شبهة أن الدعاء لا يجلب به منفعة ولا يدفع به مضرة

شبهة أن الدعاء لا يجلب به منفعة ولا يدفع به مضرة





الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ يستدلُّ بعضُ المبتدعة بأن الدعاء لا يجلب به منفعة، ولا يدفع به مضرة: قالت طائفة من الصوفية: إن الدعاء لا يجلب به منفعة، ولا يدفع به مضرة، وإنما هو عبادة محضة تعبدية غير معقولة المعنى، كبعض أعمال العبادات الأخرى مثل رمي الجمار وغيره، ولا أثر للدعاء في حصول المطلوب، وجودًا وعدمًا، بل ما يحصل بالدعاء يحصل بغيره.

وقالوا: إن الدعاء عند أهل التسليم والتفويض - يعنون أنفسهم - على وجهين:

أحدهما: يريد بذلك تزيين الجوارح الظاهرة بالدعاء، لأن الدعاء ضربٌ من الخدمة، يريد أن يزين جوارحه بهذه الخدمة.

والوجه الثاني: أن يدعو ائتمارًا لما أمره الله تعالى بالدعاء([1])، فالدعاء عندهم لإظهار العبودية وامتثال الأوامر الإلهية فقط، وليس له تأثير في حصول المطلوب؛ فهؤلاء على اتجاهين:

1- فمنهم من يجعل الدعاء من حظِّ العامة، وأن مقامات الخواص تركُ الدعاء والتوكل نظرًا للقدر([2]).

2- ومنهم من يجعل الدعاء بعدم المؤاخذة على الخطأ والنسيان مثل: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، يجعله عديم الفائدة إذ هو مضمون الحصول، فلا يجوز الدعاء بهذا إلا تلاوةً لا دعاءً، ويعلل ذلك بأن الدعاء به يتضمن الشك في وقوعه، لأن الداعي بين الخوف والرجاء، والشك في وقوع ذلك شكٌّ في خير الله([3])، وقد جوَّز بعضُهم الدعاءَ بالآية السابقة إن أراد بالخطأ العمد، وبما لا يطاق الرزايا والمحن([4]).

وقد رويت عن هؤلاء أقوالٌ كثيرة في تقرير هذا المذهب، من ذلك ما قاله بعضهم عندما طُلِب منه أن يدعو: »أخشى أني إن دعوتُ أن يُقال لي: إن سألتنا مَالَكَ عندنا فقد اتهمتنا، وإن سألت ما ليس لك عندنا فقد أسأت الثناء علينا، وإن رضيتَ أجرينا لك الأمور، ما قضينا لك به في الدهور«([5]).

وقال آخر: »من عرف اللهَ أمسك عن رفع حوائجه إليه، لِمَا عَلِمَ أنه العالِم بأحواله«([6])، ورُوي عن الجنيد أنه دخل عليه جماعة فقالوا: »أين نطلبُ الرزقَ؟ فقال: إن علمتُم في أي موضعٍ هو، فاطلبوه منه، قالوا: فنسألُ اللهَ تعالى ذلك، فقال: إن علمتُم أنه ينساكم فذكِّرُوه، فقالوا: ندخلُ البيتَ فنتوكلُ، فقال: التجربةُ شكٌّ، قالوا: فما الحيلة؟ فقال: تركُ الحيلة«([7])، وقال آخر: »طلبُك منه اتهامٌ«([8]).

ومن أقوال هؤلاء في كون الدعاء من حظ العامة، ما حكاه القشيري في رسالته من أنه قيل: »دعاءُ العامةِ بالأقوالِ، ودعاءُ الزهَّادِ بالأفعالِ، ودعاءُ العارفين بالأحوالِ ... وقيل: ألسنةُ المبتدئين منطلقةٌ بالدعاءِ، وألسنةُ المتحققين خرست عن ذلك«([9]).

وبلغ الحال ببعضهم إلى أن قال: »الفقيرُ هو الذي لا يكون له إلى اللهِ حاجة«([10])، فهذا في غاية الشناعة ومع ذلك حاول بعضُهم تأويله([11]) مع أنه صريح في مراد القائل لا يقبل التأويل.

وتتلخص شبههم الرئيسية في ثلاث:

1- الاستدلال بعموم علم الله تعالى، وأن السؤال مع العلم والقدر لا حاجة إليه.

2- الاستدلال بما روي من أن إبراهيم الخليل عندما أُلقي في النار قال: »حسبي من سؤالِي علمُه بحالِي)([12]).

3- أن سؤال الله تعالى فيه سوء الأدب، واتهامٌ للرب بعدم إعطائه للعبد ما يستحقه، وأنه لذلك ليس من مقامات الخواص.

وأصل شبهة أصحاب المذهب الأول والمذهب الثاني أنهم لما أثبتوا أن الله إذا قضى شيئًا، فلابد أن يكون، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن ما سبق به علمُه فهو كائنٌ لا محالة، صاروا يظنون ما يوجد بسبب يوجد بدونه، وما يوجد مع عدم المانع يوجد مع المانع، وأن كون الأمور مُقَدَّرة مَقْضِية يمنع أن تتوقف على أسباب مُقَدَّرة أيضًا تكون من العبد.

وهذا غلط عظيم، ضلَّت فيه طوائف، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى القول بأنه لا حاجة إلى الأعمال المأمور بها، فإن من خُلِقَ للجنة فهو يدخلها وإن لم يؤمن ولم يعمل، ومن خُلِقَ للنار فهو يدخلها وإن آمن وعمل([13]).

وكذلك قول من قال: إن الدعاء لا يؤثِّر شيئًا، والتوكل لا يؤثِّر شيئًا هو من هذا الجنس، لكن إنكار ما أمر به من الأعمال كفرٌ ظاهرٌ، بخلاف إنكار تأثير الدعاء أو التوكل، إذ ليس تعليق المقاصد بالدعاء والتوكل كتعليق سعادة الآخرة بالإيمان، ولكن الأصل واحد، وهو النظر إلى المقدور مجردًا عن أسبابه ولوازمه([14]).

فهؤلاء رَكَّبُوا من هذا الأصل مقدمتين فاسدتين؛ وهما: أن الشيء المطلوب المدعو به إن قدر فلابد أن يحصل، سواء دعا به أم لا، فيكون الدعاء من باب تحصيل الحاصل، وإن لم يقدر فلا يحصل، سواء دعا به أم لا، فلا فائدة في الدعاء في الحالين.

حاصل شبههم تدور على الأمور التالية:

1- الاحتجاج بالمشيئة الإلهية وأن المطلوب إذا قُضي إلى آخر المقدمتين.

