بدعة تكلف السجع في الدعاء

بدعة تكلف السجع في الدعاء





الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ السجع: هو موالاة الكلام على روي واحد([1])، وقد تقدَّم أن من آداب الدعاء عدم تكلف السجع فيه، فإن حقيقة الدعاء إظهار غاية التذلل والافتقار إلى الله، والاستكانة له، والتكلفُ ينافي ذلك ولا يناسبه([2])، قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55]، أي: في الدعاء ولا في غيره([3])، وذكر بعضُ العلماء أن من معاني الاعتداء في الدعاء: تكلف السجعَ فيه([4]).

لذا لم يكن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولا من طريقة السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان من أئمة الدين، تكلف السجع في الدعاء وتكلف صنعة الكلام له، بل كانوا يدعون الله (بلسانِ الذلة والافتقارِ لا بلسانِ الفصاحةِ والانطلاق)([5]).

قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في وصيته لمولاه عكرمة - رحمه الله - قال: (... فانظر السجعَ من الدعاءِ فاجتنبه، فإني عهدتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأصحابَه لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب)([6])، قال الحافظ ابن حجر في شرحه: (قوله: (فانظر السجعَ في الدعاءِ فاجتنبه)؛ أي: لا تقصد إليه، ولا تشغلْ فكرَك به؛ لما فيه من التكلفِ المانعِ للخشوعِ المطلوبِ في الدعاءِ، وقوله: (لا يفعلون إلا ذلك)؛ أي ترك السجع ...)، وذكر رحمه الله أنه (وقعَ في روايةٍ أخرى (لا يفعلون ذلك) بإسقاط "إلا" وهو واضح)([7]).

وروى ابنُ وهب في كتابِه عن التابعي الجليل عروة بن الزبير - أحد الفقهاء السبعة المشهورين - أنه كان إذا عُرِضَ عليه دعاء فيه سجع عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه؛ قال: (كذبوا، لم يكنْ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه سجاعين)([8]).

وبهذا يظهر أن تكلف السجع في الدعاء أمر مكروه، مخالف للسنة ومنهج سلف الأمة؛ ولهذا حذَّر أهلُ العلم من هذه الطريقة في الدعاء، ونهوا عن ذلك، بل هذا الأمر قد حدا ببعض أهل العلم على تأليف كتاب جامع للأذكار المشروعة.

كما حصل ذلك للإمام أبي القاسم الطبراني - رحمه الله -، حيث قال في مقدمة كتابه "الدعاء": (هذا كتابٌ ألفتُه جامعًا لأدعيةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، حداني على ذلك أني رأيتُ كثيرًا من الناسِ قد تمسكوا بأدعيةِ سجعٍ، وأدعيةٍ وُضِعَت على عددِ الأيام، مما ألَّفها الوراقون لا تُروى عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحدٍ من أصحابِه، ولا عن أحدٍ من التابعين بإحسان، مع ما رُوي عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم من الكراهيةِ للسجعِ في الدعاءِ والتعدي فيه، فألَّفْتُ هذا الكتاب بالأسانيد المأثورةِ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ...)([9]).

وقد نصَّ أئمةُ الشافعية على كراهية تكلف السجع في الدعاء وأن ذلك بدعة محدثة، وهاك بعض أقوالهم:

قال الحافظ السيوطي - رحمه الله - في ذكر بعض المحدثات: (ومن ذلك: السجع في الدعاء)([10])، وقال الإمام الخطابي: (ويُكره في الدعاء السجع، وتكلف صنعة الكلام له)([11]).

وقال أبو حامد الغزالي في معرض كلامه عن آداب الدعاء، فذكر منها: (أن لا يتكلف السجعَ في الدعاءِ، فإن حالَ الداعي ينبغي أن يكونَ حالَ متضرعٍ، والتكلفُ لا يناسبه ... والأولى أن لا يجاوزَ الدعوات المأثورة، فإنه قد يعتدي في دعائِه فيسأل ما لا يقتضيه مصلحته، فما كلُّ أحدٍ يُحْسِنُ الدعاء ...)، قال: (ومرَّ بعضُ السلفِ بقاصٍّ يدعو بسجعٍ فقال له: أَعَلى اللهِ تبالغُ؟! ... وقال بعضُهم: ادعُ بلسانِ الذلةِ والافتقارِ، ولا بلسانِ الفصاحةِ والانطلاقِ ... فليقتصر على المأثورِ من الدعوات، أو ليلتمس بلسانِ التضرعِ والخشوعِ من غيرِ سجعٍ وتكلف، فالتضرع هو المحبوب عند اللهِ U)([12]).

وقال الإمام النووي - رحمه الله -: (ولا يتكلف السجع في الدعاءِ؛ فإنه يشغلُ القلبَ، ويُذهب الانكسارِ والخضوعَ والافتقارَ، والمسكنةَ والذلةَ والخشوعَ، ولا بأس بأن يدعو بدعواتٍ محفوظةٍ معه له أو غيره مسجوعة إذا لم يشتغلْ بتكلفِ ترتيبِها ومراعاة إعرابِها)([13]).

قلتُ: النهي عن السجع في الدعاء لا يعارض ما وَرَدَ في بعض الأحاديث الصحيحة من الأدعية المسجوعة؛ لأن الممنوع والمنهي عنه هو التكلف في ذلك، وأما ما كان يصدر من غير تكلف وغير قصد إليه فلا حرج في ذلك، كما بيَّن ذلك أهلُ العلم.

قال الغزالي - رحمه الله -: (واعلم أن المرادَ بالسجع: هو المتكلف من الكلامِ، فإن ذلك لا يلائمُ الضراعةَ والذلةَ، وإلا ففي الأدعية المأثورة عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كلماتٌ متوازنةٌ لكنها غير متكلفة)([14]).

وقال ابن حجر الهيتمي: (وأما الذكرُ المسجعُ فإن وقعَ السجعُ فيه عن تكلفٍ كان مكروهًا، لأنه ينافي الخشوعَ، وإن وقعَ لا عن تكلفٍ فلا بأسَ به؛ أخذًا مما ذكروه من هذا التفصيل في الدعاءِ)([15]).

قلتُ: ومن أمثلة الدعاء المسجع غير المتكلف دعاؤه صلى الله عليه وسلم: ((اللهمَّ آتِ نفسي تقواها، وزكِّها أنت خيرُ من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهمَّ إني أعوذُ بك من علمٍ لا ينفع، ومن قلبٍ لا يخشع، ومن نفسٍ لا تشبع))([16]).

قال الإمام النووي في شرحه: (هذا الحديثُ وغيرُه من الأدعيةِ المسجوعةِ دليلٌ لما قاله العلماءُ أن السجعَ المذمومَ في الدعاءِ هو المتكلف، فإنه يُذْهِبُ الخشوعَ والخضوعَ والإخلاصَ، ويلهي عن الضراعةِ والافتقارِ وفراغِ القلب، فأما ما حصلَ بلا تكلفٍ ولا إعمالِ فكرٍ لكمالِ الفصاحةِ ونحو ذلك أو كان محفوظًا فلا بأس به، بل هو حسن)([17]).

 

الهوامش

([1]) فتح الباري، ابن حجر، (11/139).

([2]) انظر: المصدر السابق، (11/98)، والإحياء، الغزالي، (1/401).

([3]) تفسير ابن كثير، (2/212).

([4]) انظر: الإحياء، الغزالي، (1/401)، وتفسير القرطبي، (7/227)، وانظر: تصحيح الدعاء، بكر أبو زيد، ص(69).

([5]) انظر: الإحياء، الغزالي، (1/401).

([6]) رواه البخاري، كتاب الدعوات، باب ما يكره من السجع في الدعاء، مع الفتح (11/138).

([7]) فتح الباري، ابن حجر، (11/139) بتصرف.

([8]) أورده الطرطوشي في: البدع والحوادث، ص(157)، وانظر: تصحيح الدعاء، بكر أبو زيد، ص(70).

([9]) مقدمة كتاب الدعاء، الطبراني.

([10]) الأمر بالاتباع، السيوطي، ص(288).

([11]) شأن الدعاء، الخطابي، ص(15).

([12]) الإحياء، الغزالي، (1/401) باختصار.

([13]) الأذكار، النووي، ص(328)، وانظر: المجموع، له، (8/135-156).

([14]) الإحياء، الغزالي، (1/401).

([15]) الفتاوى الحديثية، ابن حجر الهيتمي، ص(113).

([16]) رواه مسلم، كتاب الذكر والدعاء، (2722).

([17]) شرح صحيح مسلم، النووي، (17/41).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
بدعة تكلف السجع في الدعاء.doc doc
بدعة تكلف السجع في الدعاء.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى