الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، ثم أما بعد؛..
الاشتقاقُ اللغوي:
الحكمُ والحاكمُ بمعنى واحد، وأصلُ "حكم" في الكلامِ: المنع، وسُمي الحاكمُ حاكمًا؛ لأنَّه يمنعُ الخصمين منَ التظالمِ.
وحَكَمْتَ الدابةَ: إذا مَنَعْتَهَا، والحِكْمَةُ تَمْنَعُ مِنَ الجهلِ، يُقالُ: حَكَمْتَ فلانًا تَحْكِيمًا: مَنَعْتَهُ عمَّا يريدُ، والمُحْكَمُ: المجربُ المنسوبُ إلى الحكمةِ([1]).
والحاكمُ: الفاصلُ بينَ الناسَ بعلمِه والمُلْزِمُ لهم مَا لا يمكنهم مخالفتَه، ولا يدعُهم يخرجون عنه([2]).
الدلالةُ في القرآنِ والسنةِ:
وَرَدَ اسمُ