2- الاحتجاج بعلم الله تعالى، وأن المطلوب إذا علمه الله فلابد أن يحصل ... إلخ. وقووا هذه الشبهة بما رُوي عن إبراهيم الخليل عليه السلام من قوله: »حسبِي من سؤالي علمُه بحالِي«.

3- الاحتجاج بأنه ليس من مقامات الخواص؛ لأن في ذلك سوءَ الأدب واتهامًا لله تعالى وشكًّا في وقوع أرزاقه، وما قدره الله تعالى.

فعلى هذه الأمور تدور شبهاتهم وإليك مناقشة هذه الشبهات الثلاثة:

مناقشة الشبهة الأولى:

وهي قولهم: إن المشيئة الإلهية إذا اقتضت ... إلخ، فالجواب عنها على تسعة أوجه:

الأول ـ أن الحصر في المقدمتين غلط لوجهين:

1- لأنه بقيت مقدمة ثالثة أخرى، وهي أنه إن قضى الله بحصول هذا الشيء المطلوب عند حصول سببه من الدعاء أو التوكل أو غيرهما، فإنه يحصل عند وجود هذا السبب، فإذا لم يحصل السبب امتنع المسبب([15]).

2- لو سلَّمنا جدلًا أن الدعاء لا تأثير له في المطلوب، لا نسلم أنه لا فائدة فيه، بل فيه فوائد أُخَر غير حصول المطلوب من تحصيل مصلحة أخرى عاجلة وآجلة، ودفع مضرة أخرى عاجلة ، كما نبَّه على ذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله: »ما من مؤمنٍ ينصبُ وجهَه للهِ عز وجل يسألُه مسألةً إلا أعطاه إياها، إما عجَّلَها له في الدنيا، وإما ادَّخرَها له في الآخرةِ، ما لم يَعْجَل ... «([16]).

ولو لم يكن في الدعاء من الفوائد إلا معرفة الداعي بربه، وإقراره به وبأنه سميعٌ قريبٌ قديرٌ عليمٌ رحيمٌ، وإقراره بفقره إليه واضطراره إليه، وما يتبع ذلك من العلوم العلية والأحوال الزكية، التي هي من أعظم المطالب، لكفى ذلك في فوائد الدعاء، فكيف وفيه فوائد أخرى من تحقيق المطلوب ودفع المكروه؟

ومن فوائده التي هي أهم من مطلوب العبد أنه يستدعي حضورَ القلبِ مع الله، وهو منتهى العبادات، والغالب على الخلق أنهم لا تنصرف قلوبهم إلى ذكر الله عز وجل إلا عند إلمامِ حاجة، وإرهاق ملمَّةٍ، فإن الإنسان إذا مسَّه الشرُّ فذو دعاء عريض، فالحاجة تحوج إلى الدعاء، والدعاء يردُّ القلبَ إلى الله عز وجل بالتضرع والاستكانة، فيحصل به الذكر الذي هو أشرف العبادات، ومن تلك الفوائد أنه يعطي سكينةً في نفسه، وانشراحًا في صدره، وصبرًا يسهل معه احتمال ثقل الواردات عليه، وعلى كل حال فلا يعدم فائدة دعائه([17]).

حاصل هذين الوجهين السابقين هو أن هناك خللًا في الحصر في المقدمتين، إذ هناك مقدمة ثالثة، كما أن هناك خللًا في المقدمة الثانية لأنه لا يلزم من عدم تأثير الدعاء في المطلوب عدم فائدته مطلقًا.

الثاني([18]): قد أجاب النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن هذه الشبهة عندما سُئل عنها لما قال: »ما منكم من أحدٍ إلا وقد علمَ مقعدَه من الجنةِ أو النارِ، قالوا: أو لا ندعُ العملَ ونتكلُ على الكتابِ؟ فقال: لا، اعملوا فكلٌّ ميسرٌ لما خُلِقَ له، أما من كان من أهلِ السعادةِ فسييسرُ لعملِ أهلِ السعادةِ، وأما من كان من أهلِ الشقاءِ فسييسرُ إلى عملِ أهلِ الشقاءِ«، وهذا الحديث قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح من عدة طرق([19]).

فتبيَّن بهذا أن ما سبق به الكتابُ سبق بالأسباب التي تُفضي إليه، فالسعادة سبقت بأن صاحبها يُستَعْمَلُ فيما يصير به سعيدًا، والشقاوة سبقت بأن صاحبها يُسْتَعْمَلُ فيما يصير به شقيًّا، فالقدر يتضمن الغاية وسببها، لم يتضمن غاية بلا سبب، كما تضمن أن هذا يولد له بأن يتزوج ويطأ المرأة، وهذا ينبت أرضه بأن يزرع ويسقي الزرع، وأمثال ذلك.

ويقوي هذا أيضًا ما رُوي أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: »يا رسول اللهِ، أرأيتَ أدويةً نتداوى بها، ورقى نسترقيها، وتقاة نتقيها، هل تردُّ من قدرِ اللهِ شيئًا؟ فقال: هي من قَدَرِ اللهِ«([20])، فبيَّن صلى الله عليه وسلم أنه يردُّ قدرَ اللهِ بقدرِ اللهِ، إما دفعًا لما انعقد سببُه ولما يقع، وإما رفعًا لما وجد، وأن الأسباب التي تُدفع بها المكاره هي من قدر الله، ليس القدر مجرد دفع المكروه بلا سبب([21]).

ولم يخرج شيءٌ في الوجودِ عن قدر الله، وإنما يردُّ القدرَ بالقدرِ، وهذا كردِّ قدرِ الجوعِ والعطش والحر والبرد بأضدادها، وكردِّ قدر العدو بالجهاد، والكلُّ من قدر الله: الدافع، والمدفوع، والدفع([22]).

الثالث([23]): أن العبد لا يدري ماذا قدَّرَ اللهُ له، فإنه لا يدري هل الله علق نيل مرغوبه والوصول إلى محبوبه، أو علق دفع المضار عنه، ورفع البلايا والمَصائب، علق هذه الأمور على دعائه والابتهال إليه، أم لا؟

فما دام لا يعرف ذلك فما عليه إلا الاجتهاد وبذل المستطاع في رجاء رحمة الله، واستجلاب الخير واستدفاع الشر، بما جعله الله سببًا لذلك، ومبنى العبادات والطاعات على الخوف والرجاء دون اليقين الذي يقع معه طمأنينة النفس، فيفضي بصاحبه إلى ترك العمل والإخلاد إلى دِعَةِ العطلة.

