الرد على ترك الدنيا وذمها عند الصوفية

الرد على ترك الدنيا وذمها عند الصوفية






الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد..

          أولا: إنه واضح من أقوال هؤلاء الصوفية أنهم مصرون عن سبق إصرار وترصد على مخالفة الشرع في موقفهم من الدنيا كما خالفوه في موقفهم من الحب الإلهي، لأن لشرع لم يأمرنا بترك الدنيا ولا الآخرة، ولا أمرنا بترك جماعة المسلمين، وإنما أمرنا بعمارة الأرض والتعاون على البر والتقوى وفق شريعة الله، ومن جهة أخرى رغبنا في الآخرة على أساس أن الدنيا هي مزرعة الآخرة، ولم يقل لنا الله تعالى: تفرغوا لعبادتي بترك الدنيا، كما زعم هؤلاء الصوفية، لأن من يعبد الله حق عبادته وفق شريعته لا يقول بقولهم أبدا، فالقوم على منهج العبادة الصوفية، لا العبادة الشرعية.

          علما بأنه لا يصح ذم الدنيا مطلقا، ولا مدخها مطلقا، لأن الدنيا مزرعة الآخرة، ولابد لنا من عمارتها، فمن عاش فيها وفق شرع الله تعالى سعد بها وأوصلته إلى الجنة ونعم المقام، ومن عاش فيها معرضا عن شريعة الله تعالى ضل بها وأوصلته إلى جهنم وبئس القرار، ولهذا كما ذم الله تعالى الدنيا، كما في قوله تعالى: { إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} [محمد: 36]، وقوله تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ } [آل عمران: 185]، فإنه سبحانه من بها على بني آدم عامة وعلى المؤمنين خاصة، وبارك فيها أقواتها وخيراتها وسخرها للإنسان، وحثه على الانتفاع بها وفق شريعته، ووعد بها المؤمنين، وجعله من فضله عليهم، كما في قوله سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55]وقوله تعالى: { الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41].

          وثانيا: ففيما يخص موقف الحارث المحاسبي والأحاديث التي استشهد بها:

          فإن إسناد الحديث الأول:" بلغنا عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:" لتأتينكم من بعدي دنيا تأكل إيمانكم كما تأكل النار الحطب"[1]، لم أعثر له على أثر في كتب علم الحديث والجرح والتعديل، وقال فيه الحافظ العراقي لم أجد له أصلا"[2].

          وإسناد الحديث الثاني:" ما زال ربي معرضا عن الدنيا وعمن غرته واطمأن إليها منذ خلقها إلى يوم القيامة"[3]، هو أيضا لم أجد له ذكرا في كتب الحديث والرجال، والتواريخ والتفاسير، وقد أورده الحارث المحاسبي بصيغة الإثبات ولم يقل: بلغنا، ولا روينا ولا يقال، مع أن الخبر لا أصل له، فمن أين له به؟ لكن عثرت على حديث قريب منه، مفاده:" إن الله تعالى لم يخلق خلقا هو أبغض عليه من الدنيا، وما نظر إليها منذ خلقها بغضا لها" وهذا حديث موضوع[4].

          وإسناد الحديث الثالث: وبغلنا أن الله تعالى أوصى إلى موسى عليه السلام:" أن يا موسى لا تركن إلى حب الدنيا" لم يذكر له إسنادا، وإنما إسناده قوله: بلغنا، فهو منقطع، ولا يصح قطعا، وعبارة بلغنا هي أخت زعموا.

          والإسناد الرابع: لا يصح أيضا، رواه المحاسبي عن نبي الله عيسى عليه السلام بقوله: بلغنا... ثم أن الرجل استشهد بآية قرآنية، وأغفل الآيات التي تمدح الدنيا وذكرت على انها من نعم الله تعالى، فذكر قوله تعالى: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} [هود: 15].

          ويلاحظ على المحاسبي عدم اهتمامه بنقد أسانيد رواياته، ولا حرصه على صحتها، ففي الإسناد الأول قال بلغنا، وهي أخت زعموا، وفي الثاني قال: قال عليه الصلاة والسلام، وهذا أيضا لا يصح، لأنه كان عليه أن يذكر الإسناد ويتأكد من الخبر، فالرجل استدل بروايات بلا أسانيد من جهة، وحرمنا من إمكانية تحقيقها إسنادا من جهة أخرى، فهي روايات لا أصل لها من طريقه، ومن يحرص على دين الله تعالى ليس بهذه الطريقة يأخذ دينا، وإذا كان هو وأمثاله تساهلوا وأهملوا الأسانيد مع الأحاديث النبوية فمن باب أول أن يتساهلوا ويهملوا التوثيق مع أقوال البشر.

          ومن جهة أخرى واضح من كلام المحاسبي أنه وجه تلك الروايات حسب موقفه الصوفي في الدعوة إلى ترك الدنيا وذمها، مع أن الحقيقة هي أن الدنيا لا يصح ذمها مطلقا من دون تحديد للجانب المذموم منها، لأن حب الدنيا له جانب إيجابي واضح وهام ومطلوب، يتمثل في حب الدنيا لمعرفة الله تعالى وعبادته، وللجهاد في سبيله، واكتشاف سننه واستغلال الثروات التي خلقها الله لنا، ولهذا نجد الله تعالى مدح الدنيا وأظهر فضله علينا بها، وإنعامه بها علينا، وحثه لنا على عمارتها واستغلال ثوراتها وفق شريعته سبحانه، كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [لقمان: 20]، وقوله تعالى: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } [الأعراف: 31]، وقوله جل جلاله: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77]، وقوله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77].

          ولذلك فلا يصح ذم الدنيا مطلقا من دون تحديد الجانب المذموم منها، وهي الجسر الذي يوصل المؤمنين إلى الجنة، ومن جهة أخر إن الله تعالى ذم الدنيا، لكنه ذم الدنيا التي توصل أهلها إلى الكفر وتدخلهم إلى جهنم، كقوله تعالى: { إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} [محمد: 36]، وقوله تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ } [آل عمران: 185].

          فالدنيا بلا إيمان وعمل صالح مذمومة ويجب تركها، لكن الدنيا بالإيمان والعمل الصالح ممدوحة ويجب الحرص عليها، لأنها سبب سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة.

          وثالثا: فبالنسبة لأقوال الجنيد، فقوله:" إن الدار دار هم وغم وبلاء وفتنة، وأن العالم كل شر..."[5]، فهو مخالف للشرع قاله تصوفا لا التزاما بدين الله تعالى، نعم الدنيا دار فتنة وبلاء وابتلاء، لكنها من جهة أخرى فهي مزرعة الآخرة وفيها كثير من الخيرات والنعم الحلال التي أباحها الشرع وحث عليها، وفيها كثير من الجمال والعظمة والفرح والسرور، والله تعالى أمرنا بعمارة الأرض، واستخرج كنوزها وسننها، وفق شرعه ولم يأمرنا بتركها، قال سبحانه: { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 6]، و قال تعالى: { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 32]، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ } [لقمان: 20].، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [الأنفال: 24].

          ومن جهة أخرى فهل حقا أن الصوفية تركوا الدنيا كما يزعمون، كلا وألف كلا، إنهم انغمسوا فيها إلى الأذقان، فطلبوا الدنيا بدعوى تركها، والدليل الدامغ على ذلك، هو مخالفتهم للشرع وتقدمهم عليه وحرصهم على تطبيق تصوفهم وتحقيق غاياته، كل هذا هو استجابة لأحوالهم ورغباتهم، وهذا بلا شك، من الدنيا لا من الدين.

          والشاهد الثاني: على ذلك أيضا هو أنه من الثابت تاريخا وخاضرا أن معظم هؤلاء الصوفية أمضوا حياتهم في ترك التكسب، ، وتفرغوا لمجالس الغناء والرقص، وانتظار اللذات التي يرجونها من تصوفهم، وهي غايات صوفية دنيوية، وليس شرعية، ومن هذا حاله فهو في الحقيقة طالب دنيا لا طالب آخرة، وطالب هواه لا طالب شرع.

          وأما قوله:" ما أخذنا التصوف عن القال والقيل، لكن عن الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات والمستحسنات لأن التصوف هو صفاء المعاملة مع الله، وصل العزوف عن الدنيا كما قال حارثة: عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأ نهاري[6]، فهو كقوله السابق أقامه الجنيد على العبادة الصوفية لا الشرعية، لأن دين الإسلام بكل جوانبه الروحية والأخلاقية والعملية والعقدية لا يقوم على الجوع، ولا على ترك الدنيا، ولا على ترك المستحسنات، وإنما يقوم على طاعة الله ورسوله، والالتزام بشريعته قلبا وقالبا، وفي كل أمور الدنيا والآخرة، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56]، وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162].

          وليس من دين الإسلام أن نقيم الدنيا على الجوع، وإنما نقيمها على الاعتدال في الأكل والشرب وفق شريعة الله تعالى، وأما قوله بترك المألوفات والمستحسنات فهذا يحتاج إلى تفصيل، فإذا كانت مألوفات صحيحة، وموافقة للشرع، ومفيدة للمجتمع فيجب الحفاظ عليها لا قطعها، علما بأن الإنسان لن يستطيع الخروج عن العوائد والمستحسنات، إنما هو يستطيع أن يغيرها لا القضاء عليها، لأنه ما من نمط حياة إلا وله مألوفات ومستحسنات، والصوفية أنفسهم عندما تصوفوا وانعزلوا وضعوا لأنفسهم مألوفات ومستحسنات، فمالوا إلى الكسل وترك طلب الرزق، وأقبلوا على اللهو والرقص بدعوى الذكر والسماع، ولبسوا لمرقعات وتميزوا بها، وأظهروا زهدهم وتصوفهم للناس.

          وفيما يخص قوله:" كما قال حارثة عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري"[7]، فهو جزء من حديث اهتم به الصوفية كثيرا، كالمؤرخ الصوفي الكلاباذ ذكره وعلق عليه بقوله: وقال حرثة بن سراقة حين سأله النبي صلى الله عليه وسلم:" ما حقيقة إيمانك؟" قال: عزفت بنفسي عن الدنيا، فأظمأت نهاري، وأسهرت ليلي، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون، وإلى أهل النار يتعادون، فأخبر أنه لما عزف عن الدنيا، نور الله قلبه، فكان ما غاب منه بمنزلة ما يشاهده، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:" من أحب أن ينظر إلى عبد نور الله قلبه، فلينظر إلى حارثة"، فأخبر أنه منور القلب"[8].

          وأقول: هذا الحديث إسناده ضعيف[9]، ومتنه منكر جدا، ليس صحيح أن ترك الدنيا يؤدي إلى ما ذكره الحديث، لأن ترك الدنيا ليس من ديننا، ولأن الإيمان والإخلاص والالتزام بالشرع هو الذي ينور القلوب، وليس الغلو في الجوع والسهر، بدليل قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 7]، وقوله تعالى: { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } [التغابن: 11]، وقوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122].

          وقد شهد الشرع للصحابة رضي الله عنهم بالإيمان والعمل الصالح، وزكاهم في نصوص كثيرة، ومع ذلك لم يعزفوا عن الدنيا، وبعد العهد النبوي أصبحوا كلهم من الأغنياء وميسوري الحال، وفتحوا الفتوحات وكونوا دولة الإسلام في العهد الراشدي، فأين حكاية العزوف عن الدنيا؟

          ومما يبطل ذلك الحديث أيضا أن الصحابي المذكور فيه، وهو حارثة بن سراقة استشهد غلاما في معركة بدر وقيل في أحد، ولم يرو عنه الحديث[10]، أليس هذا دليل دامغ على أن الحديث مكذوب، فالجنيد وأمثاله من الصوفية لم تكن تهمهم صحة الحديث من عدمها، وإنما كان همهم التقعيد للعبادة الصوفية والانتصار لها، حتى وإن كان الحديث مكذوبا، فالقوم لا مجال عندهم لنقد الأخبار وتمحصيها.

          لكن ما سبب حرص الصوفية على الاهتمام بهذا الحديث؟ إنه عمدة القوم في المواضيع التي تكلم فيها، فهو قد تضمن ذكر أصل من أصول لعبادة الصوفية، وهو: ترك الدنيا، وذكر اثنين من أساسيات الطريق الصوفي، هما: الجوع والسهر، وتضمن إلى غاية العبادة الصوفية بطريقة غير مباشرة، وليست صريحة لكنه تضمن جانبا منها بحيث يستطيع الصوفية توجيهه لتأييد قولهم بغاية العبادة الصوفية الخفية، التي يسمونها الفناء في الله، وهي تعني أمرا خطيرا ومدمرا للدين والعقل والعلم، والشاهد على غايتهم الخفية هي قوله: "وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا"، ومعنى كلمه أن ممارسة التعبد الصوفي بالجوع والسهر يوصل إلى رؤية عرش الله، ومع أن الرواية لم تصرح أيكون ذلك بالرؤية المباشرة أم بالرؤية القلبية، فإن الصوفية يمكنهم الاعتماد عليها وتوجيهها في قولهم بالكشف والشهود وعلم الباطن، ليصلوا إلى غاية عبادتهم الخفية.

