الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد؛ فالاستخارة؛ معناها:طلب الخِيرة؛ أي: دعاء الله تعالى أن يختار أحد الأمرين.
لقد كان الناس في الجاهلية إذا أراد أحدهم الإقدام على أمرٍ هام والشروع فيه كالزواج أو السفر أو البيع أو الشراء وهو بالطبع لا يعرف عاقبة هذا الأمر فجرتْ عادتهم الاستقسام بالأزلام أي معرفة ما قُسم لهم عند سادن الأصنام أو الذهاب إلى الكُهَّان والعرّافين ممّن يدّعون علم الغيب وهم-بلا شك-كاذبون وهؤلاء الكُهان تأتيهم الجن فتوسوس لهم فيتكلمون بما تلقي عليهم الجن الذين يكذبون بدورهم لأنه لا أحد يعلم الغيب إلاّ الله.
وربما زجروا طائراً فإن أخذ ذات اليمين تفاءلوا وإن طار شمالاً تشاءموا. فلمّا جاء الإسلام استبدل بهذه الخزعبلات استخارة الله تعالى وتفويض الأمر إليه سبحانه للتوفيق إلى الخير فقد روى البخاري في صحيحه (7ـ162) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن, يقول: "إذا همّ أحدكم بالأمر فلْيركع ركْعتين من غير الفريضة ثم ليقلْ اللهم إني أستخيرك بعلْمِك, وأستقْدرك بقدْرتِك, وأسألك منْ فَضْلِك العظيم, فإنك تَقْدِرُ ولا أقْدِرُ, وتعلمُ ولا أعْلَمُ, وأنت علاّمُ الغيوب, اللهمّ إنْ كنتَ تعلمُ أنّ هذا الأمر-ويُسمِّي حاجته- خيرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبةِ أمري وعاجلِه وآجلِه فاقدرْه لي ويسِرْه لي,ثم باركْ لي فيه,وإن ْكنْتَ تعلم أنَ هذا الأمرَ شرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبةِ أمْري وعاجلهِ وآجلهِ فاصْرِِفْه عني واصْرِفْني عنه، واقْدُرْ ليَ الخيرَ حيث كان ثمّ أرضني به".
فعلَّمهم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء فكان كل واحد منهم يستخير لنفسه ولم يكن صلوات الله عليه يستخير لهم لأنّ هذا الدعاء كالدواء يشربه محتاجه فصار هذا هو المشروع في حقِّ كل مسلم. أما ما يفعله بعض الناس الآن من الذهاب إلى الشيخ للاستخارة فيما يسمونه التبييت خاصة في الخِطبات فهذا من جنس الذهاب إلى الكهان لا سيما إذا أخذ الشيخ اسم الخاطب واسم أمه واسم المخطوبة وأمها فمثل هذا يتعامل مع الجن غالباً ثم هل ينـزل عليه الوحي ليحدد مستقبل هذا الفتى أو الفتاة؟ وما يدريه أنّ الهاجس الذي يعتريه أو المنام الذي يراه من تلبيسات الشيطان الذي لا يحب الخير لأحد فربمّا تشبّه بصورة رجل صالح وأخبر هذا الشيخ بأن الاستخارة سيئة وأنّ هذا الزواج غير مبارك لا سيما أن الشيطان يتشبّه بصور كل الناس في المنام إلا النبي صلىالله عليه وسلم. وقد أَكّد العلماء أنّ من علامات الساحر طلب اسم أم المريض أو المستخير (انظر مثلا ًالصارم البتار في التصدي للسحرة الأشرار) فهؤلاء الشيوخ الذين يقررون أنّ هذا الزواج أو غيره مناسب أو غير مناسب إنما يزعمون معرفة الغيب وقد تقرّر في دين الإسلام أنه لا أحد يعلم الغيب إلا الله قال تعالى:( قل لا يعلم مَنْ في السمواتِ والأرض ِ الغيبَ إلا الله) وقال سبحانه: (عالم الغيب فلا يُظْهِرُ على غَيْبِه أحداً إلا من ارتضى من رسول) الآية. وقد انقطع الوحي بموت النبي صلى الله عليه وسلم, ولم يبقَ إلا الوحي الشيطاني قال تعالى: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم).
