ومن أساليب القرآن والسُّنة في الترغيب بالرجاء ما جاء فيهما من ذكرِ سعة رحمة الله وشمول مغفرته، مما يجعلُ العبدَ يبتعدُ كلَّ البعد عما يضاد الرجاء، وهو اليأس والقنوط.
ومما ورد في سعةِ رحمةِ الله وشمول عفوه ومغفرته:
قولُ الله تعالى: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 12].
وقال تعالى: {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 156].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لمَّا قضى اللهُ الخلقَ كتبَ في كتابِه فهو عندَه فوقَ العرشِ: إنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي))[1].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ اللهَ عز وجل خلقَ مائةَ رحمةٍ، فمنها رحمةٌ يتراحمُ بها الخلقُ، فبها تعطفُ الوحوشُ على أولادِها، وأَخَّرَ تسعةً وتسعين إلى يومِ القيامةِ))[2].
فذكرَ اللهُ في هاتين الآيتين أنَّ الله كتب على نفسه الرحمة، وأنه سبحانه رحيمٌ بعباده، لا يعجِّلُهم بالعقوبة، بل يقبل منهم الإنابة والتوبة[3]، وأن رحمتَه وَسِعَتْ كلَّ شيءٍ، وَسِعَت المؤمن والكافر في الدنيا، ويخصُّ اللهُ بها المؤمنين يوم القيامة[4].
كما أخبرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن رحمتَه غلبتْ غضبَه؛ بمعنى أن رحمته أوسع وأشمل من غضبه، وأن لله مائة رحمة، منها رحمة يتراحم بها الخلقُ في الدنيا، وتسعة وتسعون ادَّخَرَها إلى يوم القيامة، فكل هذه النصوص تجعلُ العبدَ طامعًا في رحمة الله وراجيًا مغفرته، كما يجعل المؤمنَ باللهِ المصدقَ لرسولِه مجتنبًا اليأسَ والقنوط من هذه الرحمة والمغفرة.
كما قال تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]؛ وكأن الله يقول: أيها العبد الذي تعرف أن اللهَ غفورٌ رحيم، وأن رحمته وَسِعَت كلَّ شيءٍ وغلبت غضبَه، مهما فعلتَ من الذنوبِ - ما عدا الشرك -، وشعرتَ بعظمةِ الباري وسعة رحمته وقدرته حقَّ التقديرِ لا تقنطْ من رحمةِ الله، فإنَّ اللهَ يغفر الذنوبَ جميعًا.
كما جاء في الحديث القدسي، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((قالَ اللهُ تعالى: يا ابن آدم، إنَّك ما دعوتَني ورجوتَني غفرتُ لكَ ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بَلَغَتْ ذنوبُك عنانَ السماءِ ثم استغفرتَني غفرتُ لك ولا أبالي، يا ابن آدم! إنك لو أتيتني بقُرابِ الأرضِ خطايا ثم لقيتَنِي لا تشرك بي شيئًا لأتيتُك بقُرابِها مغفرةً))[5].
كم في هذا الحديث من بشارة ورجاء كبير، فيه حلمُ اللهِ وكرمُه، وما لا يُحْصَى من أنواع الفضل والإحسان والرأفة والرحمة والامتنان، فإن الرجاءَ إذا لامسَ شِغاف النفس وتخلَّلَ الروحَ فإن صاحبه يسترخصُ الموتَ في سبيلِ ما يأمل ويرجو.
وحين حفَّزَ النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين يومَ بدر قال: ((قُوموا إلى جَنَّةٍ عرضُها السماوات والأرض، قال عمير بن الحمام رضي الله عنه: عرضُها السماوات والأرض؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، فقال: بَخٍ بَخٍ!! فقال: ما يحمِلُكَ على قولِ بَخٍ بَخٍ؟! قال: رجاء أن أكون من أهلها، قال: فإنَّك مِنْ أهلِها، فتقدَّم الرجلُ فكسرَ جفن سيفه، وأخرج تمرات من جيبِه فجعلَ يأكلُ منهنَّ ثم ألقى بقيتهن من يدِه، وقال: لَئِن حييتُ حتى آكلهنَّ إنها لحياةٌ طويلةٌ، ثم تقدَّم حتى قُتل رضي الله عنه))[6].
فالحاصل أن رحمة الله واسعة، فلا يقنط المؤمن ولا يقطع رجاءه منها، بل يحرص على حصولها بالدعوة الخالصة والعمل الصالح، فنسأل اللهَ أن يرحمنا وأن يجعلنا من الذين خصَّهم بها؛ إذ قال تعالى: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 156].
الهوامش:
([3]) تفسير الطبري، (11/273)، وتفسير البغوي، (2/10)، وتفسير ابن كثير، (2/172)، وتفسير القرطبي، (8/330)، وتفسير السعدي، ص(251).
([4]) تفسير القرطبي، (13/156)، وتفسير البغوي، (2/157)، وتفسير ابن كثير، (2/334-335)، وتفسير القرطبي، (9/350-351)، وتفسير السعدي، ص(305).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.