التزكية وإرهاق النفس

التزكية وإرهاق النفس





الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، ثم أما بعد؛ المتأمل لكتب التصوف يلاحظ أنها تركز على ضرورة إرهاق النفس والتشديد عليها وتعذيبها بالجوع وطول السهر، وإبعادها عن أي حظ من حظوظها ولو كان مباحا، لأنها عنده أصل كل بلية فلابد من محوها وكبت غرائزها وتحطيم جميع رغباتها، وقد أفصح ابن عجيبة في شرحه للحكم العطائية عن ذلك فقال:" إن طريق مجاهدة النفس أن تعلمها الصمت ثم العزلة ثم تقدمها للخراب شيئا فشيئا"[1].

ولذلك يؤكدون على احتقار النفس وتعريضها للهوان وكسر غرائزها، وأن من فعل ذلك فقد تحقق بشروط الطريق، وفي ذلك يقول الشعراني:" من شرط المريد الصادق أن يرى نفسه كأنه محل للأرجاس، ومقامه دائما تحت أقدام الناس"[2].

ويقول أيضا في حديثه عن بعض شيوخ الصوفية وما كان يلزم به نفسه من مجاهدات:" قاسيت الأهوال في بدايتي، وما تركت هولا إلا ركبته، وكان لباسي جبة صوف وعلى رأسي خريقة، وكنت أمشي حافيا في الشوك وغيره، وكان قوتي قمامات البقل وورق الخس من شاطئ النهر، ولم أزل آخذ نفسي بالمجاهدة حتى طرقني من الله تعالى الحال الذي يطرق القوم، وكان يقول: لقد تظاهرت بالخرس والجنون مرارا لتنفر الناس عني ولا يشغلوني عن ربي عز وجل، وجملت مرارا إلى المارستاتا، وأقمت في صحراء بغداد والعراق وخرائبها نحو خمس وعشرين سنة على التجريد والسياحة حتى كنت الخلق ولا يعرفونني"[3].

فانظر كيف تعرض هذه الأحوال في كتب التصوف على أنها أحوال كمال ورقي مع أنها لا تليق بمنزلة العبد المسلم الذي كرمه الله سبحانه وجعله خليفة في الأرض وشرفه بحمل أمانة هذا الدين ونشر نوره بين الناس.

وإذا كان الدافع لهذا الغلو علاج أمراض النفس وآفاتها من تكبر وغرور وتسلط للشهوات، فإن ذلك العلاج بلغ في جوره وغلوه أنه لم يكتف بإزالة المرض وإنما أراد أن يزيل النفس ويمحو أثرها ويحطم طاقتها وكيانها، حتى يصبح الإنسان عضوا أشل في المجتمع لا يرجى منه أن صلح فساد الناس أو يرشدهم إلى طرق الخير[4].

وقلما يسلم كتاب من كتب التصوف من هذا الغلو والتأكيد على ضرورة كسر الشهوات والمبالغة في تحقير النفس وتعذيبها.

وقد أورد الإمام الغزالي في الإحياء صورا كثيرا من معاقبة النفس وتعذيبها وأثنى على من فعل لك، ومن هذه الصور أن رجلا كلم امرأة فلم يزل حتى وضع يده على فخذها ثم ندم فوضع يده على النار حتى يبست، وأن آخر ترك يده معلقة تصيبها الأمطار والرياح والثلج والشمس حتى تقطعت فسقطت، فشكر الله له ذلك وأنزل ذكره في بعض كتبه!!

وأن ثالثا نظر إلى محاسن امرأة فرفع يده فلطم عينه حتى بقرت!!

وأمثال ذلك[5]، فانظر كيف يصل الغلو بهؤلاء إلى اقتراف المحرمات على أنها قربات إلى الله سبحانه، فالعقوبة المشروعة التي يجوز للعبد أن يأخذ بها في مجاهدة نفسه ان يمنعها من بعض الحلال في المأكل أو الملبس أو المسكن فترة معينة أو يلزمها ببعض الطاعات والنوافل بقر لا يخل بالواجبات الأخرى، كما سبق بيانه عند الحديث عن مجاهدة النفس.

وقد نبه الإمام ابن الجوزي رحمه الله إلى ذلك في كتابه "منهاج القاصدين" الذي هو مختصر لإحياء علوم الدين، وأورد أن بعض ما كان السلف يعاقبون به أنفسهم من عقوبات مباحة، ثم قال:" فأما العقوبات بغير ذلك مما لا يحل، فيحرم عليه فعله".

وأشار إلى بعض ما ورد في الإحياء من أمثلة مواقف ثم قال عنها:" وهذا من الجهل بالعلم، فإنه ليس للإنسان أن يتصرف في نفسه بمثل هذا"[6].

كما حمل بشدة على هذا الغلو في كتابيه:" تلبيس إبليس"، و"صيد الخاطر" فحذر من مبالغات الصوفية في تقليل المطعم ومعاقبة النفس بالجوع والعطش والتبذل في اللباس وإرهاق النفس وتعذيبها بحجة الزهد في الدنيا وقع العلائق التي تعوق عن طريق الآخرة[7].

فكان مما قاله:" كيف يجوز لنا نعذبها، وقد قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29]، ورضي منا بالإفطار في السفر رفقا بها، وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، أوليست مطيتنا التي عليها وصولنا"[8].

ثم قال:" إن للنفس حقا ومنع الحق مستحقة ظلم، ولا يحل للإنسان أن يؤذي نفسه، وقوام النفس بالأغذية فإذا منعها أغذية الآدميين ومنعها الماء فقد أعان عليها، وهذا من أفحش الخطأ، وكذلك منعه إياها من النوم.. وهذه النفوس ودائع الله عز وجل"[9].

كما بين رحمه الله أن البدن مطية، لابد من الرفق بها لتصل براكبها إلى المنزل، وأن حرانها الدائم يؤدي إلى السقم ويمنع صفاء الذهن، وأن إعطاءها بعض حظوظها المباحة يعين على سيرها[10].

وهذا ما نبه عليه الإمام الشاطبي ايضا، فقد بين رحمه الله أن الحرج منفي عن هذا الدين جملة وتفصيلا، وأن الذين يشددون على أنفسهم بالاقتصار على الخشن في المأكل والملبس من غير ضرورة إلا لمجرد التشديد لابد أن يفضي بهم الأر إلى الابتداع، لأن الشرع لم يقصد إلى تعذيب النفس في التكاليف، وهو أيضا مخالف لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:" إن لنفسك عليك حقا"[11]، فمن أراد التشديد على النفس وحرمانها من جميع حظوظها المباحة فقد ابتدع خلاف ما قصده الشارع الحكيم من الرفق والتيسير[12].

ومن العجب أن بعض الصوفية يقف من موضوع خط النفس موقف الغلو والتشدد من جميع الوجوه حتى لو كان خط النفس متعلقا بالأجر والثواب الأخروي، بدعوى أن الراجي يتعلق قلبه بالثواب وهذا ينافي استسلامه وانقياده وانطراحه بين يدي ربه مستسلما لما يحكم به فيه، فرجاؤه معارض لحمكه وإرادته[13].

وقد حمل الإمام ابن القيم رحمه الله على هذه الدعوى بشدة، وأنكر على الإمام الهروي القول بها، وناقشه في صفحات كثيرة من كتاب "المدارج" مبينا أن هذا ونحوه من الشطحات التي ينبغي التحذير منها، وأنها أوجبت فتنة طائفين من الناس: طائفة أهدرت كل المحاسن وأساءت الظن مطلقا، وهذا إسراف، وطائفة حجبت بما رأوه من حسن معاملاتهم عن رؤية عيوب شطحاتهم، فسحبوا عليها ذيل المحاسن وأجروا عليه حكم القبول والانتصار لها.

وقد ظن القائلون بهذا القول إن الرجاء يتعلق بخط النفس، وأن المحب الصادق من فني بمراد محبوبه ولو كان فيه تعذيبه، حتى ادعى بعضهم أن التعذيب بالهجران أحب إليه من طيب الوصال، لكون الوصال فيه ما تشتهيه النفس، وأما التعذيب فليس للنفس فيه مقصود!

وقد بين الإمام ابن القيم رحمه الله أن استسلام العبد لربه لا ينافي الرجاء، فقوة الرجاء أوجبت له هذا الاستسلام والانقياد، فالخوف مستلزم للرجاء، والرجاء مستلزم للخزف، فكل راج خائف من فوات مرجوه، والخوف بلا رجاء ييأس وقنوط[14].

وقد أثنى الله على عباده الصالحين، فقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57]، وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218].

فالرجاء ضروري للعبد، ولو فارقه لحظة لتلف، ولو كان فيه عارضة لتصرف المالك في ملكه، لكانت هذه المعارضة وإرادة ايضا في دعاء العبد ربه وسؤاله أن يوفقه ويسدده وينجيه من النار، والرب سبحانه ليس له ثأر عند عبده فيدركه بعقوبته، فهو سبحانه غني عن العالمين، ورحمته أوسع من عقوبته[15].

وهكذا نجد أن الغلو عند كثير من المتصوفة بلغ حدا خالفوا به مقتضى الفطرة التي فطر الله الناس عليها، لأنهم توجهوا إلى هداء النفس كلية وتدمير جميع رغباتها المحمودة والمذمومة على السواء.


الهوامش

[1] إيقاظ الهمم في شرح الحكم، لابن عجيبة الحسني ص(410-411).

[2] المرجع نفسه ص(416).

[3] الأنوار القدسية 1/(134-135).

[4] الإسلام والطاقات المعطلة للشيخ محمد الغزالي ص(40-57).

[5] ينظر إحياء علوم الدين (40-406).

[6] ينظر: مختصر منهاج القاصدين، للإمام ابن قدامة المقدسي، ص375.

[7] ينظر: تلبيس إبليس ص(175-220)، وصيد الخاطر ص(34-40).

[8] تلبيس إبليس ص(217).

[9] تلبيس إبليس ص(217).

[10] ينظر: صيد الخاطر ص(84-127).

[11] جزء من حديث رواه البخاري ومسلم في قصة عبد الله بن عمرو رضي الله عنه

[12] ينظر: الاعتصام للشاطبي (1/340-344).

[13] ينظر: مدارج السالكين(2/37).

[14] المرجع نفسه (2/51).

[15] انظر تفصيل هذه المناقشة في مدارج السالكين (2/37-59).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
التزكية وإرهاق النفس.doc doc
التزكية وإرهاق النفس.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى