الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد، فقد سبق أن ذكرتُ التعريفَ الشرعي للرجاء، وبيَّنتُ أن العبد في هذه الحياة بين الطاعة والمعصية، فالطاعةُ يعملها ويرجو من الله قبولها، وأما المعصية يتوبُ منها فيرجو من اللهِ قبولها، فمن خلال التعريف الشرعي للرجاء نستطيع أن نفهم أن الرجاء المحمود قسمان:
القسم الأول: هو أن يعمل الرجلُ بطاعةِ الله، على نورٍ من الله، راجيًا لثوابِ الله ورحمته والفوز بدار كرامته.
القسم الثاني: هو رجاءُ من أذنبَ ذنوبًا ثم تابَ منها، فهو يرجو مغفرةَ الله تعالى له وعفوَه عنه وإحسانَه له، وجودَه وكرمَه عليه.
كما ذكرنا أيضًا أن الرجاء هو توقعُ الخير من الله مع الأخذ بالأسباب، فمن لم يأخذ بالأسباب، بل يتمادى في التفريط والخطايا، ويزعم أنه يرجو رحمةَ ربِّه بلا عمل؛ فهذا غرورٌ وتمني، وهذا هو القسم الثالث للرجاء، وهو الرجاء المذموم[1].
قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: (المقصودُ من الرجاء أن من وَقَعَ منه تقصيرٌ فليُحْسِن الظنَّ باللهِ ويرجو أن يمحو عنه ذنبه، وكذا من وقع منه طاعة يرجو قبولَها، وأما من انهمك على المعصيةِ راجيًا عدم المؤاخذة بغير ندمٍ ولا إقلاعٍ فهذا غرورٌ، وما أحسنُ قولَ أبي عثمان الجيزي: من علامةِ السعادةِ أن تطيعَ وتخافَ أن لا تُقبلَ، ومن علامةِ الشقاءِ أن تَعصي وترجو أن تنجو)[2].
ومن الرجاء ما هو شركٌ أكبرٌ مُخْرِجٌ من الملة؛ قال الشيخ سليمان: (ومنها الرجاءُ فيما لا يَقْدِرُ عليه إلا الله، كمن يدعو الأمواتَ أو غيرَهم، راجيًا حصولَ مطلوبِه من جهتهم، فهذا شركٌ أكبرُ، قال الله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218])[3].
ومنه ما هو طبيعي، وهو أن يرجو شيئًا من رجلٍ قادرٍ عليه، مثل ما يُرجى من المحسنين قضاء حوائج الأرامل والمساكين واليتامى.
يقول الله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]، وفي الحديث القدسي: ((أنا عندَ ظَنِّ عَبْدِي بِي فليظنَّ بِي ما شاء))[4].
ربنا سبحانه ربٌّ رؤوفٌ رحيمٌ، ربٌّ غفور تواب، يقبل التوبةَ عن عباده، ويعفو عن السيئات ويبدلها حسنات، ولذلك فقد اقتضت رحمته الواسعة أن تُحَرِّمَ اليأسَ والقنوط، وكان نداؤه عز وجل لعباده: {لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53].
ذلك لأن اليأس والقنوط يسدَّان الطريق أمام المسلم، فلا يعود إلى الطريق المستقيم، ويستمر في طريق الغي والضلال، وهو ما لا يُرضي ربَّ العباد، والإسلامُ دين العفو والرجاء والأمل في كرم الله ورحمته؛ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218].
(ومقامُ الرجاءِ هو جندٌ من جنودِ الله عز وجل، يستخرجُ من بعضِ العباد ما لا يستخرج غيره، لأن بعضَ القلوبِ تلينُ وتستجيبُ عند مشاهدة الكرم والإحسان، وتُقْبِلُ وتَطْمَئِنُّ بمعاملةِ النِّعَمِ والإحسان، ما لا يوجد ذلك منها عند التخويفِ والترهيب، بل قد يقطعها ذلك ويوحشه، إذ قد جُعل الرجاء طريقها، فوجدت فيه قلوبها)[5].
ومما ينبغي أن يُعلم أن من رجا شيئًا استلزم رجاؤه أمورًا؛ (أحدها: محبة ما يرجوه، الثاني: خوفه من فواته، الثالث: سعيه في تحصيله بحسب الإمكان)[6].
لكن هذا الرجاء الذي نتكلم عنه، منه ما هو محمودٌ ومنه ما هو مذمومٌ، فإذا رافقه العملُ فهو الرجاء المحمود الصحيح، أما إذا كان من غير عمل فهو الغرور، الذي يكون صاحبه مخدوعًا يظن نفسَه راجيًا، وهو في الحقيقة مغرورٌ.
