الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة على العالمين، ثم أما بعد؛ بعدما أصل الصوفية للعبادة في التصوف بأول أصولها وهو الحب الصوفي، أضافوا إليها أصلها الثاني، وهو: ترك الدنيا وذمها، وكما أنهم أعطوا للحب الصوفي مفهوما غير شرعي، فهم أيضا اتخذوا موقفا مخالفا للشرع في موقفهم من الدنيا، لأنه يتفق تماما مع أصلهم الأول وهو امتداد له، فكما أنهم تبنوا الحب الصوفي بأحوالهم ورغباتهم بعيدا عن الشرع، فنفس الأمر طبقوه في موقفهم من الدنيا، فما تفاصيل ذلك؟ ولماذا تبنوه مع مخالفته للشرع والعقل؟
فمن أقوالهم المتعلقة بترك الدنيا وذمها، قول الصوفي داود الطائي: "صم عن الدنيا، واجعل فطرك الموت، وفر من الناس كفرارك من السبع"[1]، وقال:" توحش من الدنيا كما تتوحش من السباع"[2].
وعن إبراهيم ابن أدهم أنه قال:" من تزوج أو كتب الحديث أو طلب معاشا فقد ركن إلى الدنيا"[3].
وروي أنه قال لأحد أصحابه:" إن كنت تحب أن تكون لله وليا وهو لك محبا فدع الدنيا والآخرة ولا ترغبن فيهما وفرغ نفسك منهما وأقبل بوجهك على الله يقبل الله بوجهه عليك، ويلطف بك"[4].
وقيل أنه قال لرجل:" أتحب أن تكون لله وليا؟ فقال: نعم، فقال: لا ترغب في شيء من الدنيا والآخرة، وفرغ نفسك لله تعالى، وأقبل بوجهك عليه ليقبل عليك ويواليك"[5].
وجعل الحارث المحاسبي المال أصلا عظيما من أصول الفساد، وأورد روايات حديثية وأخرى تاريخية عن بعض الأنبياء من دون إسناد مكتفيا بقوله بلغنا، وقال[6]، وذم الدنيا بروايات من دون تحقيق منها الأحاديث الآتية:
وقال المحاسبي:" بلغنا عنه عليه السلام أنه قال:" لتأتينكم من بعدي دنيا تأكل إيمانكم كما تأكل النار الحطب"[7].
وقال أيضا: وقال عليه السلام:" ما زال ربي معرضا عن الدنيا وعمن غرتهه واطمأن إليها منذ خلقها إلى يوم القيامة"[8].
و:" بلغنا أن الله تعالى أوصى إلى موسى عليه السلام:" أن يا موسى لا تركن إلى حب الدنيا، فلن تأتي بكبيرة هي أشد عليك من حب الدنيا"[9].
وذكر خبرا عن عيسى عليه السلام بقوله:" وبلغنا[10]، ثم أن المحاسبي استشهد بآية قرآنية، وأغفل الآيات التي تمدح الدنيا وأنها من نعم الله تعالى على عباده، فذكر قوله تعالى: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ} [هود: 15][11].
وأرود المحدث أبو سعد الماليني قولا للصوفي بشر الحافي بإسناده، فقال: حدثنا أبو الحسين محمد بن أحمد بن جميع، أخبرنا محمد بن مخلد، أخبرنا محمد بن المثنى، قال: سمعت بشر بن الحارث، يقول:" من طلب الدنيا فليتهيأ للذل"[12].
وقال الصوفي أبو محمد بن سهل التستري:" من علامة حب الله تعالى حب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن علامة حب النبي صلى الله عليه وسلم حب السنة ومن علاة حب السنة بغض الدنيا، وعلامة بغضها أن لا يأخذ مها إلا زادا وبلغة"[13].
وعن الصوفي الشاعر سمنون بن حمزة الخواص البغدادي أنه سئل عن التصوف، فقال:" أن لا تملك شيئا، ولا يملكك شيء"[14].
وعن شيخ الصوفية الجنيد بن محمد أنه قال:" إن الدار دار هم وغم وبلاء وفتنة، وأن العالم كله شر ومن حكمه أن يتلقاني بكل ما أكره، فإن تلقاني بكل ما أحب فهو فضل وإلا فالأصل هو الأول"[15].
وقال أيضا: "ما أخذنا التصوف عن القال والقيل لكن عن الجوع وترك الدنيا وقطع المألوات والمستحسنات لأن التصوف هو صفاء المعاملة مع الله وأصله العزوف عن الدنيا، كما قال حارثة:" عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري"[16].
وعن حديث حارثة قال المؤرخ الصوفي الكلاباذي:" وقال حارثة ابن سراقة ،حين سأله النبي صلى الله عليه وسلم :" ما حقيقة إيمانك؟" قال: عزفت نفسي عن الدنيا، فأظمأت نهاري وأسهرت ليلي، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون، وإلى أهل النار يتعادون".
فأخبر أنه لما عزف عن الدنيا، نور الله قلبه، فكان ما غاب منه بمنزلة ما يشاهده، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:" من أحب أن ينظر إلى عبد نور الله قلبه، فلينظر إلى حارثة"، فأخبر أنه منور القلب"[17]
وقال الصوفي أبو سليمان الداراني:" إذا طلب الرجل الحديث أو تزوج أو سافر في طلب المعاش فقد ركن إلى الدنيا"[18] ، و قال:" لولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا، وما أحب البقاء في الدنيا لتشقيق الأنهار ولا لغرس الأشجار"[19].
وعن أبي يزيد البسطامي أنه سئل عن السنة والفريضة فقال:" السنة ترك الدنيا، والفريضة الصحبة مع المولى، فمن تعلم السنة والفريضة فقد كمل"[20].
وقال الصوفي كاشف سر الصوفية الحسين بن منصور الحلاج البغدادي :" علامة العارف أن يكون فارغا من الدنيا والآخرة"[21].
وقال يحيى بن معاذ:" اعلموا أن ترك الدنيا هو الربح نفسه الذي ليس بعده أمر أشد منه، فإن ذبحتم بتركها نفوسكم أحييتموها، وإن أحييت أنفسكم بأخذها قتلتموها، فارفضوها من قلوبكم تصيروا إلى الروح لراحة في الدنيا والآخرة، وتصيبوا شرف الدنيا والآخرة، وعيش الدنيا والآخرة إن كنتم تعلمون، عذبوا أنفسكم في طاعة الله بترك شهواتها قبل أن تلقى الشهوة منها أجسامكم في دبار عاقبتها، واعلموا أن القرآن قد ندبكم إلى وليمة الجنة ودعاكم إليها فأسرع الناس إليها أتركه للدنيا، وأوجدهم لذة لطعم تلك الوليمة أشدهم تجوعا لنفسه ومخالفة لها"[22].
وقال أيضا:" الدنيا دار خراب، وأخرب منها قلب من يعمرها، والآخرة دار عمران، وأعمر منها قلب من يطلبها"[23].
ويرى الصوفي عبد الكريم القشيري أن بداية الطريق الصوفي يجب فيها على البعد التجر من الدنيا ولا يملك شيئا[24].
وقال أبو نعيم الأصبهاني:" وقد قيل: إن التصوف تطليق الدنيا بتاتا، والإعراض عن منالها ثباتا"[25].
وعن الشيخ الصوفي عبد القادر الجيلاني أنه قال:" يا غلام، اقرن بين الدنيا والآخرة، واجعلهما في موضع واحد، وانفرد بمولاك عز وجل عريانا من حيث قلبك، بلا دنيا ولا آخرة، يا غلام، لا تكن مع النفس ولا مع الهوى، ولا مع الدنيا، ولا مع الآخرة، ولا تتابع سوى الحق عز وجل"[26].
وروى أبو نعيم الأصبهاني بإسناده أن الصوفي أبا الأشهب قال:" أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام يا داود حذر فأنذر أصحابك أكل الشهوات فإن القلوب المتعلقة بشهوات الدنيا عقولها محجوبة"[27].
وقال الصوفي أبو طالب المكي:" وروينا أن عيسى عليه السلام مر في سياحته برجل نائم ملتف في عباءة فأيقظه وقال: قم يا نائم فاذكر الله تعالى فقال: ما تريد مني؟ إني قد تركت الدنيا لأهلها فقال له عيسى عليه السلام: نم حبيبي إذا نم"[28].
وآخرهم: أبو نعيم الأصبهاني، حذر من الدنيا ونفر منها، ثم استدل بحديث فقال:" حدثنا سليمان بن أحمد، إملاء، حدثنا أحمد بن داود المكي، ثنا إسماعيل بن مهران بن سليمان الواسطي، حدثنا زيان بن عبد الله المدحجي، عن عمر بن موسى بن وجيه، عن الزهري، عن عبد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الغداة قعد في مصلاه حتى تطلع الشمس، فأقبل جرير بن عبد الله فقال: السلام عليكم يا معشر قريش، أين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم" أسلم تسلم يا جرير، إني أحذرك الدنيا وحلاوة رضاعها ومرارة فطامها"[29].
وذكر أيضا أن من صفات الصوفية: عدو لهم عن الترفه والتنعم احترازا من التولي والتصرم، ثم استدل على ذلك بحديث، فقال:" حدثنا محمد بن أحمد بن حمدان، حدثنا الحسن بن سفيان، حدثنا كثير بن عبيد، حدثنا بقية بن الوليد، عن السري بن ينعم، عن أبي الحسن مريح الهوزني، عن معاذ بن جبل، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له حين بعثه إلى اليمن:" إياك والتنعم، فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين"[30].
وأشير هنا إلى أن للصوفية أحاديث كثيرة نسبوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم أيدوا بها موقفهم في ذم الدنيا والتنفير منها، سبق أن ذكرنا طائفة منها وهنا أورد أحاديث أخرى لم يتقدم ذكرها:
أولها: قال أبو نعيم الأصبهاني:" حدثنا محمد أبو عمرو بن حمدان، حدثنا الحسن بن سفيان، حدثنا عبد الوهاب بن الضحاك، حدثنا ابن عباس، حدثنا صفوان بن عمرو، عن خالد بن معدان، عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" يا حذيفة إن في كل طائفة من أمتي قوما شعثا غبرا إياي يريدون وإياي يتبعون، وكتاب الله يقيمون، أولئك مني وأنا منهم وإن لم يروني"[31].
والحديث الثاني: قال أبو نعيم الأصبهاني:" حدثنا سلميان بن أحمد، حدثنا بكر بن سهل، حدثنا عمرو بن هاشم، حدثنا سليمان بن ابي كريمة، عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من سأل عني أو سره أن ينظر إلي فلينظر إلى أشعث شاحب مشمر لم يضع لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة، رفع له علم فشمر إليه، اليوم المضمار وغدا السباق والغاية الجنة أو النار"[32].
ونفس الحديث أورده السلمي وعلق عليه بقوله: إن الصوفية ممدحون بلسان النبوة، لما رويت عائشة رضي الله عنها قالت: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سره أن ينظر إلي فلينظر إلى أشعث شاحب مشمر لم يضع لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة، رفع له علم فشمر إليه، اليوم المضمار وغدا السباق والغاية الجنة أو النار"[33].
والحديث الثالث: مفاده أن عبد القادر الجيلاني قال:" فيتحقق حينئذ من قوله صلى الله عليه وسلم:" الدنيا والآخرة ضرتان، إن أرضيت إحداهما أسخطت عليك الأخرى"[34].
[1] القشيري، الرسالة القشيرية، ص (54).
[2] أبو نعيم الأصبهاني: حلية الأولياء (7/343).
[3] أبو طالب المكي، قوت القلوب(1/221).
[4] أبو نعيم الأصبهاني: حليلة الأولياء (10/82).
[5] القشيري، الرسالة القشيرية، (418).
[6] المحاسبي: الوصايا، (69) وما بعدها.
[7] المرجع السابق (69).
[8] المرجع السابق(69).
[9] المرجع السابق(70).
[10] المرجع السابق (70).
[11] المرجع السابق(71).
[12] المياليني: الأربعون في شيوخ الصوفية رقم(67)، ص(86).
[13] أبو طالب المكي: قوت القلوب (1/360).
[14] القشيري: الرسالة القشيرية، (2/441).
[15] أبو نعيم: حلية الأولياء(10/270).
[16] أبو نعيم: حلية الأولياء(10/278).
[17] الكلاباذي: التعرف لمذهب التصوف (16).
[18]أبو طالب المكي: قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد (1/193).
[19] الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد (10/248).
[20] أبو عبد الرحمن السلمي: طبقات الصوفية، (74)، وأبو يزيد البسطامي: المجموعة الصوفية الكاملة (94).
[21] القشيري: الرسالة القشيرية، ص(142).
[22] أبو نعيم الأصبهاني : حلية الأولياء (10/65).
[23] يحيى بن معاذ: جواهر التصوف (183).
[24] القشيري: ترتيب السلوك في طريق الله تعالى(25).
[25] أبو نعيم الأصبهاني: حلية الأولياء (1/30).
[26] عبد القادر الجيلاني: الفيض الرباني والفيض الرحماني، (14، 15).
[27] أبو نعيم الأصبهاني: حلية الأولياء، (9/261).
[28] أبو طالب المكي: قوت القلوب، (1/367).
[29] أبو نعيم الأصبهاني: الأربعين على مذهب المتحققين من الصوفية، (31).
[30] أبو نعيم الأصبهاني: الأربعون على مذهب المتحققين من الصوفية، (61).
[31] أبو نعيم الأصبهاني: حلية الأولياء، (1/9).
[32] المرجع السابق.
[33] أبو عبد الرحمن السلمي: المقدمة في التصوف وحقيقته، (85).
[34] عبد القادر الجيلاني: فتوح الغيب، المقالة السادسة والثلاثون.
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.