الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وبعد: فإن الاحتفال بالإسراء والمعراج من الأمور المحدثة، التي نسبت إلى الشرع، وجعل ذلك سنة تقام في كل سنة، وذلك في ليلة سبع وعشرين من رجب، وتفنن الناس في ذلك بما يأتونه في هذه الليلة من المنكرات، وأحدثوا فيها ضروباً كثيرة، كالاجتماع في المساجد، وإيقاد الشموع والمصابيح فيها، وعلى المنارات، والإسراف في ذلك، واجتماعهم للذكر والقراءة، وتلاوة قصة المعراج المنسوبة إلى ابن عباس، والتي كلها أباطيل وأضاليل، ولم يصح منها إلا أحرف قليلة، وكذلك قصة ابن السلطان الرجل المسرف الذي لا يصلي إلا في رجب، فلما مات ظهرت عليه علامات الصلاح، فسئل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {إنه كان يجتهد ويدعو في رجب}. وهذه قصة مكذوبة مفتراة، تحرم قراءتها وروايتها إلا للبيان1
وكذلك ما يفرشونه من البسط والسجادات وغيرهما، ومنها أطباق النحاس فيها الكيزان والأباريق وغيرهما، والجامع إنما جعل للعبادة، لا للفراش والرقاد والأكل والشرب، وكذلك اجتماعهم في حلقات، كل حلقة لها كبير يقتدون به في الذكر والقراءة، وليت ذلك لو كان ذكراً أو قراءة، لكنهم يلعبون في دين الله تعالى، فالذاكر منهم في الغالب لا يقول لا إله إلا الله بل يقول: لا يلاه يلله. فيجعلون عوض الهمزة ياء وهي ألف قطع جعلوها وصلاً، وإذا قالوا سبحان الله يمطونها ويرجعونها، حتى لا تكاد تفهم، والقارئ يقرأ القرآن فيزيد فيه ما ليس فيه، وينقص منه ما هو فيه، بحسب تلك النغمات، والترجيعات التي تشبه الغناء الذي اصطلحوا عليه. ثم في تلك الليلة من الأمر العظيم أن القارئ يبتدئ بقراءة القرآن والآخر ينشد الشعر، أو يريد أن ينشده، فيسكتون القارئ، أو يهمون بذلك، أو يتركون هذا في شعره، وهذا في قراءته، لأجل تشوف بعضهم لسماع الشعر، وتلك النغمات الموضوعة أكثر.
فهذه الأحوال لو كانت خارج المسجد منعت، فكيف بها في المسجد؟! ثم إنهم لم يقتصروا على ذلك، بل ضموا إليه اجتماع النساء والرجال في الجامع، مختلطين بالليل، وخروج النساء من بيوتهن على ما يعلم من الزينة والكسوة والتحلي. إلى غير ذلك من الأمور العظيمة التي ترتكب باسم الدين، ودعوى تعظيم بعض الأمور، التي يزعمون أن تعظيمها دليل محبة للرسول صلى الله عليه وسلم2
وهذه الاحتفالات في ليلة سبع وعشرين من رجب، والتي يزعمون أنها ليلة الإسراء والمعراج باطلة من أساسها؛ لأنه لم يثبت أنه أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة بالذات. بل ولم يقم دليل معلوم، لا على شهرها، ولا على عشرها، ولا على عينها، بل النقول في ذلك منقطعة مختلفة، ليس فيها ما يقطع به، ولا شرع للمسلمين تخصيص الليلة التي يظن أنها ليلة الإسراء بقيام ولا غيره، بخلاف ليلة القدر3. ا
وقد اختلف العلماء في تحديد الليلة التي أسري فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن حجر العسقلاني: وقد اختلف في وقت المعراج فقيل: كان قبل المبعث، وهو شاذ، إلا إن حمل على أنه وقع حينئذ في المنام.
وذهب الأكثر إلى أنه كان بعد المبعث، ثم اختلفوا: فقيل: قبل الهجرة بسنة. قاله ابن سعدوغيره.