          لكن تجب الإشارة هنا إلى أن الحديث مع أنه متفق مع العبادة الصوفية في أكثر جوانبه، فإنه مخالف لها في ذكره لأهل الجنة والنار، لأن العبادة الصوفية تزدري المعاد الأخروي، ولا تعبد الله خوفا من ناره، ولا طمعا في جنته، لكن القوم أخذوا من الحديث ما يتفق مع العبادة الصوفية، وأعرضوا عما يخالفها، بطريقة نفعية ذرائعية عمادها: الغاية تبرر الوسيلة، ومن المحتمل أيضا أن تكون هذه الزيادة-ذكر الجنة والنار- من باب التقية لإخفاء الصوفية حقيقة عبادتهم عن المسلمين.

          والحديث يشهد بنفسه أنه موجه لتأسيس التصوف وشرعنته، في قوله بترك التكسب وعدم عمارة الأرض، والدعوة إلى السهر والجوع، ولا شك أن من يسهر ليلا فإنه سينام نهارا ويكون صومه نوما، وهذا ليس من دين الإسلام، لأن الإيمان لا يقوم على ذلك فقط، وليس بذلك التطرف والغلو وإنما يقوم على : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة: 277]، وقوله تعالى: { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2]، وقوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [التوبة: 41].

          والقرآن الكريم حدد صفات الإيمان الشرعي المقبولة بعدة صفات كقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } [الحجرات: 15]، فالقوم فصلوا الحديث على مقاسهم.

          ورابعا: إن قول سهل التستري: "من علامة حب الله تعالى حب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن علامة حب النبي صلى الله عليه وسلم حب السنة ومن علامة حب السنة بغض الدنيا، وعلامة بغضها أن لا يأخذ منها إلا زادا وبلغة"[11]، فهو قول مردود على صاحبه، ومخالف للشرع مخالفة صريحة، فهو كلام يعبر عن مكانة الدنيا عند الصوفية، وليس عن مكانتها في دين الإسلام، لأن الدنيا في شريعتنا ليست مذمومة لذاتها، فهي من نعم الله على عباده، وإنما تذم وسيلة لعبادة الله، وتطبيق شرعة، والتمتع بالطيبات الحلال التي فيها، فإنها في هذه الحالة ليس مذمومة، وإنما هي ممدوحة، لأنها هي مزرعة المؤمنين التي توصلهم إلى جنة النعيم يوم يقوم الناس لرب العالمين.

          وليس صحيحا أن من علامة حب السنة النبوية بغض الدنيا مطلقا، فهذا افتراء عليها، لأن من أهداف السنة أنها جاءت لتسعد الإنسان في الدنيا والآخرة، وتبين له الطريق الشرعي للتمتع بالحلال في الدنيا، من ذلك مثلا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني"[12]، وقوله صلى الله عليه وسلم:" إن لأهلك عليك حقا ولنفسك عليك حقا"[13].

          ولا يصح القول بأن من علامة بغض الدنيا أن لا نأخذ منها إلا زادا وبلغة، لأن بغض الدنيا لا يكون بذلك، وإنما يكون بأن نجعلها مزرعة لعبادة الله تعالى وفق شريعته، فنسعد بها في الدنيا والآخرة، ولا نجعلها مزرعة للكفر والفساد والتمتع بالحرام، وتعطيل دين الله تعالى، ولهذا قال سبحانه: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]، وقال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [الأعراف: 32]، وقوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } [البقرة: 223]، ولم يقل لنا أبغضوا الدنيا بترك التمتع بحلالها، وقد زكى الله تعالى الصحابة، وشهد لهم بالإيمان والعمل الصالح، وبشر كثيرا منهم بدخول الجنة، ومع ذلك كان بعضهم غنيا في العهد النبوي، ثم أصبحوا كلهم أغنياء وميسوري الحال زمن الخلافة الراشدة، ومع ذلك كانوا مؤمنين يحبون الله ورسوله.

          وأما قول بشر بن الحارث الحافي:" من طلب الدنيا فليتهيأ للذل"[14]، فهو علىى شاكلة أصحابه في الدعوة إلى ترك الدنيا وذمها، من دون التمييز بين جانبيها الإيجابي والسلبي، لأن الدنيا في ذاتها كسيف بحدين، قد تكون طريقا إلى الإيمان والفلاح والعز، وقد تكون طريقا إلى الذل والضلال والخسران، ولهذا يجب تعديل مقولته لتصبح: من لب الدنيا بالحرام فليتهيأ للذل.

          وكذلك قول أبي يزيد البسطامي عندما سئل عن السنة والفريضة فقال:" السنة ترك الدنيا، والفريضة الصحبة مع المولى، لأن السنة كلها تدل على ترك الدنيا، والكتاب كله يدل على صحبة المولى، فمن تعلم السنة والفريضة فقد كمل"[15]

          إنه قول أسس به البسطامي للعبادة الصوفية بالافتراء على الشرع وتحريفه تعمدا، لأن الثابت قطعا أن كلا من السنة والفريضة لا يدلان على ترك الدنيا ولا على صحبة المولى، وإنما يدلان ويأمران بعبادة الله تعالى وفق شرعه في حياتنا الدنيوية، لقوله تعالى: { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18]، ولقوله سبحانه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [الأنعام: 153]، وأيضا قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162].

          وليس صحيحا أن السنة هي ترك الدنيا، لأن السنة النبوية لا تدل على ذلك، وإنما تأمر بإقامة الدنيا وفق شريعة الله تعالى، وهذا الذي أقامه النبي صلى الله عليه وسلم عندما كون دولة المدينة، واستمرت على أيدي أصحابه من بعده في تكوينهم للخلافة الراشدة.

          والقرآن الكريم أمرنا بعمارة الدنيا وفق شريعة الله تعالى، ووعد المؤمنين بتحقيق لهم ذلك، بقوله سبحانه: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود: 61]، وقوله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41]، وقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55]، فكل من القرآن والسنة أمر بعبادة الله وعمارة الأرض وفق شريعة الله، فأين ما زعمه البسطامي الذي عطل الشرع وجعله في خدمة التصوف؟

          والراجح عندي أن البسطامي-بذلك القول- أخفى حقيقة الصوفية متسترا بعبارتي السنة والفريضة، لأن الفريضة في الحقيقة ليست صحبة المولى كما قال الرجل، فهذا تعبير مشبوه، لأن الله تعالى فرض علينا عبادته والتزام شرعه، ولم يقل الله لنا صاحبوني، أو رافقوني، وإنما أمرنا بعبادته وطاعته والالتزام بشريعته، فالله تعالى معنا بعلمه وإرادته وقدرته، وأوامره، ونحن معه بالتزامنا بشرعه قلبا وقالبا.

          والحقيقة أن الرجل تكلم عن العبادة الصوفية لا الشريعة، لأن عبادته هي التي من أسسها ترك الدنيا، ومن غايتها صحبة الله حسب زعم الصوفية في قولهم بالفناء في الله، ولهذا فالسنة عنده هي سنة الصوف التي تعني ترك الدنيا، وليست السنة الشرعية التي تعني اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في إقامته للدين والدنيا معا، والفريضة عنده هي فريضة التصوف التي تعني الالتزام بالطريق الصوفي الموصل إلى المعرفة الصوفية المزعومة وليست هي الالتزام بما فرضه الله علينا.

          وخامسا: إنه تبين من أقوال هؤلاء الصوفية أنهم دعوا إلى السلبية وترك طلب الرزق، وهجر الأموال والأولاد، والاتكال على غيرهم لتوفير ضروريات الحياة، وهذا موقف مخالف للشرع ومدمر لحياة البشر الدنيوية والأخروية معا، حتى أن أحدهم عندما سئل عن التصوف قال:" إن لا تملك شيئا ولا يملكك شيء، وقال آخر: لولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا، وما أحب البقاء في الدنيا لتشقيق الأنهار ولا لغرس الأشجار"، وقول يحيى بن معاذ:" اعلموا أن ترك الدنيا هو الربح نفسه الذي ليس بعده أمر أشد منه، فإن ذبحتم بتركها نفوسكم أحييتموها، وإن أحييتم أنفسكم بأخذها قتلتموها"[16].

