أهمية اليقين بالله

أهمية اليقين بالله





الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ إن اليقين بقدرة الله وعظمته هو سرُّ الارتقاء الروحي الذي لا يصل إليه إلا الموفَّقون من عباده، وهو مطلب كل عاقل، ولكن تبقى الهمة والعزيمة والمجاهدة النفسية التي لا يقوم بها إلا من فهم ووعى حقيقته، ورسخ ذلك الأمر في قلبه فضحَّى وكابد لبلوغ هذا المقصد العالي.
واليقين بالله حتى يرسخ في القلب إنما يعني أنه لابد من تفريغ القلب من أي شك وريب، ونفي كل ما سوى عظمة الله سبحانه، ليخلو القلب من كل الشوائب التي تحول دون رسوخ اليقين الذي يغرس ويثبت بعد النفي والتخلي، وسبيل تمكن القلب من كل ذلك.
هذا وإن لليقين أهمية قصوى؛ إذ به تتغير حياة المرء، وتكمن هذه الأهمية في الآتي:
  • يدفع اليقين صاحبَه إلى أن يرى الأشياء على حقيقتها:
إن الصفاء الروحي الذي يتميز به الموقنون يجعل الإنسان يُنْزِلُ كل شيء منزلته؛ فصاحب اليقين بالله يُنْزِلُ المخلوقَ منزلته، فلا يُعَظِّم بشرًا مثله تعظيمًا يجعل منه هو الذليل المهين فيطيعه ولو في معصية الله، بل تجعل منه إنسانًا عزيزًا مستعليًا بما أكرمه الله من قدر، لا يطأطئ رأسه تذللًا لمخلوق مثله مهما كان شأنه، حيث تولد في قلب المتيقن أن الله هو كل شيء في هذا الوجود، وما عداه مفتقر إليه؛ مصداقًا لقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15].
كذلك رسوخ اليقين هذا يُنْزِل أي مخلوق منزلته من حيث كونه ضعيفًا لا حول له ولا قوة، إذ كل شيء بيد الله، جاعلًا في قرارة نفسه أن عظمة الله فوق عظمة كل عظيم، وأن ناصية كل مخلوق بيد الله، فكما أن الله قد ذلَّل الجمل للإنسان، فهو القادر أن يذلِّل كل مفترس ليكون - عند صاحب اليقين - وديعًا، وما ذلك على الله بعزيز.
فالله سبحانه هو من جعل من النار الحامية المحرِقة بردًا وسلامًا وأمنًا على سيدنا إبراهيم عليه السلام، وهو سبحانه من جعل الحوت المفترس سفينةَ نقلٍ لسيدنا يونس عليه السلام، وهو سبحانه من جعل العصا حيَّةً تسعى تلتهم كل ما ألقاه سحرةُ فرعون، وهو سبحانه من أخرج حيوانًا ذا روح من جبلٍ صلدٍ أصم وهو ناقة صالح عليه السلام، وهو سبحانه جلَّت قدرته من جعل البحر وسيلةَ نجاةٍ إذ انشق لسيدنا موسى عليه السلام وقومه، ووسيلة قتل وهلاك لفرعون وقومه.
كذلك أيضًا الموقنون بقدرة الله يُنْزِلُ الأسباب منزلتها، فلا يُعَظِّم شأنها، وإنما يُعَظِّم المُسَبِّب جل وعلا، فوجود خاصية العلاج في الدواء لا تجعله ينظر إلى أن الشافي هو الدواء أو الطبيب، بل الشافي هو الله سبحانه، جعل الدواء سببًا إذ جعل فيه خاصية ينتفع بها المريض، قادرٌ سبحانه أن يسلب منه تلك الخاصية.
  • اليقين بالله طريقٌ إلى الإحسان:
عندما تجري مشاعرُ اليقين هذه في عروق الإنسان وأحاسيسه، فإن المرء يصل بها إلى الدرجة القصوى من الإيمان وهي درجة الإحسان، فمن كان لله أعرف كان له أخوف، والإحسان في حقيقته ثمرةُ الاستشعار الدائم لله سبحانه، والمراقبة المستمرة له بالقلب.