والله I قد لطف بعباده، فعلَّلَ طباعهم البشرية بوضع هذه الأسباب ليأنسوا بها، فيخفف عنهم ثقلَ الامتحان الذي تعبَّدهم به، وليتصرفوا بذلك بين الرجاء والخوف، وليستخرج منهم وظيفتي الشكر والصبر، في طَورَي السراء والضراء، والشدة والرخاء، ومن وراء ذلك علم الله تعالى فيهم.

فالحاصل أن العبد لا يدري هل الأمر معلق بالدعاء إن اجتهد وابتهل في الدعاء يُعطى، وإن لم يجتهد في الدعاء فلا يُعطى؟ لذا عليه الاجتهاد بالدعاء لاحتماله أن مطلوبه معلَّق على الدعاء.

ويزيد هذا الوجهَ وضوحًا الوجهُ التالي:

الرابع: أن الله I أمرنا أن نعمل ونكدَّ ونجتهد ونحرص، وأن ندفع قدرَه بقدرِه، فالعبد مأمور بأن يزيل الشرَّ بالخير، ويزيل الكفرَ بالإيمان، والبدعةَ بالسنة، والمعصيةَ بالطاعة، من نفسه ومن عنده بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد بحسب الإمكان، وإن كان كل ذلك بقدر الله([24]).

ولهذا قال عمرُ بن الخطاب لأبي عبيدة - رضي الله عنهما - عندما هم بالرجوع من الطريق لسماعه بوقوع الطاعون بالشام، فقال له أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه: »أفرارًا من قدرِ اللهِ؟ فقال عمر: لو غيرُك قالها يا أبا عبيدة، نعم نفرُّ من قدرِ اللهِ إلى قدرِ اللهِ، أرأيتَ لو كان لك إبلٌ فهبطت واديًا له عدوتان، إحداهما مخصبةٌ والأخرى جَدِبَةٌ، أليس إن رعيتَ الخصبةَ رعيتَها بقدرِ اللهِ، وإن رعيتَ الجدبةَ رعيتَها بقدرِ اللهِ؟«([25]).

فالعبد يدفع قدرَ الله تعالى بقدر الله تعالى، لأن القدر السابق لا يمنع العمل ولا يوجب الاتكال عليه، بل يوجب الجد والاجتهاد، ولهذا لما سمع بعضُ الصحابة إخبارَ النبي صلى الله عليه وسلم بالقدر السابق وجريانه على الخليقة بالأسباب قال: »ما كنتُ أشدَّ اجتهادًا مني الآن«([26]).

وهذا مما يدل على جلالة فِقه الصحابة، ودقة أفهامهم وصحة علومهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم بالقدر السابق وجريانه على الخليقة بالأسباب، فإن العبد ينال ما قُدر له بالسبب الذي أُقدِر عليه ومُكِّن منه وهُيئ له، فإذا أتى بالسبب أوصله إلى القدر الذي سبق له في أُمِّ الكتاب، وكلما زاد اجتهادًا في تحصيل السبب كان حصول المقدور أدنى إليه، وهذا كما إذا قدر له أن يكون من أعلم أهل زمانه، فإنه لا ينال ذلك إلا بالاجتهاد والحرص على التعلم وأسبابها([27]).

وقد فَطر الله سبحانه عبادَه على الحرص على الأسباب، التي بها مَرامُ معاشهم ومصالحهم الدنيوية، بل فطر اللهُ سائر الحيوانات على الحرص على المنافع، وهداها لمصالحها المعاشية بما يحفظها ويقيمها، سواء كان الحيوان ناطقًا أو بهيمةً، أو طيرًا أو دواب، فقد هدى الذكر للأنثى، وهداهما إلى التقام الثدي عند الخروج من بطن الأم، وتمييز الأم من غيرها، وإلى المرعى النافع دون الضار.

وهدى بعض الحيوانات إلى ما يعجز عنه البشر، كهداية النحل إلى الأفعال العجيبة والبالغة الغاية في الدقة، وكهداية النمل إلى الطرق والحيل التي فيها معاشها، مع كونها من أصغر الحيوانات، وهداية الهدهد، والحمام والذئب والثعلب إلى ما هو أعجب من الأعمال والحيل التي يعملها الإنسان.

وقد قال تعالى حاكيًا عن موسى: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50]، وقال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام:38]([28]).

والمسلم مأمور أن يفعل ما أُمر به، ويدفع ما نهى الله عنه، وإن كانت أسبابه قد قدرت فيدفع قدرَ الله بقدرِ الله، فالعبد له مع المقدور حالان:

حالٌ قبل وقوع المقدور، فعليه قبل وقوعه أن يستعين بالله ويتوكل عليه ويدعوه ويجتهد في دفعه، فإذا قدر المقدور بغير فعله واختياره فعليه أن يصبر عليه أو يرضى به، وإن كان بفعله وهو نعمة حمد الله تعالى على توفيقه، وإن كان ذنبًا استغفرَ الله منه([29]).

ويدل لهذا قولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: »المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُ إلى اللهِ من المؤمنِ الضعيفِ، وفي كلٍّ خيرٍ، احرص على ما ينفعُك، واستعن باللهِ، ولا تعجز، وإن أصابَك شيءٌ فلا تقُل: لو أني فعلتُ كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله، وما شاء اللهُ فعلَ، فإن (لو) تفتح عملَ الشيطانِ«([30])، ففي هذا الحديث الأمر بالحرص على ما ينفع الإنسان، والاستعانة بالله على ذلك وعدم العجز، وهذا قبل الوقوع ثم الأمر بالصبر.

ثم إن دفع القدر بالقدر نوعان:

أحدهما: دفع القدر الذي انعقدت أسبابه - ولَمَّا يقع - بأسباب أخرى من القدر تقابله فيمتنع وقوعه؛ كدفع العدو بقتاله، ودفع الحر والبرد ونحوه.

الثاني: دفع القدر الذي قد وقع واستقر بقدر آخر يرفعه ويزيله، كدفع قدر المرض بقدر التداوي، ودفع قدر الذنب بقدر التوبة، ودفع قدر الإساءة بقدر الإحسان.

فهذا شأن العارفين وشأن الأقدار، لا الاستسلام لها وترك الحركة والحيلة، فإنه عجز، والله تعالى يلوم على العجز، فإذا غُلِبَ العبدُ وضاقت به الحيل ولم يبق له مجال، فهنالك الاستسلام للقدر، والانطراح كالميت بين يدي الغاسل يقلِّبُه كيف شاء([31]).

الخامس: إن هذه الشبهة كما قال ابن الجوزي: ردٌّ لجميع الشرائع، وإبطالٌ لجميع أحكام الكتب، وتبكيت للأنبياء كلهم فيما جاءوا به؛ لأنه إذا قال في القرآن: {أَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةََ} [الأنعام:72]؛ قال القائل: لماذا إن كنتُ سعيدًا فمصيري إلى السعادة، وإن كنتُ شقيًّا فمصيري إلى الشقاوة، فما تنفعني إقامة الصلاة؟ وما يفضي إلى ردِّ الكتب وتجهيل الرسل محالٌ باطلٌ([32]).

السادس: إن هذه الشبهة مخالفة للكتاب والسنة وإجماع السلف وأئمة الدين، ومخالفةٌ لصريح المعقول، ومخالفةٌ للحسِّ والمشاهدة([33]). وسيأتي إن شاء الله تعالى بيانُ دلالة هذه الأمور على تأثير الدعاء، وفي هذا القول ردٌّ لتلك الدلالة، وبهذا يتضح مخالفةُ هذه الشبهة لهذه الأدلة المذكورة، كما أن في هذا القول ردًّ للأسباب، وقد دلت الأدلة المذكورة على مشروعيته، فمن لم يأخذ بالأسباب فقد خالف تلك الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع والعقل والحس.

السابع: إن هذه الشبهة فيها إبطالٌ للحكم الربانية، والعلل الإلهية، حيث رتَّب اللهُ سبحانه وتعالي المسببات على الأسباب، والمعلولات على العلل، وربط بعضها ببعض على نظام دقيق يكفل ببقاء الكون ونظامه، فمن أنكر هذا فقد خالف الحكمةَ في وضع الدنيا.

فإن الله تعالى وضع الأشياء على حكمة، فوضع للآدمي يدًا يدافع بها، ولسانًا ينطق به، وعقلًا يهديه إلى دفع المضار واجتلاب المصالح، وجعل الأغذية والأدوية لمصلحة الآدميين، فمن أعرض عن استعمال ما خُلق له وأُرشد إليه فقد رفض أمرَ الشرع وعطَّل حكمة الصانع([34]).

الثامن: إن هذه الشبهة فيها إلغاء للأسباب، وهو نقصٌ في العقل، قالت طائفةٌ من العلماء([35]):»الالتفاتُ إلى الأسبابِ شركٌ في التوحيدِ، ومحوُ الأسبابِ أن تكون أسبابًا نقصٌ في العقلِ، والإعراضُ عن الأسبابِ بالكليةِ قدحٌ في الشرعِ، وإنما التوكلُ والرجاءُ معنى يتألفُ من موجبِ التوحيدِ والعقلِ والشرعِ«([36]).

وإنما كان الالتفات إلى الأسباب شركًا، لأن معنى الالتفات إلى السبب هو اعتماد القلب عليه ورجاؤه والاستناد إليه، وليس في المخلوقات ما يستحق هذا؛ لأنه لا يوجد سبب مستقل بمطلوب، بل لا بد من انضمام أسباب أُخَر إليه، وما ثَمَّ علة تامة إلا مشيئةُ الله، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.

ولابد أيضًا من صرف الموانع والمعارضات عنه حتى يحصل المقصود، فكل سبب فله شريك وله ضد، فإن لم يعاونه شريكُه ولم يُصرف عنه ضدُه لم يحصل مسببه، فالمطر وحده لا ينبت النبات إلا بما ينضم إليه من الهواء والتراب وغير ذلك، ثم الزرع لا يتم حتى تصرف عنه الآفات المفسدة له.

والطعام والشراب لا يغذي إلا بما جعل في البدن من الأعضاء والقوى، ومجموع ذلك لا يفيده إن لم تصرف المفسدات، فلا يتم المطلوب إلا بوجود المقتضي وعدم المانع، وكل سبب معين فإنما هو جزء من المقتضي فليس في الوجود شيء واحد هو المقتضي بنفسه، وأما أن يكون في المخلوقات علة تامة، تستلزم معلولها، وسبب تام يستلزم مسببه، فهذا باطل([37]).

هذا ومما ينبغي أن يُعلم، أنه بعد انتفاء المانع ووجود المقتضي فلا بد من تسخير مسبب الأسباب وخالق الأسباب كلها، سواء كانت حركة حي باختياره وقصده، كما يُحدثه تعالى بحركة الملائكة والجن والإنس والبهائم، أو حركة جماد بما يجعل الله فيه من الطبع، أو بقاسر يقسره، كحركة الرياح والمياه.

فالله خالق ذلك كله، فإنه لا حول ولا قوة إلا به، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فالرجاء يجب أن يكون كله للرب، والتوكل عليه والدعاء له، فإنه إن شاء ذلك ويسره كان وتيسر ولو لم يشأ الناس، وإن لم يشأه ولم ييسره لم يكن وإن شاءه الناس([38]).

وإنما كان محو الأسباب أن تكون أسبابًا نقصًا في العقل، كما أنه قدح في الشرع؛ لأن في ذلك مخالفة لما تشهد له العقول والفطر السليمة، كما أن فيه مخالفة لما شرعه الله تعالى من طلب الأسباب، فمن رفض الأسباب صار مخالفًا لما يقتضيه العقل والشرع، فهو نقص في العقل، كما أنه قدح في الشرع؛ لأن الشارع جعل أفعال العباد سببًا لما نيط بها، فهي سبب في وجود ما علق عليها.

والعقل السليم لا ينكر ذلك لأنه أمر مشاهد محسوس، وإنما ينكر ذلك العقلُ الذي أصابه خللٌ من مرض الجهل والشبهات، إذ العقل السليم يعرف أن ما أمر اللهُ به من العبادات والدعوات والعلوم والأعمال من أعظم الأسباب فيما نيط بها من العبادات، وكذلك ما نهى عنه من الكفر والفسوق والعصيان هي من أعظم الأسباب لما علق بها من شقاوات.

وكذلك الدعاء والتوكل من أعظم الأسباب لما جعله الله سببًا له، فمن قال: ما قدر لي فهو يحصل لي دعوتُ أو لم أدعُ، وتوكلتُ أو لم أتوكل فهو بمنزلة من يقول: ما قُسِمَ لي من السعادة والشقاوة فهو يحصل لي، آمنتُ أو لم أؤمن وأطعتُ أم عصيتُ، ومعلوم أن هذا ضلالٌ وكفرٌ، وإن كان الأول ليس في مثل هذا الضلال([39]).

فتبيَّن بهذا التقرير أن نفي الأسباب نقص واضح في العقل، وقدح في الشرع.

وقد ذكر ابن الجوزي - رحمه الله - أن الإعراض عن الأسباب إنما كان قدحًا في الشرع لأنه ترك لما أمر الله به، ولأنه طلب لتعاطي رتبةٍ ترقى على رتبة الأنبياء؛ لأن موسى عليه السلام لما قيل له: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} [القصص:20] خرج، ولما جاع واحتاج إلى عفةِ نفسه أجَّرَ نفسه ثمانِ سنين ...([40]).

ومما يدل على أن إنكار الأسباب قدحٌ في الشرع، ما ثبت من إنكار الله تعالى في كتابه العزيز على من ظن أن وجود الأسباب كعدمها، وأنه لا فرق بين ما أمر الله به وأحبه ورضيه، وبين ما نهى عنه وأبغضه؛ فقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21].

وقال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ. مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35، 36].

وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28].

وقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9].

وقال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ. وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ. وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ. وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:19-22].

وقال تعالى: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:20].

فقد أنكر الله تعالى في هذه الآيات على من ظن أن وجود الأسباب كعدمها([41])، فثبت بهذا كون إنكار الأسباب قدحًا فيما جاءت به الشريعة.

التاسع([42]): إن هذا القول يلزم القائل به أمور في غاية الشناعة:

أحدها: أن لا يعمل الأسباب التي توصله إلى منافعه الدنيوية، فيلزمه أن يترك الأكل والشرب ويقول: إن قضى لي الشبع والري فلا بد أن يصل إليَّ، سواء أكلت وشربت أو تركت، وعليه أن لا يلبس إذا برد، ولا يتزوج، وأن لا يأتي أهله إذا أراد الولد، وأن لا يتداوى إذا مرض، وأن يلقى الكفار بدون سلاح، وإذا أراد الحج أن لا يسافر ولا يتحرك بل يجلس في بيته، وإذا أراد أن يتحصل على الزرع فعليه أن لا يحرث ولا يزرع.

فهذه الأمور الشنيعة قد التزم ببعضها بعضُ أهل الضلال من هؤلاء، فقد قال العز بن عبد السلام - رحمه الله -: »ولقد قالَ بعضُ مشايخِ الضلالِ منهم: لا يجوزُ التداوي لأنه شركٌ واعتمادٌ على الأسبابِ، فكان جوابه: أن لا يأكل ولا يشرب ولا يلبس ولا يركب ولا يدفع عن نفسه من أراد قتله، ولا عن أهلِه من قصدَهم بالزنا والفواحش، فبُهِتَ الذي فَجَر واللهُ لا يهديه وأمثاله إلى الحق والصواب«([43]).

ثانيها([44]): أن لا يطالب بشيء إذا أفسدوا عليه أمواله أو قتلوا أولاده، أو ضربوه أو سبوه أو اعتدوا على عرضه وحرمته، وعليه أن لا ينتصر من الظالم ولا يغضب عليه ولا يذمه، ولا يلتزم بهذا من له أدنى مسكة من عقل، بل فطر اللهُ الحيوانَ على حب الانتقام والجزاء عند الاعتداء عليه، فهذا أمر ممتنع في الفطرة، لا يمكن أحد أن يفعله فهو ممتنع طبعًا محرم شرعًا، ففي هذا مخالفة لسنة الله الكونية والشرعية.

ثالثها([45]): أن لا يقول بمعاقبة الكفار ولا بجهادهم وقتالهم، ولا بإقامة الحدود، ولا يلوم إبليس ولا فرعون وقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم، ولا ينكر أي منكَرٍِ وقع في الأرض، ولا أي فساد في المجتمع.

رابعها: أن يقول: لا حاجة بنا إلى الطاعة والإيمان؛ لأن ما قضاه الله من الثواب والعقاب لا بد، وما يدري هذا القائل الأخرق الأحمق أن الله قد رتَّب مصالح الدنيا والآخرة على الأسباب بناء على ما سبق به القضاء لا بغيره([46]).

ومع وضوح شناعة هذا اللازم قد التزم به بعضُهم حتى قال: لا حاجة إلى الأعمال المأمور بها، فإن من خُلق للجنة فهو يدخلها وإن لم يؤمن، ومن خُلق للنار فهو يدخلها وإن آمن([47]).

والحاصل أن الاحتجاج بالقضاء والقدر ليس حجةً مقبولةً، فإن القدر يؤمن به ولا يحتج به، فإن المحتج به فاسد العقل والدين، ولا بد أن يتناقض، ولا يستطيع أحد أن يلتزم بما يترتب عليه من المفاسد الشنيعة، فلهذا كان الاحتجاج بالقدر باطلًا بطلانًا ضروريًّا مستقرًّا في جميع الفطر والعقول.

وهذا أمر جَبَلَ اللهُ عليه الناس كلهم، مسلمهم وكافرهم، لا يحتجون به، ولكون الاحتجاج به باطلًا في فِطَر الخلق وعقولهم لم تذهب إليه أمةٌ من الأمم، ولا يمكن اثنان أن يتعاشرا ساعة واحدة إن لم يكن أحدهما ملتزمًا مع الآخر نوعًا من الشرع([48]).

هذا وقد تبيَّن مما سبق بطلان هذه الشبهة وفسادها وما تؤدي إليه من لوازم في غاية الشناعة، وهذا عاقبة من يترك منهج الكتاب والسنة وآثار السلف ويتبع زبالة الأفكار، ونسأل اللهَ تعالى أن يرزقنا الإخلاص والاتباع، إنه المستعان وولي ذلك والقادر عليه.

مناقشة الشبهة الثانية:

وهي: استدلالهم بعلم الله تعالى على عدم طلب الدعاء.

قد أكثرَ الصوفية من الاستدلال والاحتجاج بعلم الله تعالى على عدم الحاجة إلى الدعاء، حتى عدَّ بعضُهم هذا الأمر أصلًا من أصول طريقتهم، فقد روى الطوسي([49]) الصوفي عند ذكر أصول طريقتهم عن بعضهم أنه قال: »أصلُنا السكوتُ، والاكتفاءُ بعلمِ اللهِ«عز وجل ([50]).

وهذا يدل على مدى اعتمادهم في عدم الحاجة إلى الدعاء على العلم، وقد تقدَّم نقلُ بعض كلامهم، كما يؤكد هذا ما ذكرناه من تعلقهم بما روي عن إبراهيم الخليل عليه السلام: »حسبي من سؤالِي علمُه بحالِي«.

وأصل شبهتهم ظنُّهم أن مجرد علم الله بالشيء يكفي في وجوده، ولا يحتاج إلى ما به يكون من الفاعل الذي يفعله وسائر الأسباب.

وهذا الظن باطل من أساسه وغير صحيح، وهو جهل بحقيقة علم الله تعالى وما يقتضيه، فإن علم الله بالشيء لا يقتضي عدم طلبه من الله تعالى، قال ابن الجوزي: »هذا سدٌّ لبابِ السؤالِ والدعاءِ، وهو جهلٌ بالعلمِ«([51]).

وإنما صار هذا الظن جهلًا بالعلم لوجهين ذكرهما شيخ الإسلام: أحدهما: »أن العلمَ يطابقُ المعلومَ، ويتعلقُ به على ما هو عليه، وهو سبحانه قد علمَ أن المكونات تكونُ بما يخلقُه من الأسبابِ لأن ذلك هو الواقعُ، فمن قال: إنه يعلمُ شيئًا بدون الأسبابِ فقد قالَ على اللهِ الباطلَ، وهو بمنزلةِ من قال: إن اللهَ يعلمُ أن هذا الولد ولد بلا أبوين، وأن هذا النبات نبت بلا ماء.

ثانيهما: أن العلمَ ليس موجبًا بنفسه لوجودِ المعلومِ باتفاقِ العلماءِ، بل هو مطابقٌ له على ما هو عليه، لا يكسبه صفةً ولا يكتسب منه صفةً، بمنزلةِ علمِنا بالأمورِ التي قبلنا، كالموجوداتِ التي كانت قبلَ وجودِنا، مثل علمِنا باللهِ وأسمائِه وصفاتِه، فإن هذا العلمَ ليس مؤثرًا في وجودِ المعلومِ باتفاق العلماء.

وإن كان من علومِنا ما يكونُ له تأثيرٌ في وجودِ المعلومِ كعلمِنا بما يدعونا إلى الفعلِ، ويعرفنا صفتَه وقدرَه فإن الأفعالَ الاختياريةَ لا تصدرُ إلا ممن له شعورٌ وعلمٌ، إذ الإرادةُ مشروطةٌ بوجودِ العلمِ«([52]).

»والحاصلُ أن علمَ اللهِ بما سيكون لا يكون هو المؤثر في وجودِه بدونِ الأسبابِ التي علمها الله وجوده بها، فإن ذلك يخالفُ الواقعُ الذي علمه اللهُ تعالى، لأنه يعلمُ الأشياءَ على ما هي عليه فإذا كانت تقع بسبب، علمها تقع بسبب لا بدون سبب، فإذا حصلَ الدعاءُ من العبدِ علمنا أن المعلومَ للهِ تعالى والذي قدره اللهُ تعالى هو الدعاء، وإذا لم يحصل الدعاء من العبد علمنا أن المعلوم لله تعالى والذي قدره الله تعالى هو عدم الدعاء«([53]).

وأما مناقشة استدلالهم بما روي عن إبراهيم الخليل - عليه وعلى نبينا السلام - فتتلخص في ناحيتين:

أ- ناحية الإسناد:

قد ذكره البغوي في تفسيره بصيغة تُشعِر بالضعف، حيث قال: ورُوي عن أبي بن كعب، فذكرها([54]) بدون إسناد ولم نطلع له على إسناد لا ضعيف ولا قوي، ومن هنا قال ابن تيمية - رحمه الله -: »ليس له إسنادٌ معروفٌ وهو باطلٌ«([55]).

ونقل صاحب تنزيه الشريعة عن ابن تيمية أنه قال: موضوع، وأقره([56])، وقال الألباني: لا أصل له([57]).

ب- من جهة المعنى:

1- إن الذي ثبت في الصحيح([58]) عن ابن عباس أنه قال: »حسبي اللهُ ونعم الوكيل، قال ابن عباس: قالها إبراهيم حين أُلقي في النار، وقالها محمد حين: {قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران:173] «، وهذا لا يقتضي امتناعه عن سؤال الله تعالى كما هو ظاهر.

2- يناقضه ما ذكره الله تعالى عنه في كتابه من دعواته وابتهالاته ولجوئه إلى الله تعالى في الشدائد، مثل ما حكى عنه من دعائه عند فراق زوجه وولده الوحيد: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ...} [إبراهيم:37-41]، ومن الأدلة على وضع الحديث مخالفته للقطعي من الكتاب والسنة أو المعقول الصريح، قال ابن الجوزي: »ما أحسن قول القائل: إذا رأيت الحديث يباينُ المعقولَ أو يخالفُ المنقول، أو يناقضُ الأصولَ، فاعلم أنه موضوعٌ«([59]).

3- يناقضه أيضًا ما رُوي عنه أنه قال: »اللهمَّ إنك واحدٌ في السماءِ، وأنا في الأرضِ واحدٌ أعبُدك«([60]) وهذا تعرض للسؤال وإخبار عن حاله، وهو أبلغ السؤال كما تقدم.

4- ثم كيف يقول الخليل عليه السلام: »حسِبي من سؤالِي علمُه بحالي«، واللهُ بكل شيء عليم وقد أمر العباد بأن يعبدوه ويتوكلوا عليه ويسألوه، لأنه سبحانه جعل هذه الأمور أسبابًا لما يرتبه عليها من إثابة العابدين، وإجابة السائلين، وهو سبحانه يعلم الأشياء على ما هي عليه، فعلمُه بأن هذا محتاجٌ أو هذا مذنبٌ لا ينافي أن يأمرَ هذا بالتوبةِ والاستغفارِ، ويأمرُ هذا بالدعاءِ وغيره من الأسباب التي تقضي بها حاجته، كما يأمر هذا بالعبادةِ والطاعةِ التي بها ينالُ كرامتَه«([61]).

مناقشة الشبهة الثالثة:

وهي قولهم أن فيه سوء الأدب واتهام الله تعالى بعدم إعطائه لعبده ما يستحق، وإن ترك الدعاء من مقام الخواص:

الجواب: إنه يلزم على هذا القول أن الأنبياء أساءوا الأدب مع الله تعالى، وأنهم اتهموه، وقد طلبوا من الله تعالى حوائج الدنيا والآخرة، وقد حكى اللهُ لنا ابتهالاتهم ومناجاتهم التي استغاثوا فيها بالله تعالى، وطلبوا حوائج الدنيا والآخرة.

قال المقبلي اليمني - رحمه الله - في رد هذا القول: إنه »بدعة خلاف صرائح الكتابِ والسنة، فإن الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - لم يتحاموا طلب الحوائج، وأثنى اللهُ عليهم لنقتدي بهم، وعلمنا أيضًا في آياتٍ كثيرةٍ طلبَ الحوائج، فهذه الدعوى من المتصوفةِ وإن كان ظاهرُها أنها خصلة جميلة، فهي دعوى كاذبةٌ لأنه لا أحد أعرفَ في الوثوق بربه من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وهكذا تكون البدع التي يغتر بها حسنة الظاهر قبيحة المخبر، وما يعقلها إلا العالمون«([62]).

فتبين بهذا أنه ليس في الدعاء سوء الأدب ولا اتهام الله تعالى، بل هو دأب عباد الله الصالحين، ومقام خواص عباد الله من النبيين والصديقين والشهداء، لكن إذا دعا الرجل بما فيه حظ النفس يمكن اعتباره من حظ العامة.

قال شيخ الإسلام - رحمه الله - ما معناه: يمكن أن يعتبر الدعاء من حظوظ العامة إذا كان الذي دعا به من الأمور المباحة التي فيها حظوظ للنفس، وأما إذا كان يدعو بالاستعانة على طاعات الله وعلى الاستقامة والنصر على أعداء الله، والتمكن في الدعوة إلى الله فلا، ففي هذه الحالة فالدعاء إما واجب أو مستحب، وأما إذا دعا الله في حصول المحرمات فهو من الظالمين لأنفسهم([63]).

مناقشة تعلق بعضهم بأن الدعاء لا يجوز بما ثبت أنه مضمون الحصول كدعاء آخر البقرة: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا...} [البقرة:286].

الجواب: إن أحسن الدعاء ما ورد في القرآن والسنة فكيف يُنهى عنه، ثم لو كان الدعاء بتحصيل ما هو مضمون الوقوع ممنوعًا لما ساغ الدعاء بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ولا بالوسيلة له، ولا بلعن الشياطين، ونحو ذلك مما فيه إظهار العجز والعبودية، أو الرغبة بحب النبي صلى الله عليه وسلم أو حب الدين أو النفرة عن فعل الكافرين([64])، ثم إنه يمكن حمله على طلب مثله أو الإجابة بإعطاء العوض في الدنيا والآخرة([65]).



([1]) اللمع، الطوسي، ص(333).

([2]) الفتاوى، ابن تيمية، (10/35)، و(8/284)، وبدائع الفوائد، ابن القيم، (2/245).

([3]) مدارج السالكين، ابن القيم، (2/118)، والفتاوى، ابن القيم، (8/287).

([4]) ذهب إلى هذا القرافي في الفروق، (4/274-278)، وحاشية ابن عابدين على الدُّر، (1/522).

([5]) الرسالة القشيرية، (2/533)، وإتحاف السادة المتقين، محمد الزبيدي، (5/177)، والأزهية، الهروي، ص(45).

([6]) اللمع، الطوسي، ص(332)، وتلبيس إبليس، ابن الجوزي، ص(337)، ونسبه إلى أبي العباس بن عطاء.

([7]) الرسالة القشيرية، (1/427).

([8]) العلم الشامخ، صالح بن مهدي، ص(40، 460)، نسبه إلى ابن عطاء.

([9]) الرسالة القشيرية، (2/533).

([10]) الرسالة القشيرية، (2/545)، والعلم الشامخ، صالح بن مهدي، ص(38).

([11]) فقد حاول القشيري تأويله إلى أنه يشير إلى سقوط المطالبات وانتفاء الاختيار، وأوَّله صاحب عوارف المعارف إلى أنه مشغول بالعبودية وتام الثقة بربه وبعلمه، اهـ. انظر الرسالة، ص(545)، والعلم الشامخ، صالح بن مهدي، ص(38).

([12]) ذكره البغوي في تفسيره، (3/350)، حكاية عن كعب الأحبار، وانظره تحت عنوان: ب- المذهب الثاني: إن الدعاء لا يجلب به منفعه، ولا يدفع به مضرة. وانظر الاستدلال بهذه الحكاية في تفسير الرازي، (14/135)، وروح المعاني، الألوسي، (2/82)، وفي الرسالة القشيرية، (1/420).

([13]) جامع الرسائل، ابن تيمية، (1/92-93)، والتحفة العراقية، ابن تيمية، ص(47)، والفتاوى، ابن تيمية، (10/22)، (8/138).

([14]) جامع الرسائل، ابن تيمية، (1/94)، والفتاوى، ابن تيمية، (8/176).

([15]) انظر في هذا الجواب: مدارج السالكين، ابن القيم، (2/119)، وزاد المعاد، ابن القيم، (3/481) و(4/16)، والجواب الكافي، ابن القيم، ص(15)، وشرح الطحاوية، ص(460)، الفتاوى، ابن تيمية، (8/139)، وفيض القدير، المناوي، (2/541).

([16]) رواه أحمد في مسنده، (2/448)، وقال الهيثمي: رجاله ثقات. وفي بعضهم خلاف، المجمع، (10/148)، وقال المنذري: رواه أحمد بإسناد لا بأس به، الترغيب، (2/272).

([17]) شأن الدعاء، الخطابي، ص(13)، وإحياء علوم الدين، الغزالي، (1/390)، وشرح الطحاوية، ص(461)، وتفسير الرازي، (14/135)، والأزهية، الهروي، ص(35-39).

([18]) انظر الجواب هذا في منهاج السنة، ابن تيمية، (5/362).

([19]) رواه البخاري، (6605)، ومسلم، (2647)، وله شاهد من حديث عمران بن الحصين رواه البخاري، (6596)، ومسلم، (2649)، ومن حديث جابر رواه مسلم، (2648).

([20]) رواه الترمذي، (3065)، وابن ماجه، (3437)، وأحمد في مسنده، (3/421)، وكلهم من طريق الزهري عن أبي خزامة عن أبيه، وقد اختلف فيه كما في الإصابة، (7/106)، هل هو تابعي أم صحابي والراجح أنه صحابي، وأخرجه الحاكم من طريق الزهري أيضًا، فجعله من مسند حكيم بن حزام، وذكر الاختلاف فيه على الزهري، وصححه ووافقه الذهبي، المستدرك، (1/32).

([21]) جامع الرسائل، ابن تيمية، (1/94)، ومنهاج السنة، ابن تيمية، (3/232).

([22]) زاد المعاد، ابن القيم، (4/16)، ومدارج السالكين، ابن القيم، (1/200)، والفتح، (11/149).

([23]) انظر هذا الوجه في شأن الدعاء للخطابي، ص(9-12)، والمنهاج في شعب الإيمان، الحليمي، (1/540-541).