وقال سبحانه: (شياطينَ الإنسِ والجنِ يوحِي بعضُهم إلى بعض زخرفَ القول غروراً). فالذي يدّعي معرفة الغيب-كهذا الشيخ المستخار- إنما هو كاذب ولا يحل الذهاب إليه وفي الحديث الصحيح:(من أتى كاهناً أو عرّافاً فصدَّقه بما يقول فقد كفر بما أ ُنزل على محمّد) وفي الحديث الآخر: (ليس منا من تَكَهَّنَ أو تُكُهِّنَ له) ومما يدلك على أنّ هذه الاستخارة نوع من التكهن أن الإنسان ينظر فيما يريده ويلائمه من زواج ونحوه في الأمور الظاهرة له وتبقى الأمور الغيبية المخفيّة في مستقبل الأيام التي لا يمكن معرفتها فيلجأ المسلم إلى الله –بالاستخارة المشروعة-ليكفيه شر ما خفي عنه ويوجهه للخير فعزوف الجهلة عما شرعه الله وعدم اكتفائهم به وذهابهم إلى الشيخ-والحال ما وصفنا-إنما هو لمعرفة ما خفي عنهم من أمور الغيب فلا يشك عاقل أن ما يقوم به فضيلة الشيخ عين ما يقوم به الكاهن.وفي كل الأحوال فإن الاستخارة للآخرين ليست مشروعة ولو كانت جائزة أو مستحبَّة لفعلها النبّي صلَّى الله عليه وسلَّم والثّابت- مرَّة أخرى– أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يستخير لأصحابه بل كان يعلّمهم دعاء الاستخارة ليستخير كل واحد لنفسه(كان يعلّمنا الاستخارة), لأنّ الله سبحانه يحبّ من عبده أن يتوجّه بقلبه وقالبه إليه ويوكل الأمر إليه تعالى ويُحسِّن به الظن ويفوِّض إليه معرفة الخير. ودعاء الاستخارة يتضمَّن صلاة ركعتين قبله وهو مما يحبّه الله ثم الدعاء وفيه التوسل بأسماء الله وصفاته من العلم والقدرة ومعرفة الغيب ثم سؤاله من فضله العظيم, والتوكّل عليه فأحرى أن يستجيب لعبده ويوفّقه للخير. فالذين يستخيرون لغيرهم فضلاً عن أنّ عملهم بدعة ومن جنس عمل الكهّان فإنهم يَحْرِمون المسلم من هذه الخيرات(صلاة الركعتين ودعاء الله سبحانه الذي هو مخ العبادة والتوكل عليه والتفويض إليه) هذه الخيرات التي لمثلها خُلق الإنسان أصلا ً(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون).
ثم هذا الشيخ الذي يقبل أن يستخير لغيره فضلا ًعن المخالفات الشرعيّة التي يرتكبها إنّما يُزكّي نفسه بذلك بل ربّما أوهم مستخيرَه أنه مُحَدَّث ومُلْهم وهكذا يصبح المستخير المسكين تحت رحمة ووجدان الشيخ بل تحت وجدان الشيطان الذي سيوسوس للشيخ في المنام أو اليقظة ويلقي عليه الاختيار. وكمْ حَرَم هؤلاء الجهلة فتاة من زواج يسترها بحجة أنََََّ نتيجة الاستخارة بشعة أو غير مشجعة ونحو ذلك من خزعبلاتهم!! ألا فلْيتق الله هؤلاء المشايخ ولْيربطوا الناس بخالقهم ويوجِّهوهم إليه سبحانه كما هي مهمة الأنبياء والمصلحين:(اعبدوا الله ما لكم من إلهٍ غيره).
وعلى المسلم مذنباً أو غير مذنب صالحاً أو طالحاً أن يُحَسِّن ظنّه بربِّه ويثق به ويدعوه ويلجأ إليه في كل أمر فإنه سبحانه أرأف بعبده من الأم بولدها قال تعالى:(أَمَّنْ يُجيب المضطرَّ إذا دعاه ويكشفُ السُّوءَ ويجعلُكم خلفاء الأرض أإله مع الله)!!؟ وقال سبحانه: (وإذا سألك عبادي عنِّي فإنِّي قريب أُجيب دعوة الداعِ إذا دعان) وقال عزَّ مِن قائل: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم) وفي الحديث الصحيح:( مَنْ لم يسأل الله يغضب عليه) فالإنسان الذي يذهب إلى شيخه ليستخير له بحجّة أنّه مذنب وأنّ شيخه بزعمه أقرب منه إلى الله إنّما يُسيءُ الظنَّ بربه فكأنّ الله عند هذا الإنسان لا يستجيب إلا ّللكاملين ولا يدعوه سبحانه إلا المحسنون!! وما أحسن ما قال الشاعر:
إن كان لا يرجوك إلا محسن ٌ فبمن يلوذ ويستجيرُ المجرمُ
إنّ ميزة دين الإسلام -أيها القارىء الفطن- أنّ كل مسلم يستطيع متى شاء أن يتوجّه إلى ربّه دون واسطة ويتوب إليه سبحانه ويسأله حاجته ومطلوبه في الدنيا والآخرة, فالإسلام لا يقبل التوسط بين الله وعباده في قبول التوبة. أمّا الأديان الأخرى الباطلة فالكاهن أو القس أو السّادن هو وحده -بزعمهم- الذي يتصل بالرب وما على بقية الرعية إلا أن يرفعوا مطلوبهم إلى القس وللأسف فقد انتقلت هذه العادة إلى بعض المسلمين فإذا تابوا فعلى يد الشيخ تماماً كما يفعل النصراني عندما يتوب على يد القس، وإذا دعوا توسلوا بالشيخ وإذا قاموا أو قعدوا استعانوا به فتجد أحدهم إذا عثر أو نهض بدل أن يقول بسم الله أويا ألله قال: ياسيدي ويا شيخي!! وهكذا يستغيثون بالشيخ -غيباً- طالبين منه المدد فيقعون في الشرك مع أن المدد لا يأتي إلا من الله، قال تعالى:(إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني مُمِدُّكم) (يُمْدِدْكُمْ بأموالٍ وبنين) (كلاًّ نمدُّ هؤلاء وهؤلاء) الآيات. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله). فليت شعري كيف صرفهم الشيطان عن دعاء الخالق المالك القادر إلى دعاء المخلوق الذي لا يملك لنفسه –فضلاً عن غيره- ضرّاً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً !!؟ ومن هنا كانت بدعة استخارة الشيخ لمريده من هذا القبيل وحلقة من تلك البدع. أما أن يطلب الإنسان من شيخ أو ممن يُحَسِّن به الظنّ أن يدعو الله له يوفقه في اختيار الخير فهذا-وإن كان من كمال التوكل تركُه- فلا بأس به إن شاء الله فإنْ دعا له وهو غائب كان حسناً وفي الحديث الصحيح: (دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة ).
أمّا أن يستخير له ثم يقرر أن زواجه –مثلاً- مبارك أو مشؤوم فكلاّ، ومن يفعل ذلك فإنه زائغ مبتدع مُتَكَهِّن.
ومن أنواع الاستخارات المبتدعة المُحَرَّمةِ الاستخارةُ بالقرآن والاستخارة بالمنْدل والرمل والحصى و المسابح والاستخارة ببعض الحيوانات الصغيرة والاستخارة بالودع والكف والفنجان والطالع والأبراج وكذلك صلاة ست ركعات ثم الدعاء بعدها ليروا مناماً زعموا كل ذلك من البدع. والثابت هو صلاة ركعتين ثمّ الدّعاء كما ورد عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم في صحيح البخاري وقد ذكرنا الحديث آنفاً.
والإنسان المسلم بعد أن يشاور أهل الرأي والنصح ويستخير ربه يُقْدِمُ على الأمر المقصود فإن تَيَسَّرَ فبفضل الله ورحمته واختياره وإن لم يتيسَّرْ فهو الخير الذي اختاره الله. ولا ينتظر مناماً أو انشراح صدر ونحو ذلك فإنّ هذا لا ينضبط، وإنما تَيَسُّرُ الأمر بتيسِّر أسبابه، إذ ليس المقصود من دعاء الاستخارة أن يطلعك الله على الغيب لتعرف عاقبة الأمر بل المقصود أن يوفقك لخير هذه العاقبة.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفق المسلمين لاجتناب البدع والتزام السنن وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.