محمد رشيد رضا
مجلة المنار ، 14 رجب 1317 - 18 نوفمبر1899
إذا خذل الله أمة من الأمم فإنها تختار الضار وتنبذ النافع ، وتأخذ بالشر وتدع الخير ، وتستبدل الرذائل بالفضائل والسعادة بالشقاء ، وتترك لُباب الدين ، وتَتَلَهَّى بالقشور ، ويحسن لها علماؤها القبيح بالتأويل ، ويكون هديهم عين التضليل .
لا تحضر في هذا الشهر جمعة في مسجد إلا وتسمع فيها الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم على المنبر ، حتى منبر الأزهر ، والعلماء ناكسو رؤوسهم لا ينكرون على خطيب ، وإنما يقرون الخطباء إقرارًا ، وقد اتفق علماء الحديث على أن كل ما روي في صيام رجب موضوع أو واهٍ لا أصل له ، ولنذكر بعض الأحاديث الموضوعة في رجب وصومه للتحذير منها فنقول :
قال المحدثون : ( حديث ) : رجب شهر الله ، وشعبان شهري ، ورمضان شهر أمتي ، فمن صام في رجب يومين فله من الأجر ضعفان ، وزن كل ضعف مثل جبال الدنيا ... إلخ موضوع ، وفي إسناده أبو بكر بن الحسن النقاش وهو متهم ، والكسائي مجهول .
و( حديث ) : من صام ثلاثة أيام من رجب كتب الله له صيام شهر ، ومن صام سبعة أيام من رجب أغلق عنه سبعة أبواب من النار ، ومن صام ثمانية أيام من رجب فتح الله له ثمانية أبواب من الجنة ، ومن صام نصف رجب حاسبه الله حسابًا يسيرًا موضوع ، في إحدى رواياته عمر بن الأزهر وضَّاع ، وفي الأخرى ابن علوان وهو وضّاع أيضًا ، وراويه أبان متروك .
و ( حديث ) : إن شهر رجب شهر عظيم، من صام يومًا منه كتب له صوم ألف سنة ... إلخ موضوع ، في إسناده هرون بن عنترة يروي المناكير ، وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة .
و ( حديث ) : من أحيا ليلة من رجب وصام يومًا أطعمه الله ثمار الجنة ... إلخ موضوع ، آفته حصن بن مخارق ، وفي رواية بمعنى هذه ... بعثه الله آمنًا يوم القيامة .
وكذا ( حديث ) : رجب شهر الله الأصم الذي أفرده الله تعالى لنفسه ، فمن صام يومًا منه إيمانًا واحتسابًا استوجب رضوان الله الأكبر ... إلخ وفي إسناده متروكان .
و ( حديث ) : خطب النبي صلى الله عليه وسلم قبل رجب بجمعة ، فقال : يا أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم ، رجب شهر الله الأصم تضاعف فيه الحسنات ، وتستجاب الدعوات ، وتفرج الكربات وهو حديث منكر بمرة ، وكان بعض العلماء ينهى عن صوم رجب.
وأقبح من هذه الأكاذيب أكذوبة ( صلاة الرغائب ) ويروون لها حديثًا طويلاً في فضائل رجب .
ومنها أن مَن يصوم أول خميس من رجب ، ثم يصلي بين المغرب والعشاء ( من ليلة الجمعة ) اثنتي عشر ركعة بكيفية مخصوصة استجيب دعاؤه وغفر الله له جميع ذنوبه ، ولو كانت مثل زبد البحر وعدد الرمل ، ووزن الجبال وورق الأشجار ، ويشفع في سبعمائة من أهل بيته ممن استوجب النار ! ( سبحانك هذا بهتان عظيم ) ، وقد أقر السيوطي ابن الجوزي على وضعه ، وقال الإمام النووي صلاة رجب وشعبان بدعتان قبيحتان مذمومتان ، وعبارة شرح الأحياء عنه ( بدعتان موضوعتان منكرتان قبيحتان ، ولا تغتر بذكرهما في كتاب القوت والأحياء ، وليس لأحد أن شرعيتهما بقوله صلى الله عليه وسلم الصلاة خير موضوع ؛ فإن ذلك يختص بصلاة لا تخالف الشرع بوجه من الوجوه ، وقد صح النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة ) . اهـ
ومع هذا لا يزال الناس في كثير من البلاد الإسلامية يحفلون بأول ليلة جمعة من رجب يقومون ليلها ويصومون الخميس قبلها ، ويتصدقون فيها الصدقات التي كلها مفاسد ومنكرات ، ذلك أن أهل مصر يذهبون نساءً ورجالاً وأطفالاً إلى المقابر، فيبيتون في القصور المبنية عليها ، يأكلون ويشربون ويلهون ويلعبون ، والله يعلم ما يسرون وما يعلنون .
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.