الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛
1. بدعة الرثاء عند حضور الجنازة في المسجد قبل الصلاة عليها، أو بعدها قبل رفعها، أو عقب دفن الميت عند القبر:
الرثاء هو: مدح الميت وذكر محاسنه()، وهو إن لم يتضمن غلوًّا وكذبًا وافتراءًا، وإنما مجرد الثناء على الميت عند ذكره، أو مرور جنازته، أو للتعريف به بذكر أعماله الجليلة ومناقبه العظيمة ونحو ذلك، مما يشبه رثاء بعض الصحابة وغيرهم من العلماء فجائز.
وأما إذا تضمن تبرمًا على القضاء، وغلوًّا وافتراءًا في الثناء على الميت في ذكر أوصافه الباعثة على تهييج الحزن وتجديد اللوعة ونحو ذلك، فهذا منهيٌّ عنه، لحديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: (نهى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن المراثي)().
قال الشيخ علي محفوظ - رحمه الله -: (ومن البدعِ التي يدورُ أمرُها بين الحرمةِ والكراهةِ، وغالبُها أن تكونَ حرامًا: الرثاء بتلك القصائد التي ينشدها الشعراءُ عند حضورِ الجنازةِ في المسجدِ قبلَ الصلاةِ عليها أو بعدها وقبلَ رفعها، وكثيرًا تكونُ عقب دفنِ الميتِ عند القبر.
فإن المعنى الذي لأجلِه حُرِّمت النياحة على الميتِ، حتى صارت به من الكبائر، يتحققُ في كثيرٍ من مراثي شعراء اليوم، فإنه لعدم وقوفِهم عند حدودِ الدينِ أو جهلِهم به ترى النابغين منهم ينهجون في مراثيهم نهجَ الجاهليةِ والجاهلين، يندبون كما تندبُ النائحاتُ فيسبُّون الدهرَ، ويخطئون المنايا.
وقد وردَ في صحيحِ البخاري وغيرِه النهيُ عن سب الدهر؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله تبارك وتعالى: يؤذيني ابنُ آدم يسبُّ الدهرَ، وأنا الدهرُ، بيدي الأمرُ أقلبُ الليلَ والنهارَ))()، ومعناه: أنا خالق الدهر المقدرُ لما يحدث، فإذا سبَّ ابنُ آدم الدهرَ- بمعنى الزمان - من أجلِ أنه فاعل هذه الأمور، عاد سبُّه إليَّ لأني فاعلها، وإنما الدهر زمان جعلته ظرفًا لمواقع الأمور().
ويذكرون أن الأمةّ خسرت بموتِ المَرثي خسارةً لا تُعوض، وأن الفضيلةَ قُبِرَتْ معه، وأن العلمَ تيتَّمَ، ويعددون من المحاسن والنعوت ما هو كذبٌ صُراحٌ وافتراءٌ محض، كقولهم: كان بحرَ علمٍ، مجدِّدًا للدينِ، محييًا للسنةِ، مميتًا للبدعةِ، مرجعًا للمشكلات، وهم يعلمون أن الفقيدَ على العكسِ من ذلك، فترى المرثية مصدرة بإساءة الأدب مع اللهِ تعالى، مختتمة بالكذب المحرم.
والمراثي اليوم على فرضِ خلوها عن كلِّ ما يوجبُ التحريم الذي منه الكذب فلا تخلو من الكراهةِ، فإن فيها ترك سنة التعجيل بالدفن، وفيها: أنها كثيرًا ما تُقَدَّم على الصلاة كأنها الأهم)().
2. بدعة الصلاة على جنائز المسلمين الذين ماتوا في أقطار الأرض صلاة الغائب بعد الغروب من كل يوم:
لم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم وسنته الصلاة على كلِّ ميت غائب، فقد مات خلقٌ كثير من المسلمين وهم غيب فلم يصلِّ عليهم، صحَّ أنه صلى على النجاشي صلاته على الميت، فاختلف العلماء في ذلك، فمنهم من قال: إن هذا تشريع منه وسُنة للأمة الصلاة على كل غائب، وهو قول الشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة ومالك: هذا خاصٌّ به، وليس ذلك لغيره.
