الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ يأتي الصمت بعد الجوع، وهو الخطوة الأساسية الثالثة من عبادات وممارسات الطريق الصوفي، ثم يليه السهر-قلة النوم- الذي هو رابع وآخر أساسيات العبادة الصوفية الموصلة إلى غاية التصوف.

فالنسبة للصمت الصوفي بعدما يعتزل ويخلو بنفسه ويحملها على الجوع الشديد يلزمها أيضا الصمت لأنه من ضروريات مواصلة الطريق عند الصوفية، ولهذا اهتم به شيوخ التصوف وحثوا عليه.

فمن ذلك: سئل الصوفي أبو بكر الفارسي عن حقيقة الصمت فقال:" ترك الاشتغال بالماضي والمستقبل"[1].

وعن سهل بن عبد الله التستري أنه قال:" لا يصح أحد الصمت حتى يلزم نفسه الخلوة، ولا تصح له التوبة حتى يلزم نفسه الصمت"[2]، وقال:" اجتمع الخير كله في هذه الأربع خصال، وبها صار الأبدال أبدالا، منها: الصمت"[3].

وقال عبد الكريم القشيري:" فأما إيثار أرباب المجاهدة السكوت: فلما علموا ما في الكلام من الآفات، ثم ما فيه من حظ النفس، وإظهار صفات المدح، والميل لي أن يتميز بين أشكاله بحسن النطق، وغير هذا من آفات في الخلق"[4].

وذكر أبو حامد الغزالي أن الطريق الصوفي يتكون من أربعة أمور منها: الصمت[5]، وقال:" وأما لا صمت فإنه تسهله العزلة ولكن المعتزل لا يخلو عن مشاهدة من يقوم له بطعامه وشرابه وتدبير"[6]، وعليه فينبغي على المعتزل أن لا يتكلم إلا بقدر الضرورة فإن الكلام يشغل القلب وشره القلوب إلى الكلام عظيم، فإنه يستروح إليه ويستثقل التجرد للذكر والكفر فيستريح إليه فالصمت يلقح العقل، ويجلب الورع، يعلم التقوى"[7].

وذكر الشهاب السهرودي في عوارفه أن مشايخ الصوفية اتفقوا على أن بناء أمرهم على أربعة أشياء، منها: قلة المنام"[8].

وردا عليهم أقول:

أولا: واضح من أقوال هؤلاء الصوفية أنهم مدحوا الصمت مطلقا، وهذا لا يتفق مع الموقف الشرعي من الصمت ولا ينطبق عليه، لأنهم اتخذوا موقفهم منه انطلاقا من التصوف لا من الشرع، وتفصيل ذلك هو أن الله تعالى أمرنا بالسكوت إذا كان الكلام حراما، أو مضرا، قال سبحانه: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83]، {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [الحج: 77]، {دْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَمجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125]، { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } [المائدة: 101].

وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليسكت"[9]، وقال صلى الله عليه وسلم:" المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم"[10]، وقال صلى الله عليه وسلم:" من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"[11]، وقال صلى الله عليه وسلم:" لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"[12].

وبذلك يتبين أن الصمت مأمور به إذا كان الكلام باطلا ولغوا، ومنهي عنه إذا كان الصمت إثما وسكوتا عن الباطل وتفويتا للحقوق، فلابد ان يخضع الصمت والكلام لميزان الشرع والعقل، فيستخدم كل منهما في مكانه الصحيح، فهنالك مواقف لا يصح فيها السكوت، ويكون الكلام فيها مطلوبا، وأخرى يكون فيها السكوت صحيحا ومطلوبا أيضا.

وأما تعليلهم لموقفهم بأنهم آثروا السكوت لما فيه من فوائد تعود عليهم، كتخلصهم من آفات الكلام، فهو تعليل لا يصح على إطلاقه، لأن الصمت الدائم كما له إيجابيات فله سلبيات أيضا، وقد يكون الصمت من حظوظ النفس، فيتظاهر صاحبه به للتباهي وإظهار الزهد وجلب الثناء، ولنشر خبره بين الناس، وهذا حظه من سكوته، وقد يكون السكوت في حقه حراما إذا سكت عن المنكرات، ولم يقم بالأوامر الشرعية التي يتطلب تطبقها بالكلام لا بالصمت.

ومن جهة أخرى فهل حقا أن الصوفية آثروا الصمت على الكلام في كل أحوالهم؟ طبعا لا، فهم مع تشددهم في موقفهم من الصمت، فقد نقضوه بحرصهم على عقد مجالس السماع، وفيها يغنون ويرقصون، ويصيحون ويمزقون ملابسهم.

وثانيا: إن قول بعضهم بأن الصمت هو ترك الاشتغال بالماضي والمستقبل[13]، هو قول لا يصح على إطلاقه، مخالف للشرع وطبيعة البشر، وللعقل والعمل أيضا، فقد أمرنا الله تعالى بأن نعتبر بالماضي ونشتغل بالمستقبل لنتهيأ له ونجنب أنفسنا ما قد يحل بنا من خسران في المستقبل، قال سبحانه: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } [آل عمران: 137]، وقوله تعالى: { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111]، وقوله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]، وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18].

ومن جهة أخرى فمن من المعرف عقلا وعلما أنه يجب على الإنسان أن يهتم بالماضي من أجل الحاضر والمستقبل، ويهتم بالحاضر من أجل الماضي والمستقبل، ويهتم بالحاضر من أجل الماضي والمستقبل، وأن يهتم بالمستقبل لخدمة ماضيه وحاضره، وهذا الاهتمام كله لا يتم بالصمت، وإنما يتم أساسا بالعمل والكلام.

وثالثا: إن الكلام إذا كان من أجل الحق والخير فهو من العبادة، ويزيد في الإيمان وتنوير القلوب، كما أن الكوت إذا كان سكوتا عن الحق والمنكرات مع المقدرة على تغييرها، فهو حرام، ويزيد في ظلمة القلب وقساوته، وينقص من إيمانه وسعادته من جهة، ويجلب عليها الخوف والسلبية والانهزامية من جهة أخرى، قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [آل عمران: 104]، وقال تعالى: { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125]، وقال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا } [الإسراء: 53]، وقال تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110]، فالله تعالى أمر المسلمين بأن يتكلموا بحق وعدل، وأن يسكتوا بحق وعدل وهذا خلاف ما قرره أبو حامد الغزالي وأمثاله من هؤلاء الصوفية.

وأخيرا: إن قول سهل التستري: "لا يصح لأحد الصمت حتى يلزم نفسه الخلوة، ولا تصح له التوبة حتى يلزم نفسه الصمت"[14]، هو قول مخالف للشرع، وليس من العقل ولا من العلم، لأن الصمت ليس مشروطا بالخلوة من عدمها، وإنما هو مرتبط بالحق والعدل والمقدرة، فالمسلم مطالب بأن يقول الكلام الحسن والأحسن ويسكت عن الكلام الحرام ويتبعد عن فضوله، سواء كان مع الناس أو منعزلا عنهم.

وصحة التوبة ليست مشروطة بلزوم الصمت، وإنما هي مشروطة بشروط أخرى، منها الصدق في التوبة، والتوقف عن المنكرات التي كان يفعلها، ورد الحقوق إلى أصحابها، وأما الصمت فليس شرطا أساسيا فيها فقد يكون من شرو صحة التوبة الكلام بحق وعدل، وقد يكون من شروط صحتها السكوت عن الكلام الفاحش واللغو، وعدم التحدث في أعراض الناس.

وأما بالنسبة للسهر-قلة النوم- عند الصوفية، فمن أقوالهم فيه ما ذكره القشيري من أن داود الطائي كان يقول في الليل:" إلهي همك عطل علي الهموم الدنيوية، وحال بيني وبين الرقاد"[15].