وهو الذي عبَّر عنه النبيُّ صلى الله عليه وسلم عندما سأله جبريلُ عليه السلام عن الإحسان فقال صلى الله عليه وسلم: ((الإحسانُ أنْ تَعْبُدَ اللهَ كأنكَ تراه، فإنْ لم تكنْ تراه فإنَّه يراك))([1])، وهذا تعبيرٌ منه - صلوات الله وسلامه عليه - لا يقتصر على شخص يصفُّ قدميه في الصلاة، أو يلهج لسانُه بالذكر فحسب، بل هو وصفٌ للإنسان لأن يقيم أوامر الله كلها، في شئون الحياة كافة؛ فمجال الإحسان ربح الدائرة، حدوده وظيفة الإنسان في الحياة من المهد إلى اللحد، وهي مرتبة تتناول شئون الدنيا وشئون الآخرة معًا.
فما إن يشرق معنى الاستشعار بمراقبة الله تعالى في ذهن المرء وهو يكدح في هذه الحياة؛ حتى يحس بالأنس بخالقه، فيستمر مجتهدًا إذ علم أن الله لا يضيع أجرَ من أحسن عملًا، مهما كانت المحنة والمشقة التي يواجهها في سبيل إنجاز ذلك العمل المشروع، إذ هو مُسْتَحضر في ذهنه قاعدةً لا تَخْلِف، وقانونًا لا يحرف.
فهو وعد الله تعالى لعباده: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90]، فهو العدل الإلهي الذي لا يخلف، قالها يوسف عليه السلام لإخوته متذكِّرًا منةَ الله عليه([2])، كما يقولها لسانُ حالِ كلِّ مُوفَّقٍ للاستقامة إذا ما نال خيرًا في هذه الحياة، فهو إحسان المرء على نفسه بالطاعة المطلقة، والاستسلام التام والانقياد الكامل لأوامر الله سبحانه، الذي خلقه، والذي يعلم ما يَسُرُّه ويَضُرُّه، فَحُقَّ له بعد أن رَوَّضَ نفسه ووَطَّدَها على الإحسان أن ينال ما وعده اللهُ به من إحسان([3])؛ يقول سبحانه وتعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60].
والمرء المتيقن بالله سبحانه وهو يشق طريقه لبلوغ درجة الإحسان، لا يأمل أن تتخلى عن نفسه الأوصاف المذمومة حتى وإن بلغ درجة الإحسان، لأن هذا يخالف طبيعة النفس وصفاتها وخصائصها التي خلقها الله عليها، وإن كل ما سيحدث إذا ما اجتهد في ذلك هو غلبة صفات الخير، وضبط صفات الشر وتوجيهها بما يرضي اللهَ سبحانه، وبذلك يتم تطهيرُ النفس من نزعات الشر والإثم، وتخليها عن الأخلاقِ المذمومةِ، وتحليها بالأوصافِ المحمودة في شتى شئون الحياة([4]).
تطهيرها بتحويل الصفات المذمومة إلى ما هو محمود، فصفةُ الكراهية سَتُسَخَّر في كُرهِ من عادى اللهَ ورسولَه وحاربَه، وصفة الحقد ستُوجَّه ضد الحاقدين على الإسلام وأهله، وصفة الغضب ستُوجَّه ضد من انتهك حرمات الله.
فهذه الصفات وأمثالها طاقات فاعلة في النفس الإنسانية لا ينبغي تجاهلها والتقليل من شأنها إذ بدونها لن تستمر الحياة؛ فالخوف ممقوتٌ إن وُجه في الخوف من المخلوق، وهو محمودٌ إن وُجه في الخوف من الخالق: {فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} [البقرة: 150]، هذا فضلًا عن أن طاقات الخير ينبغي أن تكون مفرغة في كل ما شرعه اللهُ سبحانه ورسولُه محمد صلى الله عليه وسلم.