واختار شيخُ الإسلام ابن تيمية القول بالتفصيل، فقال: (الصوابُ: أن الغائب إن ماتَ ببلدٍ لم يُصَلَّ عليه فيه، صُلِّيَ عليه صلاة الغائب، كما صلَّى النبيُّصلى الله عليه وسلم على النجاشي، لأنه مات بين الكفارِ، ولم يُصَلَّ عليه، وإن صُلِّيَ عليه حيث ماتَ لم يُصَلَّ عليه صلاة الغائب، لأن الفرضَ قد سقطَ بصلاةَ المسلمين عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم صلَّى على الغائبِ وتركه، وفعلَه وتركَه سنة، وهذا له موضع وهذا له موضع، واللهُ أعلم، والأقوال ثلاثة في مذهب أحمد وأصحها هذا التفصيل)().
وقد سبقه إلى هذا التفصيل الإمامُ الخطابي الشافعي، فقال - رحمه الله - في "معالم السنن" ما نصُّه: (قلتُ: النجاشي رجلٌ مسلمٌ، قد آمنَ برسولِ اللهِصلى الله عليه وسلم وصدَّقه على نبوتِه، إلا أنه كان يكتمُ إيمانَه، والمسلمُ إذا ماتَ وجبَ على المسلمين أن يُصلوا عليه، إلا أنه كان بين ظهراني أهلِ الكفرِ، ولم يكن بحضرتِه من يقومُ بحقه في الصلاةِ عليه، فلزمَ رسولَ اللهِصلى الله عليه وسلم أن يفعلَ ذلك، إذ هو نبيُّه ووليُّه وأحقُّ الناسِ به، فهذا - والله أعلم - هو السبب الذي دعاه إلى الصلاةِ عليه بظاهرِ الغيب.
فعلى هذا؛ إذا ماتَ المسلمُ ببلدٍ من البلدان، وقد قُضي حقه في الصلاةِ عليه، فإنه لا يصلي عليه من كان في بلدٍ آخر غائبًا عنه، فإن علم أنه لم يُصَلَّ عليه لعائقٍ أو مانع عذر، كانت السُنة أن يصلي عليه ولا يترك ذلك لبعدِ المسافةِ، فإذا صلُّوا عليه استقبلوا القلبةَ، ولم يتوجهوا إلى بلدِ الميتِ إن كان في غيرِ جهةِ القبلةِ.
وقد ذهبَ بعضُ العلماءِ إلى كراهةِ الصلاةِ على الميتِ الغائبِ، وزعموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مخصوصًا بهذا الفعل، إذ كان في حكمِ المشاهد للنجاشي، لما رُوي في بعضِ الأخبار: أنه قد سُويت له أعلامُ الأرضِ، حتى كان يبصرُ مكانه()، وهذا تأويلٌ فاسدٌ، لأن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا فعلَ شيئًا من أفعالِ الشريعةِ، كان علينا متابعتُه والاتساء به، والتخصيص لا يعلم إلا بدليلٍ، وما يبن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم خرجَ بالناسِ إلى المصلى فصفَّ بهم، فصلوا معه، فعُلم أن هذا التأويل فاسدٌ، والله أعلم)().
قال الشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي - رحمه الله -: (ذَكَرَتْ بعضُ الحواشي الفقهية من كتبِ الشافعيةِ أنه من المستحب أن يُصلى صلاة الغائبِ بعد الغروبِ على جميعِ أمواتِ المسلمين الذين ماتوا في سائرِ أرجاءِ الأرض، وكأنه أخذه من الصلاةِ على الغائبِ، تلك الصلاة التي قال بها الشافعيةُ والحنابلةُ، استدلالًا من صلاةِ النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي، فإنه كان صلى الله عليه وسلم أرسلَ له هدية ثلاثين أوقية من مسك، ثم بعد فترة أُخْبِرَ أنه قد تُوفي، وأن الهدية ستُرد، وصلَّى عليه.
وهذه الصلاةُ على النجاشي ثابتةٌ في الأحاديث الصحيحةِ، ولكن قالت الحنفية: لا تشرعُ الصلاةُ على الميتِ الغائبِ، وأجابوا عن صلاةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه من خصوصيات النجاشي، ولم يُصَلِّ على أحدٍ بعده، ولم يثبت أن الصحابةَ من بعد الرسولِ صلُّوا على غائبٍ، وهذا القول من الوجاهةِ بمكان لا يخفى، وأحسن منه ما فصَّله شيخُ الإسلامِ ابن تيمية()، وفي الحقيقةِ قولُ شيخ الإسلام مؤيدٌ بالعقلِ والنقلِ.
هذا الحكم من حيث صلاة الغائب، فنرى أن المذاهبَ مختلفةٌ في صلاةِ الغائبِ، واستدلالُ المانعين قويٌّ، وأقوى منه قولُ شيخِ الإسلام، مع الاختلاف يأتي بعضُ الفقهاءِ "الجامدين" فيستدل من الصلاةِ على الغائبِ لميتٍ واحد، بأن يصلي على جميعِ أموات المسلمين في سائرِ أقطارِ الأرض!! وكلامه مردودٌ من وجوه:
الأول: أن هذا باعترافِه لم يبلغٍ رتبةَ الاجتهادِ واستنباطِ الدليل، لا الاجتهاد المطلق ولا الاجتهاد المقيد، بل وليس هو من أهلِ الترجيحِ بين الأدلةِ، بل ينادي على نفسِه بالتقليدِ المحض، ويُمنع من الاجتهاد مطلقًا، بل ويُحكم بغلقِ أبوابِه، يبدعُ من يدَّعي الاجتهاد!! بل الأخذ بالدليلِ وترك المذهب إذا خالف الدليل، فكيف إذا ساغَ له أن يجتهدَ هنا هذا الاجتهاد المبتدع المخالف لكتابِ اللهِ وسنةِ رسولِه صلى الله عليه وسلم وأقوالِ الأئمةِ المجتهدين وأصحابِهم من سائر المذاهب - رحمة الله عليهم أجمعين -.
ثانيًا: كيف يجتهد في مثل هذا الأمر، الحالُ أن المذاهبَ مختلفةٌ، والدليلُ غير قويٍّ من جانب المستحبين لهذه الصلاة.
ثالثًا: الأئمةُ القائلون بالصلاةِ على الغائبِ وأصحابُهم وأصحابُ أصحابِهم من المتبحرين في المذهبين - أي الشافعية والحنابلة - لم يقولوا بهذه البدعةِ الضالةِ التي منشؤها مجرد قياسٍ فاسدٍ، هكذا تحرَّفُ الأديان ويُلعبُ بها، إذا نشأَ فيها من لم يكن راسخًا في تعاليمها، أو كان يقدمُ عقلَه ورأيَه على أصولِ الدينِ وقواعدِه، فأصبحت نصوصُ القرآن والسنة غيرَ محترمة، ألعوبة بيدِ كلِّ جاهلٍ وضالٍّ.
وإلا قل لي بربك، كم ماتَ من أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ومن التابعين وفي سائرِ القرون حتى ما ظهرَ أهلُ هؤلاء الحواشي في القرون المتأخرة، هل صلَّى واحدٌ منهم على أمواتِ المسلمين بعدَ صلاةِ المغرب؟! ما هذا التلاعب!! ألم يسمع هذا الشيخ المخترع قولَه تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَانَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، وحديث: ((إياكم ومحدثات الأمور))، و((منْ عَمِلَ عملًا ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ)).
