شبهة أن الدعاء يكون مشروعًا نافعًا في بعض الأمور دون بعض

شبهة أن الدعاء يكون مشروعًا نافعًا في بعض الأمور دون بعض





الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ يدَّعي بعضُ المبتدعة أن: الدعاء يكون مشروعًا نافعًا في بعض الأشياء دون بعض - التفريق بين الأمور -، قال أصحاب هذا المذهب: إن الدعاء يكون مشروعًا نافعًا في بعض الأشياء دون بعض([1]).
كما قالوا بعدم مشروعية الدعاء بطولِ العمر أو البقاء، وعلَّلوا ذلك بأنه أمرٌ قد فُرِغ منه، واستدلوا بما رواه مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: قالت أُم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهمَّ أِمْتِعْنِي بزوجِي رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وبأبِي أبي سفيان وبأخِي معاوية، قال: فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: قد سألتِ اللهَ لآجالٍ مضروبةٍ، وأيامٍ معدودةٍ، وأرزاقٍ مقسومةٍ، لن يعجلَ شيئًا قبل حِله أو يؤخرَ شيئًا عن حِله، ولو كنتِ سألتِ اللهَ أن يعيذك من عذابٍ في النارِ، أو عذابٍ في القبرِ، كان خيرًا وأفضلَ))([2]).
واستدلَّ لهم أيضًا بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل طلب الأنصار بالدعاء لهم برفع الحُمَّى؛ فقال لهم: ((أوَ تَصبِرون؟))([3]).
وقد رُوي هذا المذهب عن الإمام أحمد - رحمه الله -، فقد رُوي عنه أنه كان يكره أن يُدعى له بطول العمر، ويقول: (هذا أمرٌ فُرِغَ منه)، وقال غيره: (إن الدعاءَ بطولِ البقاءِ مُحدث)([4])، وقد ورد عن أحمد الدعاء للمتوكل بطول البقاء([5])، فهذا فيه نوع تنافٍ مع ما رُوي عنه من كراهية الدعاء له بطول العمر، وتعليله ذلك بأنه مفروغ منه.
وأيد هذا المذهب شارحُ الطحاوية([6])، وذهب إلى أن الدعاء لا تأثير له في زيادة العمر بخلاف صلة الرحم، ويمكن أن يعد من هذا المذهب ما ذهب إليه القرافي من عدم الدعاء بالأمر المقطوع فيه؛ كرفع الخطأ والنسيان، وسيأتي مناقشة القرافي في هذا إن شاء الله تعالى.
مناقشة من يُفرِّق في الدعاء بين الأشياء:
1- إن التفريقَ لا دليل عليه؛ إذ الحجةُ بأنه أمرٌ قد فُرِغَ منه، فهذه الحجة موجودة في كلِّ الأشياء فالكل مُقّدَّرٌ قد فُرِغَ منه([7]).
2- قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم دعاؤُه لبعض أصحابه بطولِ العمر، من ذلك دعاؤه صلى الله عليه وسلم لأنس بطول العمر بقوله صلى الله عليه وسلم: ((اللهمَّ أَكْثِر مالَه وولدَه، وأَطِل عُمُرَه واغْفِر ذنبَه))([8]).
وقد بوَّب البخاريُ في كتاب الدعوات، فقال: (بابُ دعوةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لخادِمِه بطولِ العمرِ وبكثرِة مالِه))، فأورد دعاءَ النبي صلى الله عليه وسلم لأنس([9])، والظاهرُ أن البخاريَّ يشير بهذا التبويب إلى الردِّ على من قال بعدم الدعاء بطول العمر، والله أعلم.
وقد دعا النبيُّ صلى الله عليه وسلم أيضًا لأبي اليَسَر كعب بن عمرو بطول العمر؛ فقال: ((اللهمَّ أَمْتِعْنَا بِه))، وكان يُحَدِّثُ بهذا الحديث ويبكي ثم يقول: (أمتعوا بي لعَمُرِي كنتُ آخرَهم)([10])، ورُوي أيضًا أنه صلى الله عليه وسلم دعا بطول العمر لأمِّ قيس ابنة محصن أخت عكاشة، قال الراوي: (ولا نعلمُ امرأةً عمرت ما عمرت)([11]).
3- قد ثَبُتَ عن بعض الصحابة الدعاء بطول العمر؛ فقد دعا سعدُ بن أبي وقاص t بطول العمر على الرجل الذي قال: (إن سعدًا كان لا يسيرُ بالسريةِ، ولا يُقَسِّمُ بالسويةِ، ولا يَعْدِلُ في القضيةِ، قال سعد: أما واللهِ لأدعونَ بثلاث: اللهمَّ إن كان عبدُك هذا كاذبًا قامَ رياءً وسمعةً فأطِلْ عمرَه، وأطِلْ فقرَه، وعَرِضْهُ بالفتنِ، وكان بعد إذا سُئِلَ يقول: شيخٌ كبيرٌ مفتون أصابتني دعوةُ سعد)، قال الراوي: (فأنا رأيتُه بعد قد سَقَطَ حاجباه على عينيه من الكِبَرِ، وإنه ليتعرضُ للجوارِي في الطرقِ يغمزُهُنَّ)([12]).
فتبين مما تقدم ثبوت الدعاء بطول العمر، وأنه مشروع لا محذور، وأما ما استدلَّ به القائلون بالتفريق بين الأشياء في الدعاء من قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: ((أوَ تصبرون؟))، فيمكن أن يُجاب عنه بأنه سؤالُ كشفٍ وتعليمٍ، فأوحى اللهُ إليه أنه لا يكشف عنهم في ذلك الوقت، وأَخَّرَ الدعاء، ويحتمل أنه رأى بهم جزعًا وقلةَ صبرٍ فأمرهم به([13]).
ومما يبيِّنُ هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا برفع الحمى عن المدينة عند قدومه إليها وإصابة أبي بكر وبلال - رضي الله عنهما – بالحمى؛ فقال صلى الله عليه وسلم: ((اللهمَّ حبِّب إلينا المدينةَ كحُبِّنا مكةَ أو أشد، اللهمَّ بارك لنا في صاعِنا، وفي مُدِّنا وصَحِّحْهَا لنا وانقُل حُماها إلى الجحفَة))([14]).
ويمكن أن يُجاب أيضًا عن حديث أُم حبيبة - رضي الله عنها - بأنه صلى الله عليه وسلم علمَ بالوحي بأنه لا يُزاد في أعمارِ هؤلاء الذين دعتْ لهم أُم حبيبة، أو يُقال إنه رأى حرصَها الشديد على ذلك فمنعها، أو أنه صلى الله عليه وسلم أرشدها إلى الأفضل، وهو طلبُ الأمر الأخروي من الاستعاذة من النار، أو عذاب القبر، دون النفع الدنيوي من التمتع بهؤلاء الذين ذَكَرَتْهُم، ويدل لهذا قوله صلى الله عليه وسلم: ((كان خيرًا وأفضل))؛ فإن اسم التفضيل يدلُّ على المشاركةِ والزيادة، فأصلُ الخيرية والفضل ثابت لما دعت به، والله أعلم.
وأما التفريق بين صلة الرحم وبين الدعاء؛ بأن الأول يزيد في العمر دون الثاني، فيُعترض عليه بأن كليهما سببان متماثلان، فأما أن نمنع تأثيرهما في المسببات أو نُجيز تأثيرهما كباقي الأسباب الشرعية، ولا يجوز أن نفرِّقَ بين متماثلين بدون دليل واضح.
ولا يُقال إن النصَّ وردَ في صلةِ الرحم بزيادة العمر، لأننا نقول: إنه قد وَرَدَ النصُّ أيضًا بالدعاء بطول العمر، وثبت تأثيرُه في ذلك، كما في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأنس وأبي اليسر وأُم قيس، ودعاء سعد بن أبي وقاص على الرجل، فكل هذا يدل على أنه لا فرق بين الأمرين، والله أعلم.
 
الهوامش:

([1]) شرح الطحاوية، ص(91).

([2]) رواه مسلم، (2663)، وأحمد في مسنده، (1/390، 413، 433، 445).

([3]) إتحاف السادة، الزبيدي، (5/118)، والأزهية، الزركشي، ص(49-50).

([4]) غذاء الألباب، السفاريني، (1/296)، وشرح الطحاوية، (91).

([5]) أخرجه عنه ابنه في كتاب السنة: (1/140) (رقم:108)، وذكره الذهبي في السير، (11/287).

([6]) انظر: شرح الطحاوية، (90).

([7]) غذاء الألباب، السفاريني، (1/297).

([8]) رواه ابن سعد، (7/19)، وإسناده صحيح كما قاله الحافظ في الفتح، (4/229)، ورواه البخاري في الأدب المفرد، (653).

([9]) البخاري مع الفتح، (11/144)، وليس في حديث أنس الذي ساقه البخاري التصريح بالدعاء بطول العمر، ولكن البخاري يشير بذلك إلى ما ورد في بعض طرقه من الدعاء له بطول العمر، كما قاله الحافظ في الفتح، (11/144-145).

([10]) رواه ابن إسحاق في السيرة، كما في سيرة ابن هشام، (3/335)، ومن طريقه الإمام أحمد في مسنده، (3/427-428)، وفي إسناده راوٍ مبهم، وانظر كونه آخر أهل بدر وفاة (ت:55هـ) في الكُنى، الدولابي، (1/62)، والإصابة، ابن حجر، (7/468)، والتهذيب، ابن حجر، (8/438)، والبداية، (8/81).

([11]) رواه البخاري في الأدب المفرد، (652)، وأحمد في مسنده، (6/355)، والنسائي، (29)، وفي إسناده أبو الحسن مولى أم قيس، قال الحافظ فيه: جهله ابن القطان، اهـ، التهذيب، ابن حجر، (2/74).

([12]) رواه البخاري، (755).

([13]) إتحاف السادة، الزبيدي، (5/118)، والأزهية، الزركشي، ص(49-50).

([14]) رواه البخاري، (1889)، ومسلم، (1376).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
شبهة أن الدعاء يكون مشروعًا نافعًا في بعض الأمور دون بعض.doc doc
شبهة أن الدعاء يكون مشروعًا نافعًا في بعض الأمور دون بعض.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى