الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، ثم أما بعد؛ هل تزكية النفس تقتضي العزلة عن الناس والانقطاع عن مجالستهم لئلا ينشغل المرء بهم أو يتأثر بسلوكهم؟
وهل دعا الإسلام إلى هذه العزلة في جميع الأحوال وحض عليها ابتغاء السلامة والنجاة من الدنيا وأهلها؟
هذا ما سنعرض له في هذا الفصل إن شاء الله لبيان العزلة المحمودة وفوائدها والعزلة المذمومة وأخطارها، وتصحيح الانحرافات التي ظنها بعض الناس جزءا أساسيا من المنهج الإسلامي في التزكية، مستندا إلى فهمه المخطئ لما رود من نصوص وأدلة في هذا المجال.
وتجد الإشارة هنا إلى ما سبق الحديث عنه في الموضوعات السابقة والتي عرضنها فيها لأهمية الصحبة الصالحة ومجالسة الصالحين وأثرها في تزكية النفس، وخطر البيئة السيئة وضرورة البعد عنها والحذر منها لأنها من أكبر المعوقات في طريق التزكية.
فهناك إذن نوعان من العزلة: عزلة محمودة للبعد عن الأشرار، وعزلة مذمومة يفوت الإنسان بسببه صحبة الأخيار.
وقد سئل الإمام ابن تيمية رحمه الله: هل الأفضل للسائل العزلة أو الخلطة؟ فأجاب:" حقيقة الأمر أن الخلطة تارة تكون واجبة أو مستحبة، والشخص الواحد قد يكون مأمورا بالمخالطة تارة، وبالانفراد تارة، وجماع ذلك أن المخالطة إن كان فيها تعاون على البر والتقوى فيه مأمور بها، وإن كان فيها تعاون على الإثم والعدوان فهي منهي عنها"[1].
ثم قال رحمه الله:" ولابد للعبد من أوقات ينفرد بها بنفسه في دعائه وذكره وصلاته وتفكره ومحاسبة نفسه وإصلاح قلبه، وما يختص به من الأمور التي لا يشركه فيها غيره، فهذه يحتاج فيها إلى انفراده بنفسه، فاختيار المخالطة مطلقا خطأ، واختيار الانفراد مطلقا خط، وأما مقدار ما يحتاج إليه كل إنسان من هذا وهذا وما هو الأصلح له في كل حال فهذا يحتاج إلى نظر خاص"[2].
ثم بين أن الأفضل والأصلح يتنوع تارة بحسب أجناس العبادات، وتارة يختلف باختلاف الأوقات والأمكنة، أو باختلاف حال قدرة العبد وعجزه، وهذا باب واسغ يغلو فيه كثير من الناس ويتبعون أهواءهم[3].
فالاعتزال المحمود أن يعتزل المرء الأمور المحرمة ومجالسة الأشرار، ويعتزل كل ما يشغله عن طاعة ربه، ولكن هذه العزلة تحولت عند بعض الناس إلى عزلة مطلقة وخلوات بدعية والانقطاع في زوايا المساجد أو الكهوف بدعوى أن الخلق كلهم أشرار وأن الفتن قد طغت في هذا الزمان وأن الانقطاع عن الخلق يفتح باب الأنس بالخالق سبحانه.
بعض النصوص المؤكدة على هذا الغلو:
يقول ابن عطاء الله السكندري:" لو انقطعت عن الخلق لفتح لك باب الأنس به تعالى، لأن الأولياء قهروا أنفسهم بالخلوة والعزلة، فسمعوا من الله وأنسوا به"[4].
ويقول أيضا:" قل ما تجلس مجلسا إلا وتعصي الله فيه، فكثير من السلف آثروا الجلوس في بيوتهم وتركوا صلاة الجماعة، فإن طالتك نفسك بالخروج فاشغلها بالقعود في الدار بشيء من الطاعة"[5].
ويؤكد على ضرورة العزلة والخلوة وأنها الطريق للكشف، فيقول:" عليك بالخلوة والعزلة، فمن كان العزلة دأبه كان العز له فمن صدقت عزلته ظفر بمواهب الحق له بالمنن، وعلامتها كشف الغطاء وإحياء القلب وتحقيق المحبة"[6]
وأما الشعراني فقد أورد أقوالا كثيرة نسبها إلى عدد من الصحابة والتابعين وبعض علماء السلف في الحث على العزلة المطلقة والدعوة إليها، ومن هذه الأقوال[7]:
ما نسبه إلى حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه قال:" وددت أن أغلق باب داري فلا أخرج لأحد حتى أموت".
وما نسبه لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال:" خير جلوس الرجل في قعر بيته لا يرى ولا يرى".
وقول سفيان الثوري:" هذا زمان السكوت ولزوم البيت والقنع بالقوت إلى أن تموت".
ولا شك أن هذه لأقوال تخالف ما كان عليه هؤلاء من القيام بالعلم والتعليم والدعوة، وأنها حتى لو صحت عنهم لا يمكن أن تكون دعوة للعزلة المطلقة عن جميع الناس وإنما هي دعوة لاعتزال أهل الشر والفساد وعدم الخوض فيما حصل من الفتن في ذلك العهد.
ولكن الشعراني علق على هذه الأقوال قائلا:" فاعلم ذلك يا أخي واعتزل جهدك، فقد سمعت مقالاتهم في المائة الثانية، فكيف بك وأن في المائة العاشرة، وإياك أن يلعب بك ابليس ويقول لك أنت بحمد الله قد وصلت إلى حد لا يشغلك شيء عن ربك، فإن ذلك من دسائس ابليس، فإنك يا أخي بيقين دون هؤلاء السلف في المقام"[8].
وهذه العزلة التي ينادون بها ليست عزلة معنوية بأن يبعد الانسان قلبه عن الانشغال بالنسا والالتفات إليهم، وإنما هي عزلة جسدية أيضا بالقلب والقالب[9]، بحيث يتجنب المرء مجالسة الناس واللقاء بهم ويلزم قعر بيته حتى يموت، وقد يصل الأمر به إلى ترك صلاة الجماعة في المسجد لما قد يعرض له في طريقه.
وقد صرح ابن عطاء الله السكندري بذلك فقال:
"كان بعضهم لا يخرج لصلاة الجماعة لما يعرض له في طريقه"[10].
وقبل أن نناقش هذه الأقوال نعرج على انحراف آخر انتشرت دعواه في أوساط كثير من الناس، ومن الصوفية وغيرهم، وهو أنه لا بد لمن يسير في طريق التزكية أن ينشغل بنفسه ويعتزل الآخرين بقد الإمكان، فلا يلتفت إلى الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإرشاد الناس وتعليمهم أمور دينهم ولا يشغل نفسه بجهاد الأعداء لأن منزله جهاد النفس أعظم وفرضيتها آكد.
وقد احتج دعاة العزلة بأدلة ونصوص عديدة لابد من مناقشتها وإبطال شبهتها.
مناقشة دعوى العزلة المطلقة.
1-المستند الساسي لدعاة العزلة المطلقة ما ورد من آيا كريمة وأحاديث نبوية تحث على الانشغال بالنفس والعزلة عن الأشرار، وهي أدلة لا تعد حجة لهم بل حجة عليهم، ومن هذه الأدلة:
أولا: استدلالهم بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [المائدة: 105].
ويفعم البعض من هذه الآية الكريمة أن على المسلم أن يصلح نفسه فقط وليس مسؤولا عن إصلاح غيره أو دعوة الآخرين إلى دين الله تعالى.
ولا شك أن هذا الفهم خطأ كبير ويناقض ما تظاهرت عليه الأدلة من الكتاب والسنة لبيان أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتحذير من التقاعس عنه أو التفريط فيه.
وقد نبه الخليفة الراشد أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى معنى هذه الآية فقال في خطبته :" أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [المائدة: 105]، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أو شك أن يعمهم الله بعقاب منه"[11].
فالآية الكريمة لا تدعو إلى العزلة والتخلي عن واجب الدعوة-كما يتوهم البعض- وإنما تدعو إلى سلوك طريق الهداية، وأن العبد إذا عمل بطاعة الله والتزم بأمره لم يضره من ضل بعده، فا يضره كفر الكافرين ولا إعراض الغافلين.
وقد ذكر ابن جرير الطبري رحمه الله أقوالا في معنى هذه الآية فقال:" قال بعضهم معناه: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن النكر فل يقبل منكم ذلك...وقال بعضهم: إن العبد إذا عمل بطاعة الله لم يضره من ضل بعده وهلك...، وقال آخرون: لا يضركم من حاد عن قصد السبيل وكفر بالله من أهل الكتاب".
ثم بين رحمه الله أن قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه هو العمدة في تفسير هذه الآية، أي: إذا التزمتم بطاعة الله فإنه لا يضركم ضلال من ضل ما دمتم قد أديتم ما ألزمكم الله به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر[12].
كما حذر الإمام أبو السعود من الفهم الخاطئ في تفسير هذه الآية فقال:" ولا يتوهمن أن فيه رخصة في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع استطاعتهما، كيف لا ومن جملة الاهتداء أن ينكر حسبما تفي به الطاقة؟[13]".
فالآية تدعو إلى الإقبال على تزكية النفس وإصلاحها لتستقيم على الطاعة، كما تدعو إلى الإقبال على الآخرين ونصحهم وتذكيرهم بالله تعالى لأن المجتمع المسلم جسد واحد فهو كالنفس الواحدة ولذل قال عبد الله بن المبارك رحمه الله:" هذه أوكد آية في وجوب الآمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه قال:" عليكم أنفسكم" يعني أهل دينكم، فقوله {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} يعني بأن يعظ بعضكم بعضا ويرغب بعضكم بعضا في الخيرات وينفره عن القبائح والسيئات"[14].
ثانيا: ومما استدل به دعاة العزلة المطلقة على دعواهم ما ورد من أحاديث نبوية في الدعوة إلى اعتزال الفتن أو الاعتزال للراحة من خلطاء السوء.
ومن الأحاديث ما رواه البخاري عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:" يأتي على الناس زمان خير مال الرجل المسلم الغنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن"[15].
وعنه أيضا رضي الله عنه قال:" جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أي الناس خير؟ قال: رجل جاهد بنفسه وماله، ورجل في شعب من الشعاب يعبد الله ويدع الناس من شره"[16].
فالحديث الأول يحث على العزلة كعلاج أخير للنجاة من الفتن عندما تدلهم والبعد عن البيئة السيئة عندما تستحكم شرورها، وأما الحدي الثاني فهو خاص فيمن لا يقدر على الجهاد كما قال الحافظ ابن حجر وهذا معذور لأن الله سبحانه لا يكلف نفسا إلا وسعها، وكذلك غير القادر على جهاد الدعوة لجهله وضعفه، فما دام لا يملك أن يقدم دورا إيجابيا لمجتمعه فأقل ما يطلب منه أن يكف شروره عن الناس ويقبل على طاعة ربه سبحانه، وهذا ما أشارت إليه الجملة الأخيرة من الحديث النبوي:" ويدع الناس من شره".
ولقد أورد الإمام أبو سليمان الخطابي البستي في كتابه "العزلة" جملة من الأحاديث النبوية والآثار الواردة في هذا المجال، ولكنه قال مبينا معنى العزلة المشروعة:" لسنا نريد بهذه العزلة مفارقة الناس في الجمع والجمعات، وترك حقوقهم في العبادات وإفشاء السلام ورد التحيات، وما جرى مجراها من وظائف الحقوق الواجبة لهم، وصنائع السنن والعادات المستحسنة بينهم، إنما نريد بالعزلة ترك فضول الصحبة ونبذ الزيادة منها، فإن من جرى في صحبة الناس والاستكثار من معرفتهم على ما يدعو إليه شغف النفوس، كان سبيله في ذلك سبيل من يتناول الطعام في غير أوان جوعه ويأخذ منه فوق قدر حاجته، فإن ذلك لا يلبث أن يقع في أمراض مدفنة وأسقام متلفة"[17].
وقد وردت أدلة كثيرة تفند دعاوى العزلة والانقطاع عن الناس تفرغا لعبادة الله سبحانه ومن ذلك:
ما رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :" مر رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بشعب فيه عينة من ماء عذبة، فأعجبته، فقال: لو اعتزلت الناس فأقمت في هذا الشعب، ولن أفعل حتى استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:" لا تفعل، فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاما ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة؟ اغزوا في سبيل الله، من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة"[18].
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله ما يعدل الجهاد في سبيل الله؟ قال:" لا تستطيعونه"، فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثا، كل ذلك يقول: "لا تستطيعونه" ثم قال:" مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صلاة ولا صيام حتى يرجع المجاهد في سبيل الله"[19].
وفي رواية البخاري أن رجلا قال: يا رسول الله دلني على عمل يعدل الجهاد؟
قال: لا أجده، ثم قال:" هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر وتصوم ولا تفطر؟ قال: ومن يستطيع ذلك؟"[20].
فإن القائلون بأن طريق تزكية النفس يقتضي الانقطاع للعبادة والعزلة عن الناس فإن ذلك مردود عليهم بصريح الأحاديث السابقة، وهل يستطيع العبد أن ينقطع للصلاة أياما وأشهرا متتالية لا يفتر لحظة من اللحظات ولا يعتريه نوم أو حاجة؟!
3-ولا شك أن دعاة العزلة المطلقة لم يعرفوا حقيقة المنهج الإسلامي في تزكية النفس، وأن أبرز ميدان من ميادينه جهاد الأعداء وجهاد الدعوة والعلم والتعلم، والي لا تقتصر على الشعائر التعبدية كما يظن بعض الناس، فلو أن السالك في طريق التزكية اعتزل المجتمع وانقطع للذكر والدعاء واشتغل بتلاوة القرآن وأداء النوافل ليل نال، ولكنه ضيع واجباته الأخرى تجاه دعوته وأهله وذويه، فإن هذه التزكية التي يبغي الوصول إليها مختلة وثمراتها ناقصة، كيف لا، وقد تظاهرت الأدلة على أن ساعة واحدة يقضيها المسلم وهو يصول ويجول في سبيل الله ويبذل نفسه ابتغاء مرضات الله أو يجلس ليعلم الناس أمور دينهم ويدعوهم إليه ويأمرهم وينهاهم أفضل بكثير من صلاة الليل والنوافل الأخرى، لأن الجهاد والدعوة والتعليم آثارها متعددة ونفعها لا يقف عند حد.
وقد أفصح لنا الإمام ابن الجوزي رحمه الله عما كان يختلج في نفسه أحيانا من التفكير في العزلة والانقطاع عن الخلق وترك ملسه الذي كان يعظ فيه الناس وتجتمع فيه أعداد كبيرة من التائبين والباكين خشوعا وتأثرا، ولكنه رحمه الله أدرك أن هذه الخواطر التي تحدثه بالعزلة خشية الرياء خواطر شيطانية فقال:" فكأن الشيطان لبعد غوره في الشر رآني أجتذب إلى من أجتذب منه فأراد أن يشغلني عن ذلك بما يزخرفه، ليخلو هو بمن اجتذبتهم من يده[21].
فالجهاد بمفهومه العام يتضمن جهاد العدو الداخلي بمجاهدة النفس، وجهاد العدو الخارجي بالدعوة والقتال، وكل منهما يكمل الآخر ويعضده، فمن ادعى الانشغال بأحدهما عن الآخر فقد أخطأ وفرط.
ومن أراد معرفة المدى الذي وصل إليه في مجاهدة النفس، فالمقياس والميزان ميدان بذل النفس والمال والصبر على دعوة الناس وتعليمهم وإرشادهم.
وقد شنع الإمام ابن القيم رحمه الله على أهل العزلة فقال:" ومن العجيب دعواهم خروجهم عن نفوسهم، وهم أعظم الناس عبادة لنفوسهم، وليس الخارج عن نفسه إلا من جعلها حبسا على مراد الله، وبذلها لله في إقامة دينه، وتنفيذه بين أهل العناد والمعارضة والبغي، فانغمس فيهم يمزقون أديمه ويرمونه بالعظائم ويخيفونه بأنواع المخاوف، مقامه ساعة في جهاد أعداء اله ورباطه ليلة على ثغر الإيمان، آثر عنده وأحب من فناء ومشاهدات وأحوال هي أعظم عيش النفس وأعلى قوتها وأوفر حظها"[22].
أضف إلى ذلك أن العزلة تؤدي إلى آفة خفية من آفات النفس وهي التكبر والعجب فالمعتزل يظن نفسه من الصالحين ويتهم المجتمع من خوله بالفساد، ويخشى الاختلاط بهم لئلا يتأثر بشرورهم، ولا شك أن ذلك من خداع الشيطان ومكائده.
وقد بين الإمام ابن القيم رحمه الله ذلك فقال:" ومن كيد الشيطان وخداعه أنه يأمر الرجل بانقطاعه في مسجد أو رابط أو زاوية أو تربة، ويحبسه هناك وينهاه عن الخروج، ويقول له: متى خرجت تبذلت للناس وسقطت من أعينهم وذهبت هيبتك من قلوبهم، وربما ترى في طريقك منكرا، وللعدو في ذلك مقاصد خفية يريدها منه، منها الكبر واحتقار الناس، فيترك من الواجبات والمستحبات والقربات ما يقربه إلى الله"[23].
فليحذر دعاة العزلة المطلقة من نزول البلاء الذي يعم الصالح والطالح إذا سكت الصالحون ولم ينهوا عن السوء، قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25].
وقال سبحانه: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 165].
ولو أخذ المجتمع الإسلامي بهذه الدعوة للعزلة المطلقة لأضحى مجتمعا ضعيفا فقيرا تتسلط عليه مجتمعات الكفر وتتداعى عليه، وهذا ما يريده أعداء الإسلام.
الهوامش:
[1] مجموع الفتاوى: (10/425).
[2] مجموع الفتاوى (10/426).
[3] المرجع نفسه (10/427-428).
[4] تاج العروس الحاوي لتهذيب النفوس، لابن عطاء الله السكندري ص(29).
[5] المرجع نفسه ص(33).
[6] المرجع نفسه ص(39).
[7] ينظر: تنبيه المغترين للشعراني ص(273-278).
[8] المرجع نفسه ص(278).
[9] ينظر: شرح الحكم العطائية، للشيخ عبد المجيد الشرنوبي ص(26).
[10] تاج العروس ص(38).
[11] رواه أبو داود-كتاب الملاحم- باب الأمر والنهي(4/122)، رقم(4338)، والترمذي-كتاب الفتن- باب ما جاء في نزول العذاب إذا لم يغير المنكر رقم(2169)،وفي كتاب التفسير من تفسير سورة المائدة رقم(3058)، وقال حديث حسن صحيح.
[12] جامع البيان للإمام ابن جرير الطبري (7/94-100).
[13] تفسير أبي السعود، (3/88).
[14] التفسير الكبير للفخر الرازي (12/199).
[15] رواه البخاري كتاب الرقاق باب العزلة راحة من خلطاء السوء (7/188).
[16] رواه البخاري كتاب الجهاد (3/201).
[17] العزلة، للبستي (11-12).
[18] رواه الترمذي-كتاب فضائل الجهاد، باب(17)، حديث رقم(1650)، وقال حديث حسن.
[19] رواه مسلم-كتاب الإمارة- باب فضل الشهادة في سبيل الله رقم(1878).
[20] رواه البخاري في أول كتاب الجهاد والسير (3/200).
[21] صيد الخاطر، ص(47).
[22] مدارج السالكين (2/47) بتصرف يسير.
[23] إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 1/121.
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.