  • اليقين بالله سبحانه طريقٌ لنيل السعادة في الدنيا:
إن أهل اليقين تكشَّفت لهم حقيقة الدنيا من خلال شفافية الروح وصفاء السريرة التي يتمتعون بها، ولذلك فهم أبعد الناس تأثرًا بتقلباتها، مستوٍ عندهم حلوها ومرها، وقد وصف ابن الجوزي عيشةَ هذا الصنف من الناس فقال: (ليسَ في الدنيا ولا في الآخرةِ لطيبِ عيشةٍ من العارفين باللهِ عز وجل، فإن العارفَ به مستأنسٌ به في خلوتِه، فإن عمَّتْ نعمةٌ عَلِمَ من أهداها، وإن مرَّ مُرٌّ حلا مذاقه في فِيه لمعرفتِه بالمُبْتَلي، وإن سألَ فتعوقَ مقصودُه صارَ مرادُه ما جرى به القدرُ علمًا منه بالمصلحةِ بعد يقينه بالحكمةِ وثقتِه بحسنِ التدبيرِ).
ثم تطرَّق إلى وصفه والعامل الذي أدى به إلى هذا الحال؛ فقال: (وصفةُ العارفِ أن قلبَه مراقبٌ لمعروفِ اللهِ، قائمٌ بين يديه، ناظرٌ بعينِ اليقينِ إليه، قد سرى من بركةِ معرفتِه إلى الجوارح ما هذَّبها، إذا تسلطَ عليه أذى أعرضَ نظره عن السببِ، ولم يرْ سوى المُسبب فهو في أطيبِ عيشٍ معه، إن سكتَ تفكرَ في إقامةِ حقِّه، وإن نطقَ تكلمَ بما يرضيه، فهذا الذي لا همَّ عليه في الدنيا ولا غمَّ عنده وقتَ الرحيلِ عنها)([5]).
فمن كانت هذه صفاته لاشك أنه سيكون سعيدًا في هذه الحياة، فهو متصفٌ بصفات المؤمن الحق الموصوف في الحديث الشريف: ((عجبًا لأمر المؤمن؛ إن أمرَه كلَّه له خير، وليس ذلك إلا للمؤمنِ، إن أصابَتْه سراء شكرَ فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبرَ فكان خيرًا له))([6]).
إن اليقين يُعَدُّ طريقًا لنيل السعادة في الحياة الدنيا، كون اليقين يدفع صاحبَه إلى فهم حقيقة هذه الحياة فلا يندفع وراءها، فهو يعلم أنه لم يعشْ للذَّات الدنيا، لذلك فهو محتسبٌ كل ما يصيبه فيها لله، فهو يفرح إذا ازداد بلاؤه؛ لعلمه أن أكثر الناس بلاءً هم الأنبياء ثم الذين يلونهم، فهو لا يَزِنُ الأمور في هذه الحياة إلا بمقياس الآخرة، فالآخرة عندهم هي الشريفة وهي مقصد الخلق، وما الدنيا إلا ممر ومعبر إليها، والعمل من أجل الآخرة عين الحكمة والصواب.
ففكره لا يجول في أمر من أمور الدنيا إلا ويذكر به أمور الآخرة، لأن الغالب عليه أمر الآخرة، وكل إناء ينضح بما فيه، فلو رأى ظُلمة تذكر ظُلمة القبر، وإن سمع صوتًا هائلًا تذكر نفخة الصور، وإن رأى نعيمًا ذكر نعيم الجنة، وإن رأى عذابًا تذكر النار([7]).
 
الهوامش:
([1]) رواه البخاري، (4777)، ومسلم، (9).
([2]) في ظلال القرآن، سيد قطب، تفسير آية (90) من سورة يوسف.
([3]) المصدر السابق، تفسير آية (60) من سورة الرحمن.
([4]) منهج الإسلام في تزكية النفس، أنس كرزون، (1/12).
([5]) صيد الخاطر، ابن الجوزي، ص(138).
([6]) رواه مسلم، (2999).
([7]) مختصر منهاج القاصدين، ابن قدامة، ص(31).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
أهمية اليقين بالله doc
أهمية اليقين بالله pdf

ذات صلة

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى