لَئِن كان سُقوط الخلافةِ الرسميّ عام (1924م) أهمَّ حدث في مسار المسلمين في القرن العشرين، فهل يُمكن اعتبار أحداث الحادي عشر من سبتمبر / أيلول (2001م) أهمَّ حدثٍ في القرن الحادي والعشرين سيوجِّه مسار علاقة المسلمين مع أنفسهم ومع العالم؟
ما يبرِّر هذا التَّساؤل أنَّ السَّنوات التي مضت على الحدَثِ لم تكن كافيةً لبروز وعيٍ إسلاميٍ بأهمية وخطورة مآلات ما حصَل، كما استمرت السِّياسات الإسلامية وكأنَّ شيئًا لم يحدث، ولم يتغيَّر فيها شيءٌ إلا بحجم وجدية الضغوط المفروضة من الخارج.
لقد أمسى التَّوافق العالميُّ ضدَّ هذا الدِّين حقيقةً واقعةً لا تحمل مجالًا للشك؛ سواء كان ذلك بصرف المسلمين عن دينهم جملة أو بإغراقهم في فَوضى عقائدية تشريعيَّة أدَاتُها التشكيك في المقدسات وتفتيت الجبهات المتماسكة - علميةً كانت أو عمليَّة- وذلك كلُّه مصداقًا لآياتٍ تترى من التَّنزيل الحكيم توضِّح كيد الزَائغين يهودًا كانوا أو نصارى وأتباعهم ممن عَمِيتْ بصيرتهم وخَبَى نور الوحي في قلوبهم..
ولا شكَّ أنَّ المُتبَصِّرَ بالواقع المعاصر- الذي يزن قضاياه بميزان الشَّريعة المطهرة- لَيرى ذلك الاستهداف في صُعُدٍ متعددةٍ سواء منها السياسي أو العَسكري أو الاقتصادي أو الفِكري، ومعلومٌ أنَّ مِنْ أخطر هذه الصُعُد هو الصَعيد الفِكري الذي يُتبنَّى فيه طرح الشُبهات والإغراق في الشهوات، وذلك كلُّه مصداقًا لكلام الباري سبحانهُ وتَعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:105]، وقوله: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، وقوله: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89]، وقوله: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109]، وقوله: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217]، وقوله: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا} [الطارق:15]، ويقول أيضًا: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ} [الأنفال:30].
ومن هذا الكَيد تجنيد بعض أهل الأَهواءِ المنتسبين لهذه الأمة –شعروا بذلك أو لم يشعروا- لِنَشْر باطلهم المتوافِق مع باطل أهل الكتاب إيهانًا للدِّيانة الإسلاميّة في عقيدتِها وإضلالًا للمسلمين في عبادتهم، يقول شيخ الإسلام ابن تيميَّة: «ولا ينفق الباطل في الوجود إلا بثوبٍ من الحقِّ، كما أنَّ أهل الكتابِ لَبسوا الحقَّ بالباطل؛ فبسبب الحقِّ اليَسير الذي معهم يُضلِّون خَلْقًا كثيرًا عن الحقِّ الذي يجب الإيمان به، ويدعونه إلى الباطل الكثير الذي هم عليه، وكثيرًا ما يعارضهم من أهل الإسلام من لا يحسن التمييز بين الحقِّ والباطل ولا يُقيم الحجَّة التي تدحض باطلهم ولا يُبيِّن حجة الله التي أقامها برسله؛ فيحصلُ بذلك فتنةً!»([1]).
وقد ظهر من خلال متابعةٍ مستمِرَّةٍ لهذا الكيد أن ثمَّة إرادة طامحة لتمكين الفكر الصوفي في واقع الأمَّة من خلال طرقٍ ومشاربَ عدَّةٍ، تُعدُّ -تلك الطُّرق- أدوات لهدم العقيدة في النفوس، وإفساد للعبادة الحقَّة، وإشاعة للتواكل وترك العمل والكَسْب، وإضعاف لشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وآثار أُخر تراها في تضاعيف هذا الكتاب ...
ودرءًا للفتنة فإنَّا نحاول من خلال هذه الدِّراسَة تَبيين هذه الخطوات المتسارعة للتمكين في واقع الأمة المسلمة نصحًا للمسلمين وتبيانًا لسبيل المجرمين.
مقدمة:
عن أبي أُمامَة البَاهلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتُنقَضنَّ عُرى الإسلام عُروةً عُروة، فكُلَّما انتقضت عُروة تشبَّث النَّاسُ بالتي تليها»([2]).
إنَّ حزب النقض كان ولا يزال يكيد لهذه الأمة، ويمكر بها، ويصدّها عن دينها، وإن المتتبع للمكر العالمي ليرى تبرُمًا من ظهور نَهج أهل السُّنة والجمَاعة في الفهم والسَّلوك، فأَجلَبوا عليه بخيلهم ورَجِلِهم.
وقد ظهر جليًّا أنَّ مِنْ أهمِّ أهدافِ المخطَّط الأمريكي الموسُوم بمشروع «الشَّرق الأوسَط الكَبير» هو محاربة التيَّارات الإسلاميَّة التي تَتَصدَّى للعُدوانِ الأمريكي، وذلك تحت شعار: (محاربة الإرهاب)!! ويرى المروجون لهذا المشروع أنَّ القوة المادية: عسكريَّة كانت أم اقتصادية لا تكفي لهدم فكرة وبناء أخرى.
يقول بوول وولفيتز: (إنَّ معركتنا هي معركة الأفكار ومعركة العقُول، ولكي ننتصر على الإرهاب لا بد من الانتصار في ساحة الحرب على الأفكار)([3]).
فلا بد - إذن - من تيَّارٍ إسلاميٍّ مُعارضٍ لتلك التيّارات مُنسجمٍ مع الرُؤية الأمريكية لمنطقة الشَّرق الأوَسط.
وقد عبَّرت عن هذا التوجُّه مجموعة من المقالات صدرت في مجلة النيوز ويك حول بناء اتّجاهات داخل الإسلام تراه كنظام للصَفاء الداخلي وليَس نظامًا للكَون والتشريع العام، وقد اتّفقت على هذه الرُّؤية بعض النُّظم الحاكمة العربيَّة والإسلاميَّة والغَربية، وقد وجدوا بُغيتهم المنشودة في الجماعات الصُّوفية المنتشرَة في أرجَاء العَالم، فَبدءوا في تنفيذ مخطَّطاتهم عبر هذه الجماعات، والتي أبدَت في بعض الأحيان ترحيبًا كبيرًا -إن لم يكن تامًا- في هذا الشَّأن.
يقول الفرنسي المسلم «إريك جيوفروي» المختص في الصوفية بجامعة لوكسمبورج- شمال فرنسا- في حوار صحفي: (وفي علاقتها بالحركات الإسلاميَّة بالذَّات نجد أن الأنظمة العربية عَمِلت على إدماج الصوفية في الحكم بهدف محاربَة الظَّاهرة الإسلاميَّة، فوزير الأوقَاف المغربي أحمد التوفيق صوفي، كما أن الشيخ أحمد الطيب في مصر -وهو خلوتي- أصبح رئيس جامعة الأَزهر بعدَ أن كان مفتيًا للديار المصرية، وفي الجزائر نجد أن بوتَفليقَة قريبٌ جدًّا من الصوفية، وهو ما بَرَزَ في حملته الأخيرة)([4]).
ويؤكد «دانيال بايبس» أنَّ الغَرب يسعى إلى مُصَالحة (التصوف الإسلامي) ودعمه لكي يستطيع مِلء السَّاحة الدينيَّة والسَّياسية وفق ضوابط فَصل الدِّين عن الحياة، وإقصائه نهائيًّا عن قَضايا السِّياسة والاقتصاد، وبالطريقة نفسها التي استخدمت في تهميش المسيحيّة في أوروبا والولايات المتحدة([5]).
أمَّا ستيفن شوارتز([6]) فيقول: (ليست التعدُّدية الإسلاميّة فكرة جديدة نَشأت في الغرب وتُقدَّم كشفاء ناجع للغَضَب الإسلامي، بل إنِّها حقيقة قديمة ينطوي العالم الإسلامي على طَيفٍ واسعٍ من التفسيرات الدينيَّة، فإذا وجدنا في أحد أطراف الطَيف المذهب الوَهَّابي([7]) المُتعصِّب الذي يتَّصف بالقَسوة والاستبداد ما يجعله أشبه بالإيديولوجية العربيَّة الرسميَّة السائِدة منه بالمذهب الديني، فإننا نجد في الطرف الآخر التعاليم المتنورة للصوفية، لا تؤكد هذه التعاليم على الحوار داخل الإسلام وعلى الفصل بين السُّلطة الرُّوحيَّة وسُّلطة رجَال الدِّين وعلى التَّعليم باللُّغة المحليَّة فحسْب، بل إنّها تحترم أيضًا جميع المؤمنين، سَواءً كانوا مُسلمين أو مَسيحيين أو يَهود أو هُندوسيين أو بُوذيين أو من ديانات أُخرى، تُشدِّد الصُّوفية علاوةً على ذلك على التزامها باللُّطف والتَّفاعُل والتَّعاون المُتبادَل بين المؤمنين بغضِّ النَّظر عن مذاهِبهم...
إنَّ تأريخ الصُّوفية مَليءٌ بأمثلة عن التَّلاحُم بين العقائد على عكس النَزْعَة الانفصالية المتشدِّدة التي تُميز الأُصولية الإسلامِيَّة، يُشارك الصُّوفيون البلقان والأتراك المسيحيِّين في الأماكن المقدَّسة، وما زال الصُّوفيون في آسيا الوسطى يحتفظون بالتَّقاليد الموروثة عن الشامان والبوذيين، كما تكيّف الصُّوفيون في أفريقيا الغربية الناطِقَة بالفرنسيَّة مع العادات المحليَّة، وكذلك الأمر بالنسبة للصوفيين في تُركستان الشـرقية الذين اقتبسوا من التَّعاليم الصينيَّة مثل الكونفوشيَّة والطاويَّة إضافة إلى تعلُّمهم فنون القِتال دفاعًا عن النفس.
لقد قبل الصُّوفيون في البلقان وتركيا ووسط آسيَا العلمانيَّة كمتراس ضد التعصُب الديني واحتكار رجال الدين للأفكار الدينية..).
وقال أيضًا: (يمكن أن نرى نموذجًا آخر حيث الصوفية هي الشَّكل المُهيمِن من الإسلام وذلك في بلاد تمتد من أفريقيا الغربية الناطقة بالفرنسيَّة والمغرب إلى البلقان وتركيا وآسيَا الوُسطى ومن الهِند إلى إندونيسيا، أثَّرت الصُّوفية هنا تأثيرًا عميقًا على الثقافات المحليَّة مما سهَّل وجود المواقف العلمانية إضافة إلى التَّعايش السِّلمي مع غير المسلمين، ليس بمحض الصدفة أن المملكة المغربيَّة وتركيَّا وإندونيسيا التي ينتشـر فيها جميعًا الإسلام الصوفي هي الدول التي يُعتبر أنها تحمل أفضل الإمكانيات لنشوء الديمقراطيات الإسلامية...).
ثم يقول: (إذا أخذنا هذه الصورة المتنوعة بعين الاعتبار، فكيف يجب على الصوفية أن تدخل في الاستراتيجية الأمريكية للتعامل مع العالم الإسلامي؟
من الواضح جدًّا أن على الأمريكيين أن يتعلَّموا المزيد عن الصُّوفية وأن يتعاملوا مع شُيوخها ومريديها، وأن يتعرَّفوا على ميولها الأساسية... يجب على أعضاء السِّلك الدبلوماسي الأمريكي في المدن الإسلاميَّة من بريشتينا في كوسوفو إلى كشغار في غرب الصِّين، ومن فاس في المغرب إلى عاصمة إندونيسيا جاكرتا أن يضعوا الصُّوفيين المحليين على قائمة زياراتهم الدورية. يجب أن ينتهز الطُّلاب الأمريكيون ورجال الأعمال وعمَّال الإغاثة والسَّائحون فرص التعرف على الصُّوفيين، الأهم من ذلك أنَّ أي شخص داخل أو خارج الحكومة يشغل موقعًا يسمح له بالتَّأثير على مناقشة ورسم سياسة الولايات المتحدة الأمريكية تجاه الشـرق الأوسط يمكنه أن يستفيد من فهم هذا التقليد الفطري من التَّسامح الإسلامي)([8]).
وتقول الكاتبة فارينا علم -وهي تمثل شريحة من الصُّوفية الموجودة في الغرب-: (إنَّ الروحانيَّة الإسلامية - الصُّوفية- تعتبر الجزء المكمل لحياة المسلم الدينية، وقد قدم أولياء وشُيوخ الصُّوفية نظرة منهجية لمعرفة الله تستند على تلاوة الابتهالات، والتدرب على تطوير شخصيَّة ورِعَة قويمة، بغية إذلال الأَنَا وتكريس النفس لخدمة المجتمع، ومن الممكن أن تصبح الصُّوفية اليوم - بتركيزها على القيم الإسلامية المشتركة ووضع الأهداف السامية نصب عينيها - بمثابة قوة كبيرة مضادة للإسلام السِّياسي المُجاهد).
وتستطرد قائلة: (وقد حذرت التعاليم الإسلامية الكلاسيكية علماء الدين من التقربُّ الكبير من السلطة السياسية)([9]).
يقول دانيال بايبس: (إنَّ هناك أخبارًا سارة: إنَّ فكرة أنَّ الإسلام المتطرف والعنفي هو المشكلة، وأن الإسلام المعتدل هو الحل تلقى رواجًا واسعًا مع الوقت... كذلك فإنَّ أشخاصًا بارزين مثل أحمد صُبحي منصور ومحمد هشام قباني يرفعون أصواتهم...)([10]).
يقول المستشرق الأمريكي «مايكل ساليس» أستاذ الأديان بجامعة هارفارد الأمريكية: (إنَّ علينا أن نُبطل الفكرة التي تقول: إنَّ الإسلام وجهًا واحدًا، وإن هذا الوجه هو الإرهاب والعُنف وكُره الغربيين.
وإذا ذكرت للرأي العام الغربي أنَّ هنالك في الإسلام أناسًا يؤمنون بالحبِّ والتسامح والتعايُش، وإنَّ فيه الكثير من الرموز التاريخية في هذا المستوى أمثال ابن عربي، والشُّعراء مثل حافظ الشيرازي، وجلال الدِّين الرُّومي وغيرهم كثير في السَّابق واللَّاحق، لكنّ الغربيين في عمومهم لن يصدقوا)([11]).
الهوامش
([2]) أحمد (4/232) (18068)، (5/251) (22214) المستدرك (4/104) (7022)، الطبراني في الكبير (7/103) (7359)، ابن حبان (27/471) (6839)، مجمع الزوائد (7/222).
([4]) حاوره: هادي يحمد، إسلام أون لاين تاريخ (20/06/2004م). وانظر أيضًا: صحيفة الراية القطرية الأحد (30/1/2005 م).
([5]) صحيفة (الزمان) - عدد (1633)، تاريخ (12/10/2003م)، وهو رئيس منتدى الشرق الأوسط بالولايات المتحدة.
([9]) بقلم فارينا علم، المقال على موقع(opendemocracy) وهو بعنوان المبادئ الخمسة لمستقبل الإسلام في (27/4/2005م) وهي صحفية بريطانية من أصل بنغلاديشي مقيمة في لندن وترأس تحرير مجلة (q-news).
([10]) نيويورك صن.. (23/11/2004م) للكاتب النصراني المتعصب دانيال بايبس وهو رئيس مؤسسة «منبر الشرق الأوسط للأبحاث»، ومقره ولاية فلادلفيا، وله كتابات عدة في التهجم على الإسلام والمسلمين، وقد قام مؤخرًا بإنشاء «مركز التعددية الإسلامية»، أعلن أن الهدف منه هو «تشجيع الإسلام المعتدل في الولايات المتحدة والعالم»، ومحاربة نفوذ الإسلام المسلح، وإحباط جهود المنظمات ذات التوجه «الوهابي» المتطرف-على حد قوله- من خلال وسائل الإعلام، وبالتعاون مع المنظمات الحكومية الأمريكية. أما عن مسئولي المركز وعن مصادر تمويله، فمديره أمريكي مسلم اسمه ستيفن شوارتز، كان شيوعيًا متطرفًا (تروتسكيا)، ثم دخل في الإسلام من باب التصوف، وأصبحت معركته في الحياة هي مواصلة الحرب ضد ما يسميه الوهابية، أما مساعده فهو أزهري مصري اسمه الدكتور أحمد صبحي منصور، كان قد فصل من الأزهر في الثمانينيات بسبب إنكاره للسنة النبوية، ومن أبرز الداعمين للمشروع نائب وزير الدفاع الأمريكي -سابقًا- بوول وولفيتز (مهندس الحرب على العراق، وأحد أبرز اليهود الناشطين بين المحافظين الجدد ورئيس البنك الدولي مؤخرًا) وجيمس وولسي مدير المخابرات المركزية السابق. وكالة "انترناشيونال برس سيرفيس في (7/4/2004م).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.