الرجاءُ من أَجَلِّ الأعمال القلبية، وهو أحد أركان العبادة، وهو أحد محركات القلوب الثلاثة، وهو قسيم الخوف، لأن المسلم - كما أسلفنا - لابد أن يكون في عبادته ما بين رجاء ثوابها والخوف من عدم قبولها، وعند وقوع الذنب يكون بين خوف عقاب الله ورجاء رحمته.
والناظر في الكتاب والسنة يرى أن أساليب الترغيب والحث على الرجاء مختلفة؛ فتارة يأتي الأمر بصرف هذه العبادة لله، وتارة يأتي بمدح المتصفين به والثناء عليهم، وتارة نجد أن الله يرغِّب عباده في الإتيان بهذه العبادة بذكر سعة رحمته وشمول مغفرته، كما ينهى عمَّا يضاد هذه العبادة من اليأس والقنوط، وفي هذا مسائل:
قال الله سبحانه وتعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56]؛ فأمر اللهُ أن لا نفسد في الأرضِ بالمعاصي والذنوب، فإن أعظمَ الفساد في الأرض هو الشركُ بالله، ومن تدبَّر أحوال العالم وجدَ كل صلاحٍ في الأرض فسببُه توحيدُ الله وعبادته واتباع سنة نبيه، وكل فساد وشر وفتنة وبلاء فسببه الإشراكُ بالله وعبادة غيره ومخالفة نبيه.
ثم أمر اللهُ أن ندعوه، وأن نجمعَ بين الخوف والرجاء حال الدعاء، فالدعاءُ يشمل دعاء العبادة ودعاء المسألة، فالمطلوبُ من كلِّ عابدٍ وسائلٍ أن يكون خائفًا راجيًا، فإن من دعاه خوفًا وطمعًا فهو المحسن، والرحمةُ قريبٌ منه[1].
وقال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [العنكبوت: 36]؛ يأمر اللهُ بالرجاء على لسان نبيٍّ من أنبيائه وهو شعيب عليه السلام، إذ قال لقومه: {وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ}، أي: ارجوا ثوابَ اللهِ في اليومِ الآخر يا أيها الذين أخلصتم الدينَ للهِ وأفردتموه بالعبادةِ والطاعةِ.
وإن كانت الآيةُ وردت في سياقِ قصته، فإن حكايات القرآن عن الأنبياء بهذه الصيغة إنما المرادُ أن يعتبرَ بها أمةُ القرآنِ، فإن الأنبياءَ متفقون على مسائل التوحيدِ وإن اختلفت شرائعُهم، فالأنبياءُ جميعهم دعوا إلى التوحيدِ وإصلاحِ القلوبِ وتزكيةِ النفوس، ومن ذلك محبة الله، والخوف منه ومن عذابه، ورجائه ورجاء ثوابه[2].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يموتنَّ أحدُكم إلَّا وهو يحسنُ باللهِ الظنَّ))[3]؛ ففي الحديث أمر بحسن الظن بالله، وهو الرجاء فيما عند اللهِ من الثوابِ الجزيل، والطمع في غفرانِه يومَ الدين، وفي الحديث أمرٌ بدوامِ حسنِ الظن بالله، والاستعداد للموت بالأعمال الصالحة، لأننا ما ندري متى يفاجئنا الموتُ.
كذلك في الحديث أنه ينبغي في حالة الاحتضار أن يَغْلُبَ على الإنسان الرجاءُ على الخوف؛ إذ لم يبقْ للخوفِ كثيرُ معنى، بل قد يؤدي في هذ الحالة إلى اليأسِ والقنوط، كما نفهم من هذه النصوص الحث على الرجاء في فضلِ الله ورحمته، وحسن الظن به، وأنه لا يلقى أحدٌ ربَّه إلا وهو يحسنُ الظن به.
وينبغي أن نعرف أيضًا أن الرجاء عبادةٌ قلبية لا يخلو قلبٌ منها، فإن الإنسان مجبولٌ على إرادة الخير ويرجو تحصيلَه، كما يكره المكروه ويرجو دفعَه، فإذا توجَّه العبدُ برجائه إلى من يستطيع نفعه ويدفع عنه ضرَّه فقد هُدي، وإذا توجه به نحو من لا يستطيع له ذلك فقد ضلَّ وغوى؛ لذا كان الرجاءُ عبادةً قلبيةً لا يجوز صرفها إلى غير مستحقها، بل يجب صرفها لله الواحد القهار، الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
ومن رجا من مخلوقٍ كما يرجو من اللهِ فيما لا يقدر عليه فقد أشرك مع اللهِ غيرَه؛ قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، يقول شيخ الإسلام - رحمه الله -: (فالرجاءُ ينبغي أن يتعلقَ باللهِ ولا يتعلق بمخلوقٍ ولا بقوة العبد ولا عمله، فإن تعليق الرجاء بغير الله إشراكٌ، وإن كان الله قد جعل لها أسبابًا، فالسبب لا يستقل بنفسه، بل لابد له من معاون، ولابد أن يمنع المعارض المعوِّق له، وهو لا يحصل ويبقى إلا بمشيئةِ الله تعالى)[4].
فيُفْهَم من كلام شيخ الإسلام - رحمه الله - أنه لا يجوز أن تُصْرَف هذه العبادة القلبية لغير الله، وإن كان بعض الخلق يستطيع أن ينفعك وأن يدفع عنك الضر، لكنهم سببٌ من الأسباب، فالأسباب لا تستقلُّ بنفسها، بل لابد من سببٍ آخر، ولابد من منعِ المعارِض، ولا يملك ذلك كلَّه إلا اللهُ تبارك وتعالى، فتبيَّن من هذا أن نفعهم إياك ودفع الضر عنك في الحقيقة من الله عز وجل؛ ولهذا يجب تعلق الرجاء به وحده دون سواه.
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.