([24]) الفتاوى، ابن تيمية، (8/547-548).

([25]) رواه مالك في الموطأ، (22).

([26]) لم أجد هذا الأثر بهذا اللفظ، ولكن هناك عدة روايات بمعناه، فقد رُوي عن عمر من حديث أبي هريرة وعن سراقة، وابن عباس، حديث عمر أخرجه ابن أبي عاصم عن أبي هريرة في السنة، (2/72)، (رقم: 165) وصححه الألباني، وفيه قال - أي عمر - فالآن نجتهد، والآجري، ص(179)، وابن حبان، (1807)، وحديث سراقة أخرجه ابن أبي عاصم، (رقم:167)، والطبراني في الأوسط كما في المجمع، (7/195)، وفيه قال سراقة: الآن نجتهد، وقال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح، وقال الألباني: إسناده صحيح على شرط مسلم، وأصل الحديث في مسلم، (4/2040)، وحديث ابن عباس أخرجه البزار كما في كشف الأستار، (4/19)، والطبراني كما في المجمع، (7/195)، وقال الهيثمي: ورجال الطبراني ثقات وفيه قال القوم بعضهم لبعض: فالجد إذًا.

([27]) شفاء العليل، ابن القيم، ص(56).

([28]) يراجع: شفاء العليل، ابن القيم، ص(144-171)، فإنه ذكر أمورًا كثيرة وضرب أمثلة رائعة في الموضوع، وبدائع الفوائد، ابن القيم، (2/35-36).

([29]) شأن الدعاء، الخطابي، ص(132)، والفتاوى، ابن تيمية، (8/76)، ومدارج السالكين، ابن القيم، (2/223)، وزاد المعاد، ابن القيم، (2/444-445)، وإغاثة اللهفان، ابن القيم، (1/24)، ومنهاج السنة، ابن تيمية، (3/26، 78، 232)، وطريق الهجرتين، ابن القيم، ص(38)، والتدمرية، ابن تيمية، ص(62).

([30]) رواه مسلم، (2664).

([31]) مدارج السالكين، ابن القيم، (1/200)، ومنهاج السعادة النبوية، عبد الله بن طاهر الحسيني، (3/232)، وطريق الهجرتين، ابن القيم، ص(38).

([32]) تلبيس إبليس، ابن الجوزي، ص(365).

([33]) منهاج السنة النبوية، ابن تيمية، (5/362)، وانظر: شفاء العليل، ابن القيم، ص(396).

([34]) تلبيس إبليس، ابن الجوزي، ص(304-305).

([35]) نسبه في منهاج السنة، (5/366) إلى الغزالي وابن الجوزي.

([36]) الفتاوى، ابن تيمية، (8/169، 170)، ومنهاج السنة، ابن تيمية، (5/366)، والآداب الشرعية، ابن مفلح، (2/286).

([37]) الفتاوى، ابن تيمية، (8/167، 169، 133)، وبيان تلبيس الجهمية، ابن تيمية، (2/457).

([38]) الفتاوى، ابن تيمية، (8/166).

([39]) الفتاوى، ابن تيمية، (8/175-177)، ويراجع زاد المعاد، ابن القيم، (2/363)، وشفاء العليل، ابن القيم، ص(396).

([40]) تلبيس إبليس، ابن الجوزي، ص(285).

([41]) الفتاوى، ابن تيمية، (10/28)، وجواب أهل العلم والإيمان، ابن تيمية، ص(173).

([42]) انظر هذا الوجه في فتاوى العز بن عبد السلام، ص(99)، وزاد المعاد، ابن القيم، (4/15-16)، و(3/481)، وتفسير الرازي، (14/135)، وتلبيس إبليس، ابن الجوزي، ص(287).

([43]) فتاوى العز بن عبد السلام، ص(99).

([44]) انظر هذا الوجه في منهاج السنة، ابن تيمية، (23/3، 55، 56، 57)، وزاد المعاد، ابن القيم، (4/16)، والتدمرية، ابن تيمية، ص(61).

([45]) انظر هذا الوجه في الفتاوى، ابن تيمية، (2/323)، ومنهاج السنة، ابن تيمية، (3/81).

([46]) العز بن عبد السلام، فتاويه: ص(99)، وانظر هذا الإلزام في تفسير الرازي أيضًا: (14/135).

([47]) جامع الرسائل، ابن تيمية، (1/92).

([48]) منهاج السنة، ابن تيمية، (3/65، 66، 84، 150، 230-231)، والفتاوى: (2/323)، والتدمرية، ابن تيمية، ص(61).

([49]) هو عبد الله بن علي أبو نصر السراج الزاهد شيخ الصوفية وصاحب كتاب اللمع، (ت:378هـ)، العبر: (2/151).

([50]) اللمع ص(289)، ذكره عن أبي عثمان الصوفي.

([51]) تلبيس إبليس، ابن الجوزي، ص(337).

([52]) الفتاوى، ابن تيمية، (8/280)، وجامع الرسائل، ابن تيمية، (1/172).

([53]) الفتاوى، ابن تيمية، (8/195-196).

([54]) معالم التنزيل، البغوي، (3/250).

([55]) قاعدة في التوسل، ابن تيمية، ص(35).

([56]) تنزيه الشريعة، ابن عراق الكناني، (1/250).

([57]) السلسلة الضعيفة، الألباني، (1/28) (رقم: 21).

([58]) رواه البخاري، (4563).

([59]) تدريب الراوي، جلال الدين السيوطي، (1/277)، وفتح المغيث، السخاوي، (1/269).

([60]) رواه عثمان الدارمي في النقض على المريسي، ص(95)، وأبو نعيم في الحلية، (1/19)، ومن طريقه ابن قدامة في العلو، (42)، ونسبه ابن كثير في التفسير، (3/184)، وابن القيم في تهذيب السنن، (7/113) إلى مسند الحسن بن سفيان والهيثمي في الزوائد، (8/201)، إلى البزار، قال الذهبي في العلو، ص(21): حسن الإسناد.

([61]) قاعدة في التوسل، ابن تيمية، ص(36).

([62]) العلم الشامخ ص(38-40)، وذكر نحوه في ص(460).

([63]) الفتاوى، ابن تيمية، (10/36، 18 و596).

([64]) حاشية ابن عابدين على الدر، (1/522).

([65]) أنوار البروق، القرافي، (4/274).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
شبهة الدعاء لا يجلب به منفعة ولا يدفع به مضرة.doc doc
شبهة الدعاء لا يجلب به منفعة ولا يدفع به مضرة.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى