إن الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛...
إن الشّكر كالحمد في أنّهما وصف باللّسان بإزاء النّعمة، إلّا أنّ الحمد يكون باللّسان وبالقلب، بخلاف الشّكر فإنّه يقع بالجوارح. والنّعمة مقيّدة في الشّكر بوصولها إلى الشّاكر بخلافها في الحمد.
ويختصّ الشّكر بالله تعالى، بخلاف الحمد[1].
وتكلم الناس في الفرق بين الحمد والشكر أيهما أعلى وأفضل؟ وفي الحديث «الحمد رأس الشكر، فمن لم يحمد الله لم يشكره»[2].
والفرق بينهما: أن الشكر أعم من جهة أنواعه وأسبابه، وأخص من جهة متعلقاته. والحمد أعم من جهة المتعلقات، وأخص من جهة الأسباب.
ومعنى هذا: أن الشكر يكون بالقلب خضوعا واستكانة، وباللسان ثناء واعترافا، وبالجوارح طاعة وانقيادا. ومتعلقه: النعم، دون الأوصاف الذاتية، فلا يقال: شكرنا الله على حياته وسمعه وبصره وعلمه. وهو المحمود عليها. كما هو محمود على إحسانه وعدله، والشكر يكون على الإحسان والنعم.
فكل ما يتعلق به الشكر يتعلق به الحمد من غير عكس وكل ما يقع به الحمد يقع به الشكر من غير عكس. فإن الشكر يقع بالجوارح. والحمد يقع بالقلب واللسان.[3]
فالحمد والشكر يجتمعان في أن كلا منهما ثناء على الله سبحانه وتعالى ناشيء عن محبته والخضوع له والانقياد لأمره، كما أن كلا منهما مأمور به، مرغوب إليه.
ولكنهما يفترقان من وجهين:
الأول: أن الحمد ثناء على الله باللسان والقلب، والشكر يكون باللسان والقلب والجوارح.
الثاني: أن الحمد ثناء في مقابل النعم وغيرها من الصفات الحسنة، بينما الشكر لا يكون إلا في مقابل النعم.
فبين الحمد والشكر علاقة عموم وخصوص من وجه، فالحمد أعم من حيث السبب الموجب له وهو النعم والصفات الحسنة، وأخص من حيث الأداء وهو اللسان والقلب.
والشكر أخص من حيث الموجب له وهو النعمة فقط، وأعم من حيث الأداة وهي بالقلب واللسان والجوارح[4].
معنى اسم الله (الشكور):
قال الغزاليّ: الشّكور (في أسماء الله تعالى) هو الّذي يجازي بيسير الطّاعات كثير الدّرجات، ويعطي بالعمل في أيّام معدودة نعيما في الآخرة غير محدود، ومن جازى الحسنة بأضعافها يقال إنّه شكر تلك الحسنة، ومن أثنى على المحسن أيضا يقال: إنّه شكر، فإن نظرت إلى معنى الزّيادة في المجازاة لم يكن الشّكور المطلق إلّا الله- عزّ وجلّ- لأنّ زياداته في المجازاة غير محصورة ولا محدودة، ذلك أنّ نعيم الجنّة لا آخر له، والله سبحانه وتعالى يقول:
{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ} (الحاقة/ 24) . وإن نظرنا إلى معنى الثّناء فإنّ ثناء كلّ مثن يكون على فعل غيره، والرّبّ- عزّ وجلّ- إذا أثنى على أعمال عباده فقد أثنى على فعل نفسه، لأنّ أعمالهم من خلقه، فإن كان الّذي أعطى فأثنى شكورا، فالّذي أعطى وأثنى على المعطي أحقّ بأن يكون شكورا، ومن ثنائه عزّ وجلّ على عباده قوله سبحانه {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ} (الأحزاب/ 35) ، وقوله- جلّ من قائل: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (ص/ 30) ، كلّ ذلك وما يجري مجراه عطيّة منه سبحانه[5].
وقال ابن منظور- رحمه الله تعالى-: والشّكور من صفات الله- جلّ اسمه- معناه: أنّه يزكو عنده القليل من أعمال العباد، فيضاعف لهم الجزاء، وشكره لعباده: مغفرته لهم وإنعامه على عباده وجزاؤه بما أقامه من العبادة.
وقال ابن سعديّ: وأمّا الشّكور من عباد الله فهو الّذي يجتهد في شكر ربّه بطاعته وأدائه ما وظّف عليه من عبادته.
ومن أسماء الله الحسنى الشّكور، وهو الّذي يشكر القليل من العمل الخالص النّقيّ النّافع، ويعفو عن الكثير من الزّلل، ولا يضيع أجر من أحسن عملا، بل يضاعفه أضعافا مضاعفة بغير عدّ ولا حساب.
ومن شكره أنّه يجزي بالحسنة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة. وقد يجزي الله العبد على العمل بأنواع من الثّواب العاجل قبل الآجل، وليس عليه حقّ واجب بمقتضى أعمال العباد، وإنّما هو الّذي أوجب الحقّ على نفسه كرما منه وجودا، والله لا يضيع أجر العاملين إذا أحسنوا في أعمالهم وأخلصوها لله تعالى[6].[7]
تعريف ابن القيم للشكر:
الشكر: اسم لمعرفة النعمة. لأنها السبيل إلى معرفة المنعم. ولهذا سمى الله تعالى الإسلام والإيمان في القرآن: شكرا.
فمعرفة النعمة: ركن من أركان الشكر. لا أنها جملة الشكر، كما تقدم: أنه الاعتراف بها، والثناء عليه بها، والخضوع له ومحبته، والعمل بما يرضيه فيها. لكن لما كان معرفتها ركن الشكر الأعظم، الذي يستحيل وجود الشكر بدونه: جعل أحدهما اسما للآخر.
قوله: لأنه السبيل إلى معرفة المنعم.
يعني أنه إذا عرف النعمة توصل بمعرفتها إلى معرفة المنعم بها.
وهذا من جهة معرفة كونها نعمة، لا من أي جهة عرفها بها. ومتى عرف المنعم أحبه. وجد في طلبه. فإن من عرف الله أحبه لا محالة. ومن عرف الدنيا أبغضها لا محالة.
وعلى هذا: يكون قوله: الشكر اسم لمعرفة النعمة. مستلزما لمعرفة المنعم. ومعرفته تستلزم محبته. ومحبته تستلزم شكره.
فيكون قد ذكر بعض أقسام الشكر باللفظ. ونبه على سائرها باللزوم. وهذا من أحسن اختصاره. وكمال معرفته وتصوره، قدس الله روحه.
قال: ومعاني الشكر ثلاثة أشياء: معرفة النعمة. ثم قبول النعمة. ثم الثناء بها. وهو أيضا من سبل العامة.
أما معرفتها: فهو إحضارها في الذهن، ومشاهدتها وتمييزها.
فمعرفتها: تحصيلها ذهنا، كما حصلت له خارجا. إذ كثير من الناس تحسن إليه وهو لا يدري. فلا يصح من هذا الشكر.
قوله: ثم قبول النعمة.
قبولها: هو تلقيها من المنعم بإظهار الفقر والفاقة إليها. وأن وصولها إليه بغير استحقاق منه، ولا بذل ثمن. بل يرى نفسه فيها كالطفيلي. فإن هذا شاهد بقبولها حقيقة.
قوله: ثم الثناء بها.
الثناء على المنعم، المتعلق بالنعمة نوعان: عام، وخاص. فالعام: وصفه بالجود والكرم، والبر والإحسان، وسعة العطاء، ونحو ذلك.
والخاص: التحدث بنعمته، والإخبار بوصولها إليه من جهته. كما قال تعالى {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11] .
وفي هذا التحديث المأمور به قولان.
أحدهما: أنه ذكر النعمة، والإخبار بها. وقوله: أنعم الله علي بكذا وكذا. قال مقاتل: يعني اشكر ما ذكر من النعم عليك في هذه السورة: من جبر اليتم، والهدى بعد الضلال، والإغناء بعد العيلة.
والتحدث بنعمة الله شكر. كما في حديث جابر مرفوعا «من صنع إليه معروف فليجز به. فإن لم يجد ما يجزي به فليثن. فإنه إذا أثنى عليه فقد شكره. وإن كتمه فقد كفره، ومن تحلى بما لم يعط كان كلابس ثوبي زور» [8].
الهوامش:
[1] الكليات للكفوي (535) .
[2] مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، 4/1599.
[3] مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعينن، 2/237.
[4] انظر: مجموع الفتاوى ص 11/133- 134.
[5] المقصد الأسنى (105- 106) .
[6] شرح الشافية الكافية، شرح عبد الرحمن بن ناصر السعدي (125، 126) .
[7] نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم، ص6/2393
[8] مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، ص2/241، رواه الترمذي (1958) والنسائي في "السنن الكبرى" (6/53) وصححه الألباني في صحيح الترمذي.
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.