الرجاء المحمود:
(عَلِمَ أربابُ القلوبِ أن الدنيا مزرعةُ الآخرة، والقلبُ كالأرضِ والإيمانُ كالبذر فيه، والطاعاتُ جاريةٌ مجرى تقليب الأرضِ وتطهيرِها، ومجرى حفر الأنهار وسياقة الماء إليها، إن بثَّ الإنسانُ البذرَ في أرضٍ طيبة ولكن لا ماءَ لها وأخذ ينظرُ مياه الأمطارِ حيث تغلب الأمطار ولا تمتنع؛ سُمِّي انتظارُه تمنيًا لا رجاءً، فإذا اسم الرجاء إنما يصدقُ على انتظار محبوبٍ تمهدت جميعُ أسبابه الداخلة تحت اختيار العبد، ولم يبقْ إلا ما ليس يدخل تحت اختياره، وهو فضلُ اللهِ تعالى بصرف القواطع والمفسدات)[7].
(فالعبدُ إذا بثَّ بذرَ الإيمانِ وسقاه بماءِ الطاعات، وطهَّر القلبَ من شوك الأخلاق الرديئة، وانتظر من فضلِ اللهِ تثبيته على ذلك إلى الموت، وحسن الخاتمةِ المفضية إلى المغفرةِ، كان انتظارُه رجاءً حقيقيًّا محمودًا في نفسِه، باعثًا على المواظبةِ والقيامِ بمقتضى أسباب الإيمان في إتمامِ أسباب المغفرة إلى الموت)[8].
والرجاء المحمود يتضمن أمرين:
(الأول: العملُ بالأمرِ والنهي الإلهي، من فعلِ المأمورات وترك المحظورات، ولذلك يرجو قبولها وجزاءها الحسن عند اللهِ تعالى.
الثاني: حسن الظن باللهِ تعالى، وذلك بأن يعتقد أن اللهَ سيرحمه حيث عملَ بعملِ أهلِ الجنة وكفَّ نفسَه عن عملِ أهل النار، وعالج تقصيراته وذنوبه بالتوبةِ، وسدَّد وقاربَ جهد استطاعته، فهو يرجو رحمةَ اللهِ، معتمدًا على قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم: 32]، ومعتمدًا على أن اللهَ تعالى وصفَ نفسَه بأنه الرحمن الرحيم، والعفو الغفور، ونحو ذلك من صفات الجمال)[9].
فالرجاء محمودٌ في موضعين:
أحدهما: في حق العاصي المنهمك إذا خطرت التوبةُ له فقال الشيطان: "وأنَّى تُقْبَل توبتك"؟! فيُقَنِّطْهُ من رحمة الله تعالى، فيجب عند هذا أن يقمع القنوط بالرجاء، ويتذكر أن الله يغفر الذنوب جميعًا، وأن الله كريم يقبل التوبةَ عن عباده، وأن التوبة تُكَفِّرُ الذنوب؛ قال تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82].
الثاني: أن تفتر نفسُ المسلمِ عن القيام بالنوافل وفضائل الأعمال، ويقتصر على القيام بالفرائض وما أمره اللهُ تعالى به، فإذا تَطَلَّعَ إلى الجنة وما أعده اللهُ فيها للمؤمنين المجاهدين الصابرين؛ أخذ يُرَجِّي نفسَه أن يكون من أهلها، وذلك بالتقرب إلى الله تعالى بفضائل الأعمال، فلم يقتصر على الواجبات والفرائض، فينبعث من الرجاء نشاطُ العبادة، ويُقْبِلُ على اللهِ تعالى بقلبٍ سليمٍ يرجو فضلَه.
فالرجاءُ الأولُ يقمعُ القنوطَ المانع من التوبةِ، والرجاءُ الثاني يقمعُ الفتورَ المانعَ من النشاط والتشمير، فالرجاء المحمود ينبغي أن يرافقه ثلاثةُ أمور؛ الأول: محبة العبد ما يرجوه، الثاني: خوفه من فواته، الثالث: سعيه في تحصيله بحسب الإمكان، وأما إذا كان رجاءً لا يقاربه شيءٌ من ذلك فهو من باب الأماني[10].