وروى أبو نعيم الأصبهاني بإسناده أن الصوفي إبراهيم بن أدهم كان: في شهر رمضان يحصد الزرع بالنهار ويصلي بالليل، فمكث ثلاثين يوما لا ينام بالليل ولا بالنهار"[16].

وحكي سهل بن عبد الله التستري عن نفسه، فقال:" عزمت على أن أوي ثلاث ليال، ثم أفطر ليلة، ثم خمسا، ثم سبعا، ثم خمسا وعشرين ليلة، وكنت عليه عشرين سنة، ثم خرجت أسيح في الأرض سنين، ثم رجعت إلى تستر وكنت أقوم الليل كله"[17].

وروى أبو نعيم الأصبهاني أن من صفات الصوفية:" أنهم هجروا المراقد واستوطنوا المساجد، حدثنا أبو عمرو بن حمدان، حدثنا الحسن بن سفيان، حدثنا قتيبة، حدثنا ابن لهيعة، عن دارج، عن ابن حجيرة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إن للمساجد أوتادا، الملائكة جلساؤهم، إن غابوا تفقدوهم، وإن مرضوا عادوهم، وإن كانوا في حاجة أعانوهم"[18].

وقال عبد الكريم القشيري:" سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: لما قال إبراهيم لإسماعيل، عليه وسلم: يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك قال إسماعيل: يا أبت، هذا جزاء من نام عن حبيبه، لو لم تنم لما أرمت بذبح الولد، وقيل: أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: كذب من أدعى حبي، فإذا جنه الليل نام عني، والنوم ضد العلم، ولهذا قال الشلبي: نعسة في ألف سنة فضيحة، وقال الشلبي: الع الحق على الخلق فقال: من نام غفل، ومن غفل حجب، فكان الشلبي يكتحل بالملح حتى كان لا يأخذ النوم، وفي معناه أنشدوا:

عجبا للمحب كيف ينام كل نوم على المحب حرام[19]

وقيل: لما نام آدم عليه السلام بالحضرة قيل له: هذه حواء لتسكن إليها، هذا جاء من نام بالحضرة"[20].

وذكر أبو حامد الغزالي أن الطريق الصوفي يتكون من أربعة أمور، منها السهر[21]، ونفس الأمر قره الشهاب السهرودي في عوارفه، فذكر أن مشايخ الصوفية اتفقوا على أن بناء أمرهم على أربعة أشياء منها قلة النوم[22].

ما رواه الشعراني عن حال أبي السعود الجارحي فذكر أنه:" كان ينزل في سرب تحت الرض من أول ليلة من رمضان لا يخرج إلا بعد العيد بستة أيام، وذلك بوضوء واحد من أكل، وأما الماء، فكان يشرب من كل ليلة قدر أوقية"[23].

وردا عليهم أقول:

أولا: إن دعوة هؤلاء الصوفية إلى السهر وعدم النوم إلا ضرورة هي دعوة مخالفة للشرع والعلم، ومضرة بالإنسان ومعطلة لطاقاته وقدراته، وقد تدمره في النهاية، وهي مخالفة للشرع لأن الله تعالى أمرنا بالوسطية والاعتدال وعدم الإسراف في تعاملنا مع غرائزنا وتلبية حاجياتنا النفسية والعقلية والبدنية، منها الأكل، والشرب، والنوم، فالنوم من فضل الله علينا {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا } [النبأ: 9 - 11]، ومن ضروريات حياتنا، فيجب على الإنسان أن يأخذ حقه منه بلا إفراط ولا تفريط، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينام ويصلي، ولا يقوم كل الليل، ولا ينامه كله، قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20]، وقال أيضا: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل: 1 - 6].

ومن جهة أخرى فمن لا ينام في الليل سينام في النهار ولا يخرج فيطلب الرزق، ولا يؤدي حقوق الناس عليه، وهذا مخالف للشرع ولسنة الحياة، لأن الله تعالى لم يجعل النهار للنوم وإنما جعله للعمل وعمارة الأرض، قال سبحانه: { وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ: 11]، وقال أيضا: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20]، ولهذا فمن كان يعبد الله حق عبادته وفق شرعه لا يأخذ بموقف الصوفية في دعوتهم إلى السهر وقلة النوم، لأنه في هذه الحالة يعبد هواه ورغباته ولا يعبد الله تعالى وفق شريعته.

وثانيا: إن مما لا شك فيه أن الاعتدال هو المطلوب في النوم، لأن كثرته وقلته تضران بالإنسان، وفي هذا يقول المحقق ابن قيم الجوزية: "وكما أن كثرة النوم مورثة لهذه الآفات، فمدافعته وهجره مورث لآفات أخرى عظام: من سوء المزاح ويبسه، وانحراف النفس وجفاف الرطوبات المعينة على الفهم والعلم، ويروث أمراضا متلفة لا ينتفع صاحبها بقلبه ولا ببدنه معها، وما قام الموجود إلا بالعدل فمن اعتصم به فقد أخذ بحظه من مجامع الخير وبالله المستعان"[24].

وكلامه هذا صحيح ومجرب، فقد بينت الأبحاث العلمية أنه يجب على الإنسان أن يأخذ القسط الكافي من النوم لأنه ضروري لجسمه، وأن الإقلال منه والمداومة عليه تسبب له مخاطر وأمراضا واضطرابات، منها اضطراب الإدراك، وظهور خداعات الحواس، وصعوبة المشي، ورؤية أشياء لا وجود لها في الواقع، وفقدان التوازن والتفكير.

وثالثا: إن قول داود الطائي:" إلهي همك عطل علي الهموم الدنيوية، وحال بيني وبين الرقاد"[25].، ظاهره ربما يخدع كثيرا من الناس، لكن حقيقته أنه كلام صوفي مسموم مخالف للشرع، ومعطل للدين والدنيا، لأن الذي يكون همه الله تعالى يجب أن يكون عبدا له ملتزما بشرعه قلبا وقالبا، ومجاهدا بنفسه وماله في سبيل الله، وينام ويصلي، وينطبق عليه قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162]، ولا يكون كما قال داود الطائي، بأنه همه بالله منعه الرقاد، فهذا هم صوفي، وليس هما شرعيا، لأن الهم الشرعي لا يمنع من عمارة الأرض ولا من النوم، لقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20].

رابعا: إن قول أبي نعيم الأصبهاني:" ومنها أنهم هجروا المراقد واستوطنوا المساجد"، وتأييده بحديث نبوي، هو قول لا يصح شرعا ولا تاريخا، فبالنسبة للحديث فإسناده لا يصح، لأن من رجاله: عبد الله بن لهيعة بن عقبة الحضرمي أبو عبد الرحمن الأعدولي الغافقي القاضي، قيل فيه: ضعيف، ليس بحجة، تركه كثير من المحدثين، ثقة، في غفلة، مخلط، ليس بثقة، لا يحتج بحديثه، متساهل كثير المناكير، يدلس عن أقوام ضعفاء على أقوام ثقات قد رآهم، وكان يقرأ عليه ما ليس بحديثه فيسكت[26]، وقد عده ابن عدي من الشيعة ووصفه بأنه مفرط في التشيع[27].

وأما قوله:" أنهم هجروا المراقد واستوطنوا المساجد"، فهو ينطبق على العبادة الصوفية، لا الشرعية، وقد بينا سابق موقف الشرع والعلم من النوم فلا نعيده هنا، ومن جهة أخرى فهو قول مخالف لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، فمن الثابت أنهم لم يهاجروا المراقد ولا استوطنوا المساجد، وإنما سكنوا في صفو المسجد النبوي، فيه ينامون ويأكلون، وفي يصلون ويطلبون العلم، مع الجهاد في سبيل الله كغيرهم من المسلمين، ثم تحسنت أحوالهم في الخلافة الراشدة تفرقوا واتخذوا بيوتا كغيرهم من الناس.