وكم لهؤلاء من البدع والضلالات وينسبوها لمذهبِ الإمامِ الشافعي، ذلك الإمامُ الجليلُ الذي أبقت الأمةُ بالثناءِ عليه وعلى فضلِه وعلمِه واجتهادِه، وهل قال الإمامُ الشافعي بهاتين البدعتين()، وبسائر البدع التي اخترعوها كالتذكيرِ قبلَ الأذان، وصلاةِ الظهرِ بعد الجمعةِ، وغيرها مما اخترعوه؟! وهل قال المزني والبويطي والزعفراني؟! بل وهل قال أئمةُ المذهب المحققون كالرفاعي والنووي والجويني والعسقلاني وأمثالهم؟!
لم يقل بمثل هذه البدع وأمثالها إلا بعضُ العلماءِ من القرونِ المتأخرة، فنراهم متناقضين في أقوالِهم، يُحَرِّمُون الاجتهاد على الراسخين في علمِ التفسير، وفي الحديثِ، والأصولِ، والعلوم العربية، ويبيحون الاختراعَ والابتداعَ لأنفسهم، الذين يقرون بأنهم ليسوا أهلًا لذلك، والله الهادي إلى سواء السبيل)().
3. بدعة قراءة {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ ...} [الحشر: 10] في التكبيرة الرابعة، وقراءة: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} [الكهف: 46] عند المرور على القبر:
سُئل ابن حجر الهيتمي - رحمه الله - عن قراءة: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ ...} الآية، في رابعة الجنازة، هل له أصل معتبر، أم يُقال لا بأس بها لمناسبة؟ وكذلك قراءة: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ}، عند المرور على القبر وكونها كفارة لإثم مروره عليه، هل له أصل أيضًا أم لا؟
فأجاب - رحمه الله - بقوله: (جميعُ ما ذُكر فيه لا أصلَ له، بل ينبغي كراهة قراءة الآيةِ المذكورةِ في الرابعة، كما تُكره القراءة في غيرِ القيامِ من بقيةِ الصلوات، وقول السائل "عند المرور على القبر"، إن أرادَ المشيَ عليه لا إثمَ فيه، أو بحذائِه فلا كراهةَ ولا إثمَ، فأي أثم في المرورِ حتى يحتاج لرفعِه)().
4. بدعة قراءة الفاتحة عقب صلاة الجنازة، وقول البعض لمن حضر: "زودوه بالفتاحة، له ولأموات المسلمين":
هذا الفعل لم يرِدْ عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من السلف الصالح، بل كانوا إذا فرغوا من الصلاة على جنازة أسرعوا بها إلى المقبرة كما جاء الأمر بذلك، ولم يأتوا بالأذكار المخصوصة عقبها كقراءة الفاتحة أو أدعية معينة أو نحو ذلك، وإنما اكتفوا بما في الصلاة من الأدعية، إذ (المقصودُ الأكبرُ من صلاةِ الجنازةِ هو الدعاء للميت، ولهذا كان عامةُ ما فيها من الذكرِ دعاءً)().
وأما ما يفعله البعض من تخصيص قراءة الفاتحة عقب صلاة الجنازة، أو قول بعضهم للحاضرين: "اقرءوا فاتحة الكتاب له ولأمواتكم ولأموات المسلمين"، أو نحو ذلك، فبدعة منكرة ما أنزل الله بها من سلطان، وقد استُفتي الإمام برهان الدين البقاعي الشافعي - رحمه الله - عن هذه المسألة، فأتى - رحمه الله– ببدعيتها - سواء كان عقب صلاة الجنازة أو الصلوات المفروضة -؛ لكونها لم تُعرف في القرون الفاضلة.
فاعترض على هذه الفتوى بعضُ أهلِ البدع والأهواء، فأتى رجلان منهم باستحباب هذه البدعة واستحسانها، وأُخذ ما فيها فصار يدور بها وينشر ويشيع الفاحشة، مما حدا بالإمام البقاعي - رحمه الله -إلى كتابة رسالة مفردة في الردِّ عليهما، وبيان بدعية هذا العمل، وكشف شبهات المحسنين لهما.
فقال في مقدمتها: (فقد وقعتْ حادثةٌ فأنكرها من استبصر، لكونِها بدعةً لم تُعهدْ في القرونِ الفاضلةِ ولم تُذكر، فأفتى عليه من لا يصف علمه ولا تحرَّر، ولا رسخَ علمُ السنةِ عنده ولا تقرَّر، بل جرأة منه جرَّته إلى مهلكاتٍ لا تُحصر، وأوقعته في خطرِ هذا الأثر: ((أجرؤُكم على الفتيا أجرؤُكم على جراثيمِ جهنم))()، فأردتُ أن أقصها عليك، وأنصها كما كانت مسوقة إليك، فإنهم حرَّفوها وغيَّرُوها، ونتفوها وبتروها، وسميناها: "السيف المسنون اللمَّاع، على المفتي المفتونِ بالابتداعِ" ...).
وقد استطرد - رحمه الله - في هذه الرسالة في بيان بدعية هذه القراءة وفسادها، كما ذكر في ثناياها بدعًا أخرى أحدثها أهلُ البدع والأهواء، ويمكن تلخيص بعض الأدلة التي ذكرها في بيان فساد هذه القراءة فيما يلي:
أولًا ـ أنها مخالفة للنصوص الشرعية والآثار السلفية الكثيرة في ذمِّ البدعة والنهي عنها:
قال - رحمه الله - بعد أن أورد مجموعة كبيرة من النصوص الشرعية والآثار السلفية في ذمِّ البدعة والنهي عنها وبيان خطورتها: "ولاشك أن هذا المنتصر لهذه البدعةِ بعد هذه النصوصِ التي تُرْهِبُ من له أدنى ورع، إنما هو ناظرٌ إلى ميلِ العامةِ والأكثر إليها، متقربٌ إليهم، مُعْرِضُ عما أشار إليه قوله تعالى:{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 18، 19].
ولقد كان الدينُ محروسًا لما كانت العامةُ تابعةً للعلماء...فلما حدثَ من العلماءِ ما يميل مع العوامِّ في أهويتهم عن ظواهر الكتابِ والسنةِ التي أوجب العلماءُ اتباعها، وحرَّموا العدول عنها إلا لدليلٍ يضطر إلى ذلك - وكان ميلهم معهم لتعظيمهم وخوفًا من ذمهم - ضعف الأمرُ وانتشرَ الفسادُ، فإنَّا للهِ وإنا إليه راجعون)().
ثانيًا ـ أنها مخالفة لصفة صلاة الجنازة التي علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته:
قال - رحمه الله - بعد أن ذكر حديث: ((صلُّوا كما رأيتموني أُصلي))، قال: (وقد مضت الأعصارُ قبلنا على الصلاةِ على غير هذه الكيفية، فمن قال: إنه أهدى منهم فقدْ باءَ بإثمٍ عظيمٍ، وخالفَ صحيحَ الأخبارِ في أنه: ((لا يأتي زمانٌ إلا والذي بعده شرٌّ منه))()، ومن هنا تُعرف أن هذه البدعة مخالفة للإجماعِ)().
ثالثًاـ أن تخصيص قراءة الفاتحة بعد صلاة الجنازة زيادة في الصلاة، وتخصيص بغير دليل، ومن المعلوم أن التخصيص خاصٌّ للشارع وليس لأحدٍ من المكلفين.
إذًا فلا داعي للكراهة من حمل الجنازة والتأنف منه، فإن ذلك مخالف للسنة النبوية والطريقة السلفية، بل اعتبرها الشيخ علي محفوظ - رحمه الله - من البدع المحدثة، فقال: (ومن البدعِ: أن يأنفَ الإنسانُ من حملِ الجنازةِ، حتى صار هذا في الأمصار شعارَ طائفةِ الحانوتيةِ، مع أنه لا دناءة في حملِها، بل هو مكرمةٌ وبرٌّ، فَعَلَه النبيُّصلى الله عليه وسلم ثم الصحابة فمن بعدهم ... ولم يكنْ السلفُ الصالحُ- رضوان الله عليهم - حُمَّالًا بأجرة، بل كانوا يحمل بعضُهم بعضًا، فيتزاحمون على النعش، ابتغاء الثواب ورضوان الله)().