الرجاء المذموم:
وهذا الرجاء الذي يقعُ فيه معظمُ الخلق، بسبب فتورهم وإقبالهم على الدنيا وإعراضِهم عن الله تعالى، وإهمالهم السعي للآخرة، فذلك غرورٌ، وقد أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن الغرور سيغلب على قلوب آخر هذه الأمة؛ فقال: ((بل ائتَمِرُوا بالمعروفِ، وتناهوا عن المنكرِ، حتى إذا رأيتَ شحًّا مطاعًا، وهوى متبعًا، ودنيا مُؤْثَرَة، وإعجابَ كلِّ ذي رأيٍّ برأيِّه، ورأيتَ أمرًا لا يدَ لك به، فعليك بخاصةِ نفسك))[11].
وقد كان ما وعد به النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان المسلمون في الزمن الأول يخافون على أنفسهم، فسهروا ليلهم وأظمأوا نهارهم، وهم بذلك خائفون أن لا يُقبل منهم؛ فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60]، أما الآن فنرى الناس آمنين غير خائفين مع انهماكهم في الدنيا، وانغماسهم في المعاصي، زاعمين أنهم واثقون بكرم اللهِ تعالى وفضله، راجون لعفوه ومغفرته، وليس ذلك إلا غرورًا سَرَّبَه إلى نفوسهم الشيطانُ، لا يغوي الإنسانَ إلا بكلامٍ مقبولِ الظاهرِ مردود الباطن، ولولا حُسن ظاهره لما انخدعت به القلوبُ واستهوته النفوسُ.
فمن قرأ بلسانِه أن الآخرةَ خيرٌ وأبقى ثم ترك العمل وانشغل بالمعاصي؛ فهو من المغرورين بالدنيا، المحبين لها الكارهين للموت خيفةَ فوات لذاتها، يقول الغزالي - رحمه الله -: (تَرَكَ القلبَ مشغوفًا برذائل الأخلاقِ وانهماكٍ في طلبِ لذَّاتِ الدنيا، ثم انتظرَ المغفرةَ، فانتظارُه حمقٌ وغرورٌ؛ قال الله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} [الأعراف: 169].
وذمَّ اللهُ تعالى صاحبَ البستان إذ دخل جنته فقال: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} [الكهف: 35، 36]، فأما من ينهمك فيما يكرهه اللهُ، ولا يذم نفسَه عليه، ولا يعزم على التوبة والرجوع، فرجاؤه حمقٌ، كرجاءِ من بثَّ البذرَ في أرضٍ سبخةٍ، وعزم على ألَّا يتعهده بسقي ولا تنقية)[12].
فالطمأنينة مع ترك الطاعات والاستمرار على المخالفات أمنٌ وغرورٌ، وقد نهى اللهُ تعالى عنه بقوله تعالى: {وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر: 5]؛ يعني: الشيطان، فإنه يُحسِّن لك المعاصي، وربما يجرُّك إلى ذلك رجاءَ عفوِ اللهِ وكرمه، وقد وصف اللهُ تعالى الراجين فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر: 29].
والتعلق بالرجاء من غير عمل بضاعةُ المفلسين، يمنُّون أنفسهم أو يمنِّيهم الشيطانُ لكي لا يتوبوا ولا يستقيموا، فيبقون على حالِ العجزِ والتمني، بعيدًا عن الكياسة والعقل وفهم خطابات الشرع، ومثل هذا هو العاجز المتمني الذي عرَّفه النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: ((الكيِّسُ من دانَ نفسَه وعَمِلَ لِمَا بعد الموت، والعاجزُ من أَتْبَعَ نفسَه هواهَا، وتمنَّى على اللهِ))[13].
فهذا مغرورٌ خدعه الشيطانُ بوعدِ مغفرةِ اللهِ له، وهو منهمكٌ في المعاصي، ناسيًا أن اللهَ شديد العقاب، وهو معنى قوله تعالى في المنافقين: {وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد: 14]، أي (خدعهم باللهِ أنه سيغفرُ لهم دون توبةٍ)[14].
هذا هو التمني على الله تعالى، غَيَّرَ الشيطانُ اسمَه وزيَّنه فسماه رجاءً حتى خَدَعَ به الجهَّال، فبيَّن اللهُ تعالى الأعمال التي تسبق الرجاء حتى يكون الرجاءُ صحيحًا مشروعًا، له فضلُه وثوابُه عند اللهِ تعالى؛ فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218].
فهذه الأعمال تظهرُ نتيجتُها يومَ القيامة، فمن منَّى نفسَه برجاءِ المغفرةِ دون العمل يُفاجأ بأن الأمر على عكس ما منَّى به نفسَه، ورجا ما في الدنيا؛ قال تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47]، فهذا هو الرجاءُ المذمومُ الذي يصرفُ صاحبَه عن التوبةِ، ويُبْقِيه على حالة الإصرار إلى الموت متعلقًا بالرجاء من غير عمل.
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.