          إن هؤلاء الصوفية يغالطون ويلبسون على الناس دينهم، فهم كانوا غارقين في رسومهم وأهوائهم، وحريصين على عقد مجالس الغناء والرقص، ولبس المرعات، وازدراء من يعمل لطلب الرزق، وكانوا حريصين على التقرب من الملوك والأمراء والأغنياء ليبنوا لهم الزوايا فقد كانوا حريصين على مخالفة الشرع والتقدم عليه بأحوالهم وتصوفهم.

          علما بن الله تعالى لم يخلقنا لترك الدنيا والانسحاب منها، وإنما أمرنا بعمارتها لأنها هي مزرعة الآخرة، فنحن مكلفون بعمارتها وزراعتها أحببنا أم كرهنا، ولا غنى لنا عن ذلك، وعليه فيجب علينا أن نعمرها وفق شريعة الله تعالى لنفلح فيها وفي الآخرة، قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [الأنفال: 24]، وقال تعالى: { وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود: 61]، وقال جل ذكره: { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } [الجاثية: 18].

          والشرع لم يأمرنا بتعذيب أنفسنا وترك شهواتنا في هذه الدنيا، وإنما أمرنا بطاعة الله في استجابتنا لدوافع وحاجيات أنفسنا، فيجب أن نربيها ونجاهدها بأن نحملها على الالتزام بشريعة الله تعالى في تلبيتنا لأشواقنا ودوافعنا وغرائزنا النفسية والعقلية والجسدية، لأنها مخلوقة فينا لأداء مهام منوطة بها، فنستجيب لشهواتها، ونعطيها حقوقها باعتدال ولا نحرمها حقوقها، لأن حرمانها مخالف للشرع، ومفسد للنفس والجسم والمجتمع، قال سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقال تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } [البقرة: 223]، وقال تعالى: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31].

 وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام، أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال، كان له أجر"[17].

          ولذلك فإن الصحيح في العلاقة بين الدنيا والآخرة، ليست الدنيا مذمومة من أجل الآخرة، ولا أن الدنيا مجرد جسر إلى الآخرة، وإنما مذمومة من أجل الآخرة، ولا أن الدنيا مجرد جسر إلى الآخرة، وإنما الصحيح في ذلك هو أن الدنيا مزرعة الآخرة، فلابد من العمل والاجتهاد لعمارتها وفق شريعة الله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 7 - 10]، وقوله تعالى: { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 5 - 10].

          وهؤلاء الصوفية ذكروا صراحة أن بداية الطريق الصوفي تتطلب التجرد عن الدنيا وعدم امتلاك أي شيء حسب القشيري، وقولهم هذا مخالف للشرع منطلقا ومضمونا، لأن الطريق إلى الله لا يصح لأن إنسان أن يتكلم في من دون الانطلاق من الشرع والاحتكام إليه، لأن الله سبحانه هو الذي وضع لنا منهج الحياة، وهو الذي يعلمن الطريق الذي نعبده به، وقد طبقه رسوله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، لكن هؤلاء الصوفية تركوا الشرع وراء ظهورهم وقرروا ما يخالفه صراحة.

          إن منهج عبادة الله تعالى يقوم أساسا على الإيمان والإخلاص والاستقامة على شريعته في عمارتنا للأرض ولا يقوم أبدا على ترك الدنيا، وعدم امتلاك أي شيء كما زعم هؤلاء، ومن الثابت قطعا أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم لم يكن يشترط على الذين يؤمنون به أن يتجردوا من الدنيا وأملاكهم، ولهذا وجدنا الصحابة الذين آمنوا به، وشهد لهم الشرع بالإيمان والعمل الصالح، كانوا من مختلف شرائح المجتمع، من الأغنياء والميسورين، والفقراء، فالطريق إلى الله تعالى لا يقوم أبدا على ترك الدنيا ولا على عدم امتلاك أي شيء، وإنما يقوم على الإيمان والإخلاص والاستقامة على الشرع، فتكوون نتيجة ذلك أن يظفر المسلم بالإيمان الصحيح الذي رزقه الله به، وأما الطريق الصوفي فهو ليس منهجا شرعيا، ولا يورث أحوالا صحيحة، وإنما يورث أصحابه أحوالا فاسدة، ويوقهم في مخالفات وانحرافات تهدم الشرع والعقل والعلم.