5. بدعة ترك الإنصات في السير بالجنازة:
المستحب خفض الصوت في السير مع الجنازة، فلا يشتغل بشيء غير الفكر فيما هي لاقيه وصائرة إليه، وفي حاصل الحياة، وأن هذا آخرها ولابد منه، وعلى هذا كان هدي السلف الصالح رحمهم الله، فكانوا يكرهون رفع الصوت عند السير بالجنائز.
قال الإمام النووي - رحمه الله -: (اعلم أن الصوابَ المختارَ ما كان عليه السلفُ- رحمهم الله - السكوتُ في حال السيرِ مع الجنازةِ، فلا يُرفعُ صوتٌ بقراءةٍ ولا ذكرٍ، ولا غير ذلك، والحكمةُ فيه ظاهرةٌ، وهي أنه أسكن لخاطرِه، وأجمع لفكرِه فيما يتعلقُ بالجنازة، وهو المطلوبُ في هذا الحال، فهذا هو الحقُّ، ولا تغترَّ بكثرةِ من يخالفه، فقد قال أبو علي الفضيل بن عياض - رحمه الله - ما معناه: (الزمْ طُرُقَ الهدى ولا يضرُّك قلةُ السالكين، وإياك وطُرُقُ الضلالةِ، ولا تغترَّ بكثرةِ الهالكين)، وقد روينا في "سنن البيهقي" ما يقتضي ما قلتُه)().
6. بدعة الجهر بالذكر أو بقراءة القرآن أو البردة ([20]) ونحو ذلك في تشييع الجنازة:
تقدَّم أن السنة في اتباع الجنازة الإنصات وعدم رفع الصوت، والتفكر في أمر الموت والمعاد وأحوال يوم القيامة، كما هو هدي السلف الصالح في ذلك، وأما الجهر بالذكر أو القراءة أو قراءة القصائد كالبردة ونحوها، فهذه الأمور كلها بدعة سيئة أحدثته الجهلة، ويزيد أمر القراءة سواء إن كانت بالتمطيط والتلحين.
وقد أنكر أئمة الشافعية هذه المحدثات كلها وشنَّعوا على فاعليها، وهاك بعض أقوالهم في ذلك:
قال الإمام النووي - رحمه الله -: (وأما ما يفعلُه الجهلةُ من القراءِ على الجنازةِ بدمشق وغيرها، من القراءةِ بالتمطيطِ وإخراج الكلامِ عن موضعِه؛ فحرامٌ بإجماعِ العلماء، وقد أوضحتُ قبحَه وغلط تحريمه، وفسق من تمكَّن من إنكارِه فلم ينكرْه في كتابِ آداب القراء، والله المستعان، وبالله التوفيق)().
وقال الإمام ابن النحاس - رحمه الله - عند ذكر بدع الجنائز: (ومنها: قراءة المقرئين أمام الجنائز على ما يُعْهَدُ من تمطيطِهم وتلحينِهم وزيادتِهم في الحروف، وهذه بدعةٌ محرمةٌ يجب إنكارها على كلِّ قادرٍ، وقد استُفْتي النووي - رحمه الله - فقيل له: هذه القراءة التي يقرأُها الجهالُ على الجنائز بدمشق بالتمطيطِ الفاحشِ، والتغني الزائدِ، وإدخالِ حروفٍ زائدةٍ، ونحو ذلك مما هو مُشاهدٌ منهم، هل هو مذموم أم لا؟ فأجاب - رحمه الله -: (بل هذا منكرٌ مذمومٌ فاحشٌ، وهو حرامٌ بإجماعِ العلماء، وعلى ولي الأمرِ وفَّقَه اللهُ زجرُهم عنه، وتعزيرُهم واستتابتهم، ويجب إنكاره على كلِّ مكلف تمكَّن من إنكارِه)().
فإن كانت القراءةُ على وجهها من غيرِ تمطيطٍ ولا ألحان، كان ذلك بدعة مكروهة، لأن ذلك لم يرِدْ فعلُه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحدٍ ممن يُقتدى به من السلف، وكذلك الذاكرين مع الجنازة بدعة مكروهة، والله أعلم)().
7. بدعة تشييع الجنازة بدق الطبول والدفوف، وتقسيم الحلوى في عصر يوم الموت، وحلق شعر أهل البيت في اليوم الثالث:
هذه الأمور كلها ليس لها أصل في الشريعة المطهرة، وإنما أُحدثت في العصور المتأخرة، وقد ورد بعضُ الأسئلة إلى الشيخ أحمد آل بوطامي، ومنها ما نصه: (ما قول فضيلتكم في الآتي: أناس إذا مات الميت عندهم، يشيعونه بدقِّ الطبول والدفوف إلى قبره، وفي عصر يوم الموت يُقسِّمون الحلوى والزلابيا على الناس لأجل أن لا يمتلئ فمُ الميتِ بالتراب، وفي اليوم الثالث يأتي الحلاق ويحلق شعرَ أهل الميت المصابين بالحزن لأجل أن ينجوا من الهموم والأحزان)؟!
فأجاب - رحمه الله - بعد الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله بقوله: (إن كلَّ ما ذُكر في هذا السؤال من دقِّ الطبول، وتقسيمِ الحلوى، وحلقِ شعرِ أهل الميت، من البدعِ والضلالات، ومن عوائد أهل الشركِ والضلال، ليس لذلك أصل من كتابٍ ولا من سنةٍ ولا إجماعٍ ولا قولِ عالمٍ يسنده إلى الوحيين)().
8. بدعة ذبح الخرفان عند خروج الجنازة تحت عتبة الباب، أو حملها مع الخبز والزبيب إلى المقبرة وذبحها هناك قبل الدفن، وتفريق لحمها مع الخبز على الحاضرين، أو على الحافرين فقط:
هذه الأمور كلها ليس لها أصل في السنة، بل هي من البدع المحدثة، وأما الذبح عند القبر فهو من أعمال الجاهلية المنهي عنها في الشريعة الإسلامية، قال الإمام النووي - رحمه الله -: (وأما الذبحُ والعقرُ عند القبرِ فمذمومٌ؛ لحديث أنس رضي الله عنه: ((لا عقرَ في الإسلامِ))، قال عبد الرزاق: (كانوا يعقرون عند القبرِ بقرةً أو شاةً)، رواه أبو داود())().
وقال الشيخ علي محفوظ - رحمه الله -: (ومن البدعِ المذمومةِ: ذبحُ الخرفان عند خروجِ الجنازة تحت عتبةِ الباب، ومنهم: يذبحُ الجاموس عند وصولِ الجنازةِ إلى المقبرةِ قبل دفنها، ويفرِّقُ اللحمَ على من حضرَ، ويقع عند ذلك الازدحام، وربما مزَّقَ بعضُ الفقراءِ ثيابَ بعض، قال في المدخل ما ملخصه: وليحذرْ من هذه البدعةِ التي يفعلُها بعضُهم، وهي ذبحُ الذبائح وتفريقُ اللحمِ مع الخبزِ عند القبرِ، ويقعُ بذلك مزاحمة وضرب، ويأخذ ذلك من لا يستحقُّه ويحرمه المستحق في الغالب.
وذلك مخالفةٌ للسنة من وجوه؛ أحدها: أن ذلك من فعلِ الجاهليةِ لما روى أبو داود عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا عقرَ في الإسلامِ))، والعقر: هو الذبح عند القبر، الثاني: لما فيه من الرياءِ والسمعةِ والمباهاةِ والفخر، لأن السنة في أفعالِ القرب الإسرار بها دون الجهر فهو أسلمُ، والمشي بالذبيحة أمام الجنازة جمعٌ بين إظهار الصدقة والرياء والسمعة، ولو تصدَّقَ بذلك في البيتِ سرًّا لكان عملًا صالحًا لو سلمَ من البدعةِ بأن يُتَّخذ ذلك سنة أو عادة؛ لأنه لم يكن من فعلِ من مضى، والخيرُ كلُّه في اتباعه)().
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.