الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. وبعد
الأدلة في القرآن والسنة:
وردت هذه الأسماء المباركة في قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3].
وفي السنة من حديث النبي صلى الله عليه وسلم:" اللهم رب السموات ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شر كل شيئ أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين وأغننا من الفقر"[1].
المعنى في حق الله تعالى:
مما تدل عليه هذه الأسماء العظيمة:
1-إن معاني هذه الأسماء المباركة ورد على لسان الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق ذكره حث ورد معنى الأول: الذي ليس قبله شيء، أي قبل كل شيء بغير حد[2]، وهو الأول بلا بداية[3]، ولا شيء قبله ولا معه[4].
وسبق في الحديث أن معنى الآخر: الذي ليس بعده شيئ، أي بعد كل شيئ بغير نهاية[5]، فهو الباقي بعد فناء خلقه لا انتهاء له ولا انقضاء[6].
ومعنى الظاهر في الحديث الأسبق أيضا: الذي ليس فوقه شيء، أي العالي فوق كل شيء، فلا شيء أعلى منه[7].
2-أن هذه الأسماء الأربعة وهي الأول، والآخر، والظاهر، والباطن، هي أركان العلم والمعرفة، فحقيق بالعبد أن يبلغ في معرفتها إلى حيث ينتهي به قواه وفهمه[8].
3-أن أولية الله عز وجل سابقة على أولية كل ما سواه، وآخريته ثابتة بعد آخرية كل ما سواه، فأوليته سبقت كل شيء، وآخريته بقاؤه بعد كل شيء، وظاهريته سبحانه فوقيته وعلوه على كل شيء، ومعنى الظهور يقتضي العلو، وظاهر الشيء هو ما علا منه وأحاط بباطنه، وبطونه سبحانه إحاطته بكل شيء بحيث يكون أقرب إليه من نفسه.
4-أن مدار هذه الأسماء الأربعة على الإحاطة الزمانية والمكانية، فإحاطت أوليته، وآخريته بالقبل والبعد، فكل سابق انتهى إلى أوليته وكل آخر انتهى إلى آخريته، فإحاطت أوليت وآخريته بالأوائل والأواخر، وإحاطت ظاهريته بواطنيته بكل ظاهر وباطن، فما من ظاهر إلا والله فوقه وأظهر منه، وما من باطن إلا والله دونه، وما من أول إلا والله قبله وإليه منتهاه، وما من آخر إلا والله بعده وإليه منتهاه، فالأول: قدمه، والآخر: دوامه وبقاؤه، والظاهر: علوه وعظمته، والباطن: قربه ودنوه، فسب كل شيء بأوليته، وبقي بعد كل شيء بآخريته، وعلا على كل شيء بظهوره، ودنا من ككل شيء ببطونه، فلا تواري منه سماء سماء ولا أرض أرضا، ولا يحجب عنه ظاهر باطنا، بل الباطن له ظاهر، والغيب عنده شهادة، والبعيد منه قريب، والسر عنده علانية.
5- أن هذه الأسماء الأربعة تشتمل على أركان التوحيد، فهذا الأول في آخريته، والآخر في أوليته، والظاهر في بطونه، والباطن في ظهوره، لم يزل أولا وآخرا وظاهرا وباطنا[9].
6-أن هذه الأسماء المباركة جاءت معطوفة على بعضها، لأن العطف هنا جاء رفعا لاستبعاد من يستبعد اجتماع هذه الصفات فيه، فقوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ } [الحديد: 3].
إنما عطفه لأنها أسماء تضاد المعاني في أصل الوضع، فرفع الوهم بالعطف عن من يستبعد ذلك في ذات واحدة، فإن الشيء الواحد لا يكون باطنا ظاهرا من وجه واحد، فكان العطف هاهنا أحسن[10]
7-أن التعبد باسمه الأول يقتضي التجرد من مطالعة الأسباب لذاتها، والوقوف عليها والإلتفات إليها، وتجريد النظر إلى مجرد سبق فضله ورحمته، وأنه هو المبتدئ بالإحسان من غير وسيلة من العبد، إذ لا وسيلة له في العدم قبل وجوده، وأي وسيلة كانت هناك وإنما هو عدم محض، وقد أتى عليه حينا من الدهر لم يكن شيئا مذكورا، فمنه سبحانه الإعداد ومنه الإمداد وفضله سابق على الوسائل، والوسائل من مجرد فضله لم تكن بوسائل أخرى، فمن نزل اسمه الأول على هذا المعنى أوجب له الله فقرا خاصا وعبودية خاصة.
8-أن التعبد باسمه الآخر يقتضي أيضا عدم ركونه ووثوقه بالأسباب لذاتها والوقوف معها، فإنها تعدم لا محالة وتنقضي بالآخرية، ويبقى الدائم الباقي بعدها، فالتعلق بها تعلق بما يعدم وينقضي، والتعلق بالآخر عز وجل، تعالى بالحي الذي لا يموت ولا يزول، فالمتعلق به حقيق أن لا يزول ولا ينقطع، بخلاف التعلق بغيره مما له آخر يفنى به.
فتأمل عبدوية هذين الاسمين ما يوجبانه من صحة الاضطرار إلى الله وحده، ودوام الفقر إليه دون كل شيء سواه، وأن الأمر ابتدأ منه وإليه يرفع، فهو المبتدئ بالفضل حيث لا سبب ولا وسيلة، وإليه ينتهي الأمر حيث تنتهي الأسباب والوسائل، فهو أول كل شيء وآخره، وكما أنه رب كل شيء وفاعله وخالقه وبارئه.
9-أما التعبد باسمه الظاهرفكما فسره النبي صلى الله عليه وسلم:"وأنت الظاهر فليس فوقك شيء" فإذا تحقق العبد علوه المطلق على كل شيء بذاته، وأنه ليس شيء فوقه البتة، وأنه قاهر فوق عباده، يدبر الأمر من المساء إلى الأرض ثم يعرج إليه: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]. صار لقلبه ربا يعبده، وإلها يتوجه إليه.
10-أما التعبد باسمه الباطن فباب هذه المعرفة هو إحاطة الرب تبارك وتعالى بالعلم وعظمته، وأن العوالم كلها في قبضته، فكما أنه العالي على خلقه بذاته، فليس فوقه شيء، فهو الباطن بذاته فليس دونه شيء، بل ظهر على كل شيء فكان فوقه، وبطن فكان أقرب إلى كل شيء من نفسه، وهو محيط به حيث لا يحيط الشيء بنفسه، وكل شيء في قبضته[11].
المعنى عند المخالفين والمناقشة والرد:
المعنى عند المعتزلة:
الأول والآخر والظاهر والباطن عبر عن معناها رئيس المعتزلة القاضي عبد الجبار بقوله:" كيف يصح هذا الوصف لله مع تضاده؟
وجوابنا أن المراد الأول هو: لأنه لا موجود إلا موجود بعده وهو الآخر لأنه لا موجود إلا ويفنيه فيبقى بعده، وكلاهما في وصف الله تعالى صحيح.
ومعنى قوله الظاهر: أنه المقتدر القهار، من ظهر القوم على الفعل كقوله: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: 14]، ومعنى الباطن: أنه عالم بالسرائر وكل ذلك صحيح في أوصاف الله عز وجل"[12].
ثم يفصل القاضي عبد الجبار في معنى الظاهر والباطن فيقول عن الظاهر:"أنه القاهر المستعلي، لأن من هذا حاله يقال أنه ظاهر، وإنه ظهر على الشيء، كما يقال: ظهر القوم على العدو، وهم ظاهرون عليه"[14].
ويفسر الباطن بأنه:" عالم بالسرائر، وعلى هذا يقال: إن فلانا استبطن فلانا إذا خصه بأحواله"[15].
ويفسر الزمخشري هذه الأسماء فيقول عنها:" الأول هو القديم الذي كان قبل كل شيء، والآخر: الذي يبقى بعد هلاك كل شيء، والظاهر: بالأدلة عليه، والباطن: لكونه غير مدرك بالحواس"[16].
الرد على ذلك:
مما يلاحظ على التفسيرات السابقة لمعاني هذه الأسماء أنها جانبت الصواب، وكانت معانيها على غير الحقيقة المرادة من كلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم حيث اسنبطط القاضي عبد الجبار من فهمه لمعنى"الأول والآخر" تجريد الذات الإلهية عن الصفات والقول بنفيها، وهذا فهم مخالف لما جاء في الكتاب والسنة ونقل عن سلف الأمة، لأنه توهم أن إثبات الصفات يؤدي إلى التركيب في الذات وانتفاء معنى أنه أول وآخر كذلك، فزعم أن معنى الأولية هو ووده بذاته فقط بلا صفات قبل كل شيء من المخلوقات ومعنى الآخرية هو بقاءه بذاته فقط بلا صفات بعد كل شيء من المخلوقات.
ولقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن إثبات الصفات لله عز وجل لا يستلزم تعدد الذوات، بل إن "اتصاف الذات بالصفات اللازمة لها توحيدا في الحقيقة وليس تركيبا ممتنعا"[17].
ثم يفسر القاضي عبد الجبار وكذلك الزمخشري معنى اسم الظاهر بانه الظهور بالأدلة والقهر والاقتدار، وهذا تفسير مخالف لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في معنى هذا الاسم المبارك، حيث فسر النبي صلى الله عليه وسلم معناه بقوله:" الذي ليس فوقه شيء" أي أعلى من كل شيء وليس شيء فوقه، ومن المعلوم أن المعتزلة ينفون علو الذات ولا يقولون به، وقد سبق بيان ذلك.
أما معنى الباطن فيفسرونه بنعنى العلم بالأسرار، ويزيد الزمخشري على هذا المعنى ويقول: غير مدرك بالحواس، فيستنتج من هذا التفسير إنكار رؤية الله في الآخرة، والحجة عليهم قائمة من قول النبي صلى الله عليه وسلم إن معنى الباطن: "الذي ليس دونه شيء" ففسره السلف رضوان الله عليهم بمعنى القرب وأنه ليس شيء أقرب منه، وقد أنكر المعتزلة صفة القرب لله عز وجل، أما تفسير الزمخشري لمعنى الباطن:بنفي رؤية الله في الآخرة، فهذا باطل مردود، والآية ليس فيها دليل على زعمه، لأن رؤية الله عز وجل في الآخرة ثابتة بالأدلة من الكتاب والسنة.
المعنى عند الأشاعرة:
الأول والآخر والظاهر والباطن لها عدة معاني عند الأشاعرة ولعل المتفق عليه عندهم على وجه العموم أن الأول: الذي لا قبل له، والآخر: الذي لا بعد ل، فقبل وبعد نهايتان، فإذا لم يكن له ابتداء ولا انتهاء، لم يكن للوجود قبل ولا بعد، فكان هو الأول والآخر.
أما الظاهر: فهو البادي بأفعاله، وهو جل ثناؤه بهذه الصفة، فلا يمكن معها أن جحد ووده وينكر ثبوته.
والباطن: الذي يحس وإنما يدرك بآثاره وأفعاله[18].
يقول الخطابي:" وقد يكون معنى الظهور والبطون: تجليه لبصائر المتفكرين، واحتجابه عن أبصار الناظرين، وقد يكون معناه العالم بما ظهر من الأمور، والمطلع على ما بطن من الغيوب"[19].
الرد على ذلك:
تبين مما سبق من كلام الأشاعرة عدة أمور وهي: أنهم لم يثبتوا علو الذات لله عز وجل صراحة التي من معاني اسم الظاهر، ولم يثبتوا صفة القرب التي هي من معاني اسم الباطن.
وقولهم :"فقبل وبعد نهايتان" لفظ مجمل قد يراد منه أنه كان بعد أن لم يكن، وأنه ينتهي بعد نهاية خلقه، وهذا مخالف للمنقول والمعقول، فلا يعقل أن يكون ذلك للرب سبحانه فهو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"الأول الذي ليس قبله شيء والآخر ليس بعده شيء" وقد يراد به المعنى الصحيح في الأول والآخر، ولكن التعبير غير دقيق.
أما قول الخطابي:" واحتجابه عن أبصار الناظرين" قد يفهم منه أنه يمكن يراه خلقه في الدنيا ولكنه احتجب عنهم، وهذا غير صحيح، فحجابه النور، ولا يستطيع أحد رؤيته كما ورد في قصة موسى عليه السلام في قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143].
المعنى عند الماتريدية:
يقول الماتريدي في تفسيره لهذا الأسماء عند قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد: 3].
" هو حرف التوحيد: هو الأل بذاته، والآخر بذاته، والباطن بذاته، قال هذا، ليعلم ولا يفهم من أوليته أولية غيره، ولا يفهم من آخريته آخرية غيره، فكذلك لا يفهم من ظاهريته ظاهرية غيره،ولا من باطنيته باطنية غيره، لأن في الشاهد من كان له أولية لا يكون له آخرية، ومن كان له آخرية لا يكون له أولية، وكذلك من كل له ظاهرية لا يكون له باطنية، ومن كان له باطنية لا يكون له ظاهرية، فكل حرف من هذه الحروف مما ينقض الحرف الآخر وينفيه في الشاهد، فإنما ذكر هذه الأحرف لنفسه، ليعلم ألا يفهم من أوليته أولية الأشياء، ولا يفهم من آخريته ما يفهم من آخرية الأشياء، وكذلك ما ذكر من ظاهريته وباطنيته، وقال بعضهم، الأول: الذي لا ابتداء له، والآخر الذي لا انتهاء له، والظاهر: هو الغالب القاهر، الذي لا يغلبه شيء، والباطن: الذي لا تدركه الأوهام"[20].
الرد على ذلك:
1-أما التفسير لاسم الظاهر بأنه الغالب القاهر والتفسير للباطن بالذي لا تدركه الأوهام فهو تفسير مخالف لمعاني هذه الأسماء كما سبق بيانه في مناقشة الأشعرية.
2-وأما قول الماتريدي:"الأول بذاته والآخر بذاته" إلى آخر كلامه: فيه غموض قد يفهم منه أن كان ولا صفة له، وأنه لم يكن خالقا ثم صار بعد ذلك خالقا، وليس هذا معنى الأول والآخر كما جاء معناه في الحديث الشريف.
[1] أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع (17/38).
[2] ينظر: تفسير الطبري (27/252).
[3] ينظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم للقرطبي (7/24)، وإكمال إكمال المعلم، لأبي مع شرحه مكمل إكمال لإكمال للسنوي (9/118).
[4] العلم الهيب في شرج الكلم الطيب ، للعيني (180).
[5] ينظر: تفسير الطبري (27/252).
[6] السراج الوهاج في كشف مطالب مسلم بن الحجاج شرح مختصر مسلم بن الحجاج للحافظ المنذري، صديق حسن خان (8/91).
[7] ينظر: تفسير الطبري (27/252).
[8] ينظر طريق الهجرتين لابن القيم (23).
[9] ينظر: طريق الهجرتين (23).
[10] ينظر: الفصول المفيدة في الواو المزيدة، للكيكلدي العلائي (1/143).
[11] ينظر: طريق الهجرتين (18-21).
[12] تنزيه القرآن عن المطاعن، للقاضي عبد الجبار (415).
[13] متشابه القرآن للقاضي عبد الجبار(642).
[14] المرجع السابق (643).
[15] المرجع السابق.
[16] تفسير الزمخشري (6/42).
[17] التدمرية، لشيخ الإسلام ابن تيمية (41).
[18] ينظر: المنهاج في شعب الإيمان، للحليمي (1/188)، والأسماء والصفات للبيهقي (1/98)، والمقصد الأسنى للغزالي (215-220)، وشرح أسماء الله، للرازي (311)، المواقف في علم الكلام للإيجي(336).
[19] شأن الدعاء(88).
[20] تفسير الماتريدي (9/513).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.