إن اليقين من أهم الأعمال القلبية وأرفعها شأنًا عند الله، فهو لبُّ الإيمان وخلاصته، فإذا كان الصبر نصف الإيمان؛ فـ((اليقينُ الإيمانُ كلُّه))([1]).
فاليقين من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد، وبه تفاضلَ العارفون، وفيه تنافسَ المتنافسون، وإليه شمَّر العاملون، وهو مع المحبة ركنان للإيمان، وعليهما ينبني وبهما قوامه، وهما يُمِدَّان سائر الأعمال القلبية والبدنية وعنهما تصدر، وبضعفهما يكون ضعف الأعمال وبقوتهما تقوى الأعمال، وجميع منازل السائرين إنما تُفتتح بالمحبةِ واليقين، وهما يثمران كل عمل صالح وعلم نافع وهدى مستقيم([2]).
ومن خلال استعراض النصوص التي وردت بشأن اليقين يتضح لنا جليًّا أهمية اليقين، فلقد ورد في القرآن الكريم والسنة المطهرة إضافةُ اليقين إلى آيات الله المتلوة والكونية، وإلى اليومِ الآخِر بما فيه من أمورٍ عظام، كما نجد فيهما بيان ما يحصل به اليقين وبعض النتائج المرتبة عليه، كما يَرِدُ فيهما ذكرُ اليقين من أوصاف أهل الإيمان، وذم من لا يقين عنده.
النصوص المتعلقة بذكرِ مُتَعَلقِ اليقين
اليقين يتعلق بالأمور الإيمانية المتفرعة في مجموعها عن ثلاثة أمور؛ هي:
- توحيد الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، وبألوهيته وربوبيته، فهذا لابد أن يكون على اليقين، ولا يُقبل فيه الشك والتردد أبدًا.
- الإيمان بالغيب، ومنه ما أخبرنا اللهُ سبحانه وتعالى به من أمور المعاد وتفصيله، والجنة والنار، وغير ذلك من الأمور الغيبية.
- الأوامر والنواهي المتضمنة في شرع الله عز وجل الذي أنزله على رسله عليهم الصلاة والسلام، وأودعها كتبَه التي أنزلها على رسله.
فهذه الأمور الثلاثة هي أصول الأمور الإيمانية التي يجب فيها اليقين([3])؛ جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ((اذهبْ بِنَعْلي هاتين، فمنْ لَقِيتَ من وراء هذا الحائط يشهدُ أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبُه فبَشِّرْه بالجنةِ))([4]).
يخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن من شهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها غير شاكٍّ فيها فله الجنة، ومن المعلوم أن تلك الشهادة تتبع بقية أركان الإيمان، إذ لا يمكن أن يشهد أن لا إله إلا الله ويكفر بأنبيائه ورسله، أو كتبه، أو باليوم الآخر أو القدر، فهذه كلها داخلة في تلك الشهادة؛ لأن إثبات الألوهية لله وحده يقتضي عبادة الله وحده بما شرعه على لسان أنبيائه ورسله، والتصديق بكل ما أخبر اللهُ به في كتبه المُنَزَّلَة على رسله([5]).
ولما كان الإيمان باليوم الآخر أحد أركان الإيمان، وأنه من أعظم البواعث على الرغبة والرهبة والعمل، ولما وقع فيه الشكُّ والريبُ من قِبَلِ الكفارِ كما قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَ مَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32]؛ نجد أن القرآن ينوه كثيرًا على اختصاصه باليقين الذي هو أعلى درجات الإيمان، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4].
قال الشيخ السعدي - رحمه الله -: ({وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}، والآخرة اسمٌ لما يكونُ بعدَ الموتِ، وخصَّه بالذكرِ بعد العمومِ؛ لأنَّ الإيمانَ باليومِ الآخرِ أحدُ أركانِ الإيمان، وأنه أعظمُ باعثٍ على الرغبةِ والرهبةِ والعملِ)([6]).
وقال تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد: 2]، يبين اللهُ سبحانه وتعالى لعباده بعض الآيات الدالة على قدرته وعظمته لنستدل بها ونتيقن منها أن لقاءه سبحانه يوم القيامة حقُّ لا ريب فيه.
قال الشيخ السعدي - رحمه الله -: (ويُنَزِّلُ الكتبَ الإلهيةَ على رسلِه، ويبينُ ما يحتاجُ إليه العبادُ من الشرائع والأوامر والنواهي، ويُفَصِّلُها غايةَ التفصيلِ ببيانِها وإيضاحِها وتمييزِها؛ {لَعَلَّكُمْ} بسببِ ما أخرجَ لكم من الآيات الأفقيةِ والآيات القرآنيةِ {بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ}، فإن كثرةَ الأدلةَ وبيانَها وإيضاحَها من أسبابِ حصولِ اليقينِ في جميعِ الأمورِ الإلهية، خصوصًا في العقائد الكبارِ؛ كالبعثِ والنشورِ والإخراجِ من القبورِ)([7]).
والخلاصةُ أن هذه النصوص وما في معناها تدل على أن اليقين يتعلق بالأمور الإيمانية كلها، واختص بالآخرة لأهميتها.
المراجع:
([1]) رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم ((بُني الإسلامُ على خَمْس))، (5)، عن ابن مسعود رضي الله عنه، أخرجه تعليقًا مجزومًا به.
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.