وهو مردود، فإن في ذلك اختلافاً كثيراً، يزيد على عشرة أقوال: منها ما حكاه ابن الجوزيأنه كان قبلها بثمانية أشهر -فيكون في رجب- وقيل بستة أشهر - فيكون في رمضان- رجحه ابن المنير في شرح السيرة لابن عبد البر وقيل: قبل الهجرة بسنة وشهرين، حكاه ابن عبد البر.
وقيل: بسنة وثلاثة أشهر، حكاه ابن فارس وقيل: بسنة وخمسة أشهر، قاله السدي فعلى هذا كان في شوال، أو في رمضان على إلغاء الكسرين منه ومن ربيع الأول، وبه جزم الواقدي، وعلى ظاهره ينطبق ما ذكره ابن قتيبة.
وقيل: كان في رجب، حكاه ابن عبد البر، وجزم به النووي في الروضة. وقيل: قبل الهجرة بثلاث سنين حكاه ابن الأثير
وحكى عياض وتبعه القرطبي والنووي عن الزهري أنه كان قبل الهجرة بخمس سنين، ورجحه عياض ومن تبعه4 اهـ.
فما تقدم من أقوال العلماء، وما ذكروه في ليلة الإسراء والمعراج من الخلاف، مصداق لما ذكرناه أنه لم يقم دليل معلوم لا على شهرها، ولا على عشرها، ولا على عينها، بل النقول منقطعة مختلفة، ليس فيها ما يقطع به5
قال ابن رجب6: وقد روي أنه كان في شهر رجب حوادث عظيمة، ولم يصح شيء من ذلك، فروي أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد في أول ليلة منه، وأنه بعث في السابع والعشرين منه، وقيل: في الخامس والعشرين، ولا يصح شيء من ذلك7. اهـ.
وقال أبو شامة: وذكر بعض القصاص أن الإسراء كان في رجب، وذلك عند أهل التعديل والجرح عين الكذب8. اهـ.
حكم الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج:
أجمع السلف الصالح على أن اتخاذ موسم غير المواسم الشرعية من البدع المحدثة التي نهى عنها صلى الله عليه وسلم بقوله: "إياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة"9، وبقوله صلى الله عليه وسلم: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد))10
وبقوله صلى الله عليه وسلم: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)). 11
فالاحتفال بليلة الإسراء والمعراج بدعة محدثة لم يفعلها الصحابة والتابعون، ومن تبعهم من السلف الصالح، وهم أحرص الناس على الخير والعمل الصالح.
ومن المعوم أنه لا يعرف عن أحد من المسلمين أنه جعل لليلة الإسراء فضيلة على غيرها، لا سيما على ليلة القدر، ولا كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يقصدون تخصيص ليلة الإسراء بأمر من الأمور ولا يذكرونها، ولهذا لا يعرف أي ليلة كانت. وإن كان الإسراء من أعظم فضائله صلى الله عليه وسلم، ومع هذا فلم يشرع تخصيص ذلك الزمان، ولا ذلك المكان، بعبادة شرعية، بل غار حراء الذي ابتدئ فيه بنزول الوحي، وكان يتحراه قبل النبوة، لم يقصده هو ولا أحد من الصحابة بعد النبوة مدة مقامه بمكة، ولا خص اليوم الذي أنزل فيه الوحي بعبادة ولا غيرها، ولا خص المكان الذي ابتدئ فيه بالوحي ولا الزمان بشيء.
ومن خص الأمكنة والأزمنة من عنده بعبادات لأجل هذا وأمثاله، كان من جنس أهل الكتاب الذين جعلوا زمان أحوال المسيح مواسم وعبادات كيوم الميلاد، ويوم التعميد، وغير ذلك من أحواله.
وقد رأى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- جماعة يتبادرون مكاناً يصلون فيه فقال: ما هذا؟ قالوا: مكان صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد؟! إنما هلك من كان قبلكم بهذا، فمن أدركته فيه الصلاة فليصل وإلا فليمض12اهـ
وقال ابن الحاج: ومن البدع التي أحدثوها فيه، أعني: في شهر رجب ليلة السابع والعشرين منه التي هي ليلة المعراج.... 13اهـ.
ثم ذكر كثيراً من البدع التي أحدثوها في تلك الليلة من الاجتماع في المساجد، والاختلاط بين النساء والرجال، وزيادة وقود القناديل فيه، والخلط بين قراءة القرآن وقراءة الأشعار بألحان مختلفة، وذكر الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج ضمن المواسم التي نسبوها إلى الشرع وليست منه. 14.
ومن المعلوم أن العبادات توقيفية، فلا يقال: هذه العبادة مشروعة إلا بدليل من الكتاب والسنة والإجماع، ولا يقال: إن هذا جائز من باب المصلحة المرسلة، أو الاستحسان، أو القياس، أو الاجتهاد، لأن باب العقائد والعبادات والمقدرات كالمواريث والحدود لا مجال لذلك فيها.
وأما المعقول: فتقريره أن يقال: لو كان هذا مشروعاً لكان أولى الناس بفعله محمد صلى الله عليه وسلم.
هذا إذا كان التعظيم من أجل الإسراء والمعراج، وإن كان من أجل الرسول صلى الله عليه وسلم وإحياء ذكره، كما يفعل في مولده صلى الله عليه وسلم فأولى الناس به أبو بكر رضي الله عنه ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم، ثم من بعدهم الصحابة على قدر منازلهم عند الله، ثم التابعون ومن بعدهم من أئمة الدين، ولم يعرف عن أحد منهم شيء من ذلك فيسعنا ما وسعهم.
فما ذكر من كلام العلماء، وما استدلوا به من الآيات والأحاديث فيه الكفاية، ومقنع لمن يطلب الحق في إنكار هذه البدعة، وهي بدعة الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج، وأنها ليست من دين الإسلام في شيء، وإنما هي زيادة في الدين، وشرع لم يأذن به الله، ، ومخالفة صريحة لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم المحذرة من البدع، ومما يؤسف له أن هذه البدعة قد فشت في كثير من الأمصار في العالم الإسلامي، حتى ظنها بعض الناس من الدين، فنسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين جميعاً، ويمنحهم الفقه في الدين، ويوفقنا وإياهم للتمسك بالحق، والثبات عليه، وترك ما خالفه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. 15
الهوامش
---------------
([1]) يراجع: السنن والمبتدعات (ص:147)، والإبداع (ص:272).
([2]) يراجع: المدخل لابن الحاج (1/295-298).
([3]) يراجع: زاد المعاد (1/57).
([4]) يراجع فتح الباري (7/203)، ويراجع شرح الزرقاني على المواهب اللدنية (1/307، 308)، والطبقات لابن سعد (1/213، 214)، والوفا لابن الجوزي (1/349)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (10/210)، وشرح النووي على صحيح مسلم (2/209)، وعيون الأثر لابن سيد الناس (1/181، 182)، والبداية والنهاية (3/119)، وتفسير ابن كثير (3/22)، وفتاوى النووي (ص:27)، وسبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد الشامي (3/94-96).
([5]) يراجع: زاد الميعاد (1/57).
([6]) يراجع: جامع العلوم والحكم (ص:233-235).
([7]) يراجع: لطائف المعارف (ص:168).
([8]) يراجع الباعث (ص:171).
([9]) رواه مسلم في صحيحه المطبوع مع شرح النووي (6/153-154)، كتاب الجمعة. ورواه النسائي في سننه (3/189)، كتاب صلاة العيدين. ورواه ابن ماجة في سننه (1/17)، المقدمة.
([10]) رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (5/301) كتاب الصلح، حديث رقم (2697). ورواه مسلم في صحيحه (3/1343) كتاب الأقضية، حديث رقم (1718).
([11]) رواه مسلم في صحيحه (3/1343، 1344) كتاب الأقضية، حديث رقم (1718).
([12]) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (2/376، 377). كتاب الصلوات.
([13]) يراجع: المدخل (1/294).
([14]) يراجع: المدخل (1/294-298)، وكذلك الإبداع (ص:272).
([15]) يراجع: التحذير من البدع (ص:9).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.