درجات الرجاء

قال الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربِّ العزة: ((أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وأنا معه حينَ يَذْكُرُنِي، إنْ ذَكَرَنِي في نفسِه ذَكَرْتُه في نفسِي، وإن ذكرَنِي في ملأٍ ذكرتُه في ملأٍ هم خير منهم، وإن تقرَّبَ منِّي شبرًا تقربتُ إليه ذراعًا، وإن تقرَّب إليَّ ذراعًا تقربتُ منه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيتُه هرولةً))[1].

فرجاءُ المؤمن على درجات:

- (رجلُ عَمِلَ حسنةً فيرجو قبولها.

- ورجل عمل سيئة فيرجو غفرانها)[2].

أما الأول: فرجلٌ عَمِلَ بطاعة اللهِ على نورٍ من الله، فهو راج ثوابه، لأن الأعمال متروكة لله تعالى، إما يقبلها فيجعلها في ميزان حسنات العبد يوم العرض عليه بإحسانه وكرمه، وإما يردها ويحبطها إذا صحبها معصية عَلِقَ بها شيءُ من الرياء.

لذلك قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]، فمعنى ذلك أن لا تبطلوا أعمالكم بالكفر والنفاق والعجب والرياء، فالله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا لوجهه الكريم، لذلك كان لابد من الصبر عند عمل القربات ليكون لها ثمرات يوم الحساب تعود بالفلاح على صاحبها.

والمؤمن مع هذا كله يكون راجيًا لله تعالى في قبول عمله، وليس من كريمٍ أكرمَ من الله تعالى، وليس من رحيمٍ أرحمَ من الله تعالى؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((جعلَ اللهُ الرحمةَ مائة جزءٍ، فأمسكَ عنده تسعةً وتسعين، وأنزلَ في الأرضِ جزءًا واحدًا، فمن ذلك الجزء تتراحمُ الخلائقُ، حتى ترفع الدابةُ حافرَها عن ولدِها خشيةَ أن تصيبَه))[3].

فهذا الحديث من أحاديث الرجاء والبشارة للمسلمين، لأنه إذا حصل للإنسانِ من رحمةٍ واحدةٍ في هذه الدار المبنية على الأكدار بالإسلام والصلاة والرحمة في قلبه، وغير ذلك مما أنعم الله عليه به، فكيف الظنُّ بمائةٍ في الدار الآخرة وهي دار القرار ودار الجزاء[4].

وأما الثاني: فرجلٌ أذنبَ ذنبًا فهو راج لمغفرة الله تعالى وعفوه وإحسانه وجوده وكرمه، فهو يسمع قولَه تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 70]، فيكون راجيًا لفضلِ الله تعالى بقبول التوبة، بعد أن يكون قد جاء بها على وجهها.

والتوبة لابد لها من شروط حتى تكون مقبولة عند الله تعالى؛ أولها ترك المعصية، ثم الندم على ما فات، والعزم على ألا يعود إليها أبدًا، ورد الحقوق إلى أصحابها إن وُجدت، فبهذه الشروط يكون قد تاب توبةً نصوحًا.

فالله تعالى هو خالقُ البشر وهو أعلمُ بهم، فهو يعلمُ ضعفَ النفس البشرية، وأنها لا تحيا دون ذنوب مهما بلغت بالترقي؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسِي بيدِه، لو لم تذنبوا لذهبَ اللهُ بكم ولجاءَ بقومٍ يُذْنِبُون فيستغفرون اللهَ فيَغْفِر لهم))[5].

وحسبُ التائبِ ترغيبًا بالتوبة قوله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]، وقد قيل في سبب نزول هذه الآية: أن (أناسًا من أهلِ الشركِ كانوا قد قِتِلوا فأكثروا، وزنوا فأكثِروا، ثم أتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تدعو إليه لحسن، إن تخبِرُنا لِمَا عملناه كفارة؛ فنزلتِ الآيةُ الكريمةُ)[6].

ويا لكرامة العبد التائب على الله! فإنه لا يغفرُ الذنبَ فحسب، وإنما يفرحُ لتوبةِ عبده، وهو العزيز الذي لا تضرُّه معصيةُ عاصٍ، الغنيُّ الذي لا تنفعُه طاعةُ محسنٍ!! فهل هناك كرامة للتائب أكثر من هذا؟!

في الحديث الشريف فيما يرويه النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن ربِّه قال: ((لله أفرحُ بتوبةِ عبدِه من رجلٍ نزلَ منزلًا، وبه مهلكةٌ، ومعه راحلته عليها طعامُه وشرابُه، فوضعَ رأسَه فنامَ نومةً، فاستيقظَ وقد ذهبت راحلتُه، حتى اشتدَّ عليه الحرُّ والعطشُ أو ما شاء الله، قال: أَرْجِعُ إلى مكاني، فَرَجَعَ فنامَ نومةً، ثم رفعَ رأسَه فإذا راحلته عنده))[7].

ومن فضلِ اللهِ تعالى وكرمه على التائب أنه لا يكتفي بستره بالدنيا، بل يستره عند الحساب عن أعين الخلق من إنسٍ وجنٍّ وملائكةٍ؛ ففي الحديث الشريف: ((يُدْنَى المؤمنُ يومَ القيامةِ مِنْ ربِّه عز وجل حتى يضعَ عليه كَنَفَه^[8]، فيُقَرِّرُه بذنوبه فيقول: هل تعرف؟ فيقول: أي ربِّ أَعْرِف، قال: فإنِّي قد سترتُها عليك في الدنيا وإنِّي اغفرُها لك اليوم، فيُعطى صحيفة حسناته، وأما الكفارُ والمنافقون فيُنادى بهم على رؤوسِ الخلائقِ: هؤلاء الذين كذبوا على اللهِ))[9].

ففي نهاية المطاف نلاحظ أن رجاء العبد على درجاتٍ؛ فمنهم من يعمل ويقدِّم لنفسه خيرًا، ويرجو من الله تعالى أن يقبلَ منه ويضعها في ميزان حسناته، ومنهم من عمل في السيئات وندم وتاب منها، فهو يرجو العلي العظيم أن يغفرها له، وليس هناك أكرم من الله الكريم، وليس هناك من يعفو ويصفح مثل الله الحكيم، فتبارك اللهُ عما يصفون.