْ رَوَاها عن ابن عباس، وكان أحمد بن حنبل ينكرها)، رسالة البيهقي إلى الجويني، ص(66) وانظر: الإنصاف، ابن الأنباري، (2/172-173).
([3]) سنن أبي داود (2/164) إثر الحديث السابق، وانظر: رسالة البيهقي السابقة، ص(65)، والبدر المنير، ابن الملقن، (3/639).
([6]) هذا المصطلح عند الشافعية (يدل على كونِ الخلاف وجهًا لأصحاب الشافعي متخرجٌ من كلامِ الإمام، وأن الخلافَ غيرُ قوي لعدمِ قوةِ دليلِ المقابلِ، وأن المقابلَ ضعيفٌ وفاسدٌ لا يُعمل به لضعفِ مدركه، وإنما العملُ بالصحيح، قال الرملي: والصحيحُ أقوى من الأصحِّ)، الخزائن السنية من مشاهير الكتب الفقهية لأئمتنا الفقهاء الشافعية، عبد القادر المنديلي الأندونيسي، ص(181).
([7]) رواه الترمذي، كتاب الدعوات، باب ما جاء في رفع الأيدي عند الدعاء، (3886)، والحاكم في المستدرك، (1967).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.