          وأخيرا: أن الأحاديث النبوية التي احتج بها الصوفية في قولهم بترك الدنيا وذمها انتصارا للتصوف لم يصح ولا واحد منها[18].

          وختاما: يستنتج أن الأصل الثاني المؤسس للعبادة الصوفية والمتعلق بموقف التصوف من الدنيا، هو موقف مخالف لموقف الإسلام من الدنيا، وعليه فإن أية رواية حديثية يحتج بها الصوفية لتأييد موقفهم من الدنيا، فهي رواية غير صحيحة، أو أنها مؤولة تأويلا تحريفيا تعضيدا للتصوف.

          وتبين أن دعوة الصوفية إلى ترك الدنيا وذمها، هو موقف معطل لدين الإسلام، وهادم لمبدأ عمارة الأرض، لكنهم من جهة أخرى مع كثرة ذمهم للدنيا، فإنهم في الحقيقة من أكثر الناس حبا لها وازدراء بالآخرة، إنهم طلبوا الدنيا بطريقتهم الخاصة، طلبوها بمخالفة الشرع وذم الدنيا بدعوى التفرغ للعبادة الصوفية، فدعوتهم إلى ذم الدنيا وتركها لم تكن من أجل الإسلام في الدنيا ولا في الآخرة، وإنما كانت من أجل الدنيا فقط.

          واتضح أيضا أن الصوفية لم يهتموا بطلب الروايات الصحيحة، ولا مارسوا النقد التاريخي بأنفسهم إلا قلة قليلة منهم طبقته في مجال ضيق جدا، فعلوا ذلك ليسهل عليهم الاغتراف من المرويات الحديثية والتاريخية الضعيفة والموضوعة وتوظيفها لتأييد التصوف والرد بها على خصومه.

 



[1] المحاسبي: الوصايا، (69) وما بعدها.

[2] الحافظ العراقي: المغني عن حمل الأسفار في الأسفار، (5/35).

[3] المحاسبي: الوصايا، (69) وما بعدها.

[4] الألباني: صحيح وضعيف الجامع الصغير، (3/136).

[5] أبو نعيم: حلية الأولياء(10/270)..

[6] أبو نعيم: حلية الأولياء(10/278)..

[7] المرجع السابق.

[8] الكلاباذي: التعرف لمذهب التصوف (16)..

[9] الهيثمي: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، (1/220، 221)، والحافظ العراقي: المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج أحاديث الإحياء (44).

[10] ابن أبي حاتم: الجرح والتعديل، (3/254)، الإصابة في معرفة الصحابة (1/614).

[11] أبو طالب المكي: قوت القلوب (1/360).

[12] البخاري: الصحيح، (7/2)، رقم(563).

[13] الألباني: السلسلة الصحيحة، (1/393)، رقم(394).

[14] المياليني: الأربعون في شيوخ الصوفية رقم(67)، ص(86).

[15] أبو عبد الرحمن السلمي: طبقات الصوفية، (74)، وأبو يزيد البسطامي: المجموعة الصوفية الكاملة (94)..

[16] سبق تخريج هذه الآثار.

[17] أخرجه مسلم (3/82)، رقم(2386)، والألباني : صحيح الجامع الصغير (3/279)، والصحيحة (5/497).

[18] انظر: ابن حجر: تهذيب التهذيب (5/310)، و(8/322) الذهبي: الميزان (3/187)، و (2/115)، ابن حجر التقريب (2/267)، الذهبي تذكرة الحفاظ، (1/108، 109)، رقم(138)، أبو سعيد العلائي: جامع التحصيل في أحكام المراسيل (293)، رقم(748)، وابن حجر: طبقات المدلسين (26)، رقم (30)، الغزي العامري: الجد الحثيث في بيان ما ليس بحديث (100)،  الألباني: السلسلة الضعيفة، (14/914)، وأبو زرعة العراقي: كتاب المدلسين (195، 89)، وما بعدها.

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
الرد على ترك الدنيا وذمها عند الصوفية.doc doc
الرد على ترك الدنيا وذمها عند الصوفية.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى