الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: يروي الصوفية في كتبهم حديثاً يفيد بأن الله سبحانه وتعالى، أحيا أبوي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، فآمنا به ثم ماتا. وهذا الحديث ما نظن بمن أورده إلا أنه سيق بدافع الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جعلنا منهجنا في بحثنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حدث عني بحديث يُرى أنه كذب، فهو أحد الكاذبين))[1]، وقوله ((كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع))[2] وقول ربنا عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31].
ولكن الصوفية وللأسف لم يستطيعوا أن يثبتوا هذا الحديث وفق ما اصطلح عليه علماء الحديث، فأخذ بعضهم يدعم صحة الحديث بإنشاده الشعر فقال:
فأحيا أمَّهُ، وكذا أباه لإيمانٍ به فضْلاً لطيفا
فصدِّق، فالإله بذا قدير وإنْ كان الحديث به ضعيفا
وقال:
أيقنت أن أبا الرسول وأمـه أحياهما الرب القدير الباري
حتى له شهدا بصدق رسالـة صدق فتلـك كرامة المخـتار
هذا الحديث ومن يقول بضعفه فهو الضعيف عن الحقيقة عاري
فرد عليه أحد الظرفاء:
يا جاهلا أعمى التعصب قلبه أترد وحـي الله بالأشعـار
إن قال أهل الحق: أخرج مسلم فلمن ستسند منكر الأخبار؟
الدين ليس تبدعـاً وتنطعـاً بل اتباع سنة المختــار
وأخذ بعض الصوفية يدعم هذا الحديث بقواعد باطلة تهدم الدين والسنة، فقال البيجوري صاحب الحاشية على جوهرة التوحيد: ((ولعل هذا الحديث ـ حديث إحياء والدي النبي صلى الله عليه وسلم وإيمانهما ثم موتهما ـ صح عند أهل الحقيقة بطريق الكشف))[3].
وحديث إحياء أبوي المصطفى صلى الله عليه وسلم نص العلماء على أنه باطل مكذوب.
قال الحافظ أبو الفضل بن ناصر "رحمه الله": ((هذا حديث موضوع))[4].
وقال ابن دحية "رحمه الله" عن هذا الحديث: موضوع يرُدُّه القرآن العظيم والإجماع[5].
وقال الحافظ ابن كثير "رحمه الله": ((وأما الحديث الذي ذكره السهيلي وذكر أن في إسناده مجهولين إلى ابن أبي الزناد عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل ربه أن يحيى أبويه، فأحياهما وآمنا به، فإنه حديث منكر جداً.
وإن كان ممكناً بالنظر إلى قدرة الله تعالى. لكن الذي ثبت في الصحيح يعارضه))[6].
وقال الإمام ابن الجوزي "رحمه الله": ((هذا حديث موضوع بلا شك، والذي وضعه قليل الفهم، عديم العلم ؛ إذ لو كان له علم لعلم أن من مات كافراً لا ينفعه أن يؤمن بعد الرجعة ))[7].
قلت: ومما يبين كذب هذا الحديث مخالفته للأحاديث الصحيحة التالية:
روى مسلم في صحيحه[8] عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: زار النبيُّ صلى الله عليه وسلم قبرَ أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال: ((استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت)) ورواه أبو داود [3234]، والنسائي [2033] وعنون عليه: باب زيارة قبر المشرك. وابن ماجه [1572] وعنون عليه: باب ما جاء في زيارة قبور المشركين.
وقال الإمام النووي رحمه الله في شرح مسلم[9]: فيه ـ أي من فقه الحديث ـ جواز زيارة المشركين في الحياة وقبورهم بعد الوفاة لأنه إذا جازت زيارتهم بعد الوفاة ففي الحياة أولى وقد قال الله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}. وفيه النهى عن الاستغفار للكفار. اهـ
وروى مسلم أيضاً في صحيحه [203ـ1ـ191] وعنون عليه النووي ـ الذي وضع عناوين صحيح مسلم ـ باب بيان أن من مات على الكفر فهو في النار ولا تناله شفاعة ولا تنفعه قرابة المقربين.
عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله أين أبي؟ قال: ((في النار)) فلما قفا دعاه فقال: ((إن أبي وأباك في النار)).
قال الإمام النووي رحمه الله في شرح مسلم [3ـ74]: فيه أن من مات على الكفر فهو في النار ولا تنفعه قرابة المقربين.
وفيه أن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فهو من أهل النار وليس هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة فإن هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم. اهـ
وروى مسلم أيضاً في صحيحه [517ـ 1ـ 82] وعنون عليه الإمام النووي: الدليل على أن من مات على الكفر لا ينفعه عمل.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله ابن جدعان، كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين، فهل ذلك نافعه.؟ قال: ((لا ينفعه إنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين)).
قال الإمام النووي رحمه الله في شرح الحديث: ((ومعنى هذا الحديث أن ما كان يفعله من الصلة والإطعام، ووجوه المكارم لا ينفعه في الآخرة، لكونه كافراً)).اهـ
وفي الصحيحين: ((لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أمية بن المغيرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طالب: يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله. فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب.؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعودان بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله)).
فقول أبي جهل وعبد الله بن أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب.؟ وقول أبي طالب: هو على ملة عبد المطلب. صريح في أن ملة عبد المطلب كانت نقيض الإيمان.
وقال الإمام البيهقي "رحمه الله": ((وكيف لا يكون أبواه وجده عليه الصلاة والسلام بهذه الصفة في الآخرة وقد كانوا يعبدون الوثن، حتى ماتوا ولم يدينوا دين عيسى بن مريم عليه السلام، وكفرهم لا يقدح في نسبه عليه الصلاة والسلام لان أنكحة الكفار صحيحة، ألا تراهم يسلمون مع زوجاتهم فلا يلزمهم تجديد العقد ولا مفارقتهن إذا كان مثله يجوز في الإسلام، وبالله التوفيق ))[10]. اهـ
وقال الإمام البيهقي أيضاً: ((وأبواه كانا مشركين بدليل ..... ثم روى حديث إن أبي وأباك في النار ..... وحديث استأذنت ربي أن أستغفر لأمي)). اهـ[11]
وكذلك فعل الإمام ابن الجوزي "رحمه الله" عندما رد حديث إحياء والدي النبي صلى الله عليه وسلم، استشهد بحديث استأذنت ربي أن أستغفر لأمي على كونها غير مؤمنة[12].
وقال الحافظ ابن كثير "رحمه الله": ((وإخباره صلى الله عليه وسلم عن أبويه وجده عبد المطلب بأنهم من أهل النار لا ينافي الحديث الوارد عنه من طرق متعددة أن أهل الفترة والأطفال والمجانين والصم يمتحنون في العرصات يوم القيامة، كما بسطناه سنداً ومتناً في تفسيرنا عند قوله تعالى {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} فيكون منهم من يجيب ومنهم من لا يجيب. فيكون هؤلاء من جملة من لا يجيب فلا منافاة. ولله الحمد والمنة)) اهـ.[13]
وقال الأمير الصنعاني اليماني "رحمه الله" في جواب له عن أبوي الرسول عليه الصلاة والسلام: ((وأمَّا الخوض في إسلام أبويه فخوض باطل، خارج عن الدلائل، لا يشتغل به عاقل، فضلا عن فاضل))
ونقل الملا علي القاري في رسالته " أدلة معتقد أبي حنيفة في أبوي الرسول عليه الصلاة والسلام" عن الإمام أبي حنيفة قوله: ((ووالدا رسول الله ماتا على الكفر)).
ثم قال القاري: هذا رد على من قال بأن والدي رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإيمان.
وقال الإمام ابن الجوزي: ((ولا يختلف المسلمون أن عبد المطلب مات كافراً، وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ثمان سنين.
وأما عبد الله فإنه مات ورسول الله صلى الله عليه وسلم حمل ولا خلاف أنه مات كافراً، وكذلك آمنة ماتت ولرسول الله صلى الله عليه وسلم ست سنين))[14].
قلت: بقي أن تعلموا إخواني أن من يقول بحياة والدي النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاتهما قد خرق قول من قدمنا من العلماء، وقد نقل في هذا إجماعاً، قال الإمام القرافي الأصولي المالكي "رحمه الله": ((حكاية الخلاف في أنه عليه الصلاة والسلام كان مُتَعَبَداً قبل نبوته بشرع من قبله يجب أن يكون مخصوصاً بالفروع دون الأصول، فإن قواعد العقائد كان الناس في الجاهلية مكلفين بها إجماعاً، ولذلك انعقد الإجماع على أن موتاهم في النار يعذبون على كفرهم، ولولا التكليف لما عذبوا، فهو عليه الصلاة والسلام متَعَبَدٌ بشرع من قبله -بفتح الباء - بمعنى مكلف لا مرية فيه، إنما الخلاف في الفروع خاصة، فعموم إطلاق العلماء مخصوص بالإجماع)).اه[15]ـ
وكذلك من يقول بحياة والدي النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاتهما قد خرق أيضاً أربعة علوم شرعية:
أولها ـ علم مصطلح الحديث، حيث قدم الحديث الضعيف ـ في أحسن أحواله ـ على أحاديث الصحيح الذي تلقتها الأمة بالقبول.
ثانيها ـ علم أصول الفقه، حيث من بدهيات قواعده، حمل النص على ظاهره، بقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن أبي وأباك في النار)).
ثالثها ـ علم البلاغة والبيان، حيث لا يحمل النص من الحقيقة إلى المجاز إلا بوجود القرينة، وقد قال الصوفية: إن المقصود في قوله ((إن أبي وأباك في النار)) أبا لهب.
رابعها ـ علم العقيدة، حيث من بديهيات علم العقيدة أن لا توبة بعد الغرغرة، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عز وجل ليقبل توبة العبد ما لم يغرغر)) رواه الترمذي وغيره. وأن لا رجعة بعد الموت، لقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ. لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}.[المؤمنون:100]
ورحمَ الله السيّد الجليل الإمام الحسن المثنى بن الحسن بن علي رضي الله عنهما القائل: ((أحبُّونا، فإنْ عَصَيْنا الله فأبْغِضُونا، فلو كان الله نافعاً أحداً بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلّم بغير طاعةٍ لنفعَ أباه وأُمَّه)) كما في ترجمته في سير أعلام النبلاء للذهبي.
فانظروا كيف يُذهب بالنصوص والأحاديث الصحيحة، وكيف يُطعن بفهم العلماء المنضبطين بالنصوص، جَرّاء الانسياق وراء العاطفة، والله المستعان.
الهوامش:
[1] [مسلم، 8/1].
[2] [مسلم، 692/2].
[3] [الجوهرة: 30].
[4] [الموضوعات: 1 ـ 284]
[5] [الأسرار المرفوعة للقاري: 108].
[6] البداية والنهاية لابن كثير [1ـ239]
[7] [الموضوعات:1ـ284]
[8] [976ـ2ـ671]
[9] شرح مسلم [7ـ48]
[10] دلائل النبوة للبيهقي [1ـ192]
[11] السنن الكبرى للبيهقي [7ـ190].
[12] [الموضوعات:1ـ284]
[13] البداية والنهاية لابن كثير [1ـ239]
[14] [الموضوعات: 1 ـ 283]
[15] شرح تنقيح الفصول صفحة [297].
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.