وخامسا: إن ما رواه أبو نعيم الأصبهاني بأن إبراهيم بن أدهم كان في شهر رمضان "يحصد الزرع بالنهار ويصلي بالليل، فمكث ثلاثين يوما لا ينام بالليل ولا بالنهار"[28]، فهو خبر لا يصح إسنادا ولا متنا، بل إنه مستحيل الحدوث.

فأما إسناد فلا يصح لأن من رجاله: حجاج بن حمزة العجلي الرازي المعروف بالخشابي: شيخ، صدوق[29]، وهذه المرتبة تشعر بالعدالة لا بالضبط، ولا تجعله حجة، وأبو يزيد عبد الرحمن بن مصعب بن يزيد الأزدي القطان الكوفي، مجهول الحال"[30].

وأما متنا فالخبر فباطل، لأنه يستحيل على الإنسان لا ينام ثلاثين يوما ويبقى إنسانا عاديا يعمل بالنهار ويصلي بالليل، لأنه قبل أن يصل إلى عشرين يوما يكون قد انهار تماما فقد كل قواه، وهنا إما ينام مضطرا رغم أنفه، وإما يكون في غيبوبة تامة بين الموت والحياة، وربما قد يموت، وقد بينت التجارب الحديثة أن الإنسان إذا لم ينم ثلاثة أيام فلا يستطيع الحفاظ على توازنه، ويصبح يجد صعوبة كبيرة في التفكير، والنظر، والسمع، وتبدأ الحياة الحقيقة وأحلام اليقظة، وعندما تمكن بعض الأشخاص من البقاء أحد عشر يوما دون نوم بعد إجهاد ومعاناة كبيرة، فإنهم بالإضافة إلى ما كانوا فيه، فإنهم فقدوا صلتهم بالواقع الذي يعيشون فيه، من ذلك أنهم اعتقدوا بأن الطبيب ليس سوى حانوتي جاء ليدفنهم، أو أن الطعام الذي يتناولونه، قد سمم لهم[31].

وأخيرا سادسا: إن ما قاله القشيري عن حب الله والنوم، وما رواه عن آدم، وإبراهيم، وإسماعيل، وداود عليه السلام، هو قول لا يصح، لأن ما ذكره عنهم لم يذكر دليلا عليه من القرآن، ولا أورده بإسناد صحيح ولا ضعيف، وهذا يعني أن الخبر لا أصل له، فمن أين له بما رواه عنهم؟!!

وأما القول بأن المحب لا يغفل عن محبوبه، ولا ينام عنه، وحرام عليه أن ينام عنه، فهو قول غير صحيح، ومخالف للشرع مخالفة صريحة ومكشوفة، لأنه من الثابت قطعا أن النبي صلى الله عليه وسلم هو أعظم الخلق حبا لله تعالى، وهو القائل:" ألا إني أبرأ إلى كل خليل من خلته ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا إن صاحبكم خليل الله"[32].

ومن بعده صحابته رضي الله عنهم كانوا من أعظم الناس حبا لله تعالى، وقد شهد لهم بالإيمان والعمل الصالح، لكن مع ذلك كانوا يقومون الليل وينامون، وصدرت منهم أفعال عاتبهم الله عليها، فليس صحيحا أن المحب لا يغفل ولا ينام، فهذا قول مأخوذ من العبادة الصوفية لا الشرعية.

وبذلك يستنتج مما ذكرناه أن الصوفية اتخذوا من الصمت والسهر موقفا متطرفا موقفا متطرفا موافقا للعبادة الصوفية، ومخالفا للشرع والعقل والعلم من جهة، وهو موقف ينسجم تماما مع أساسيات الطريق الصوفي من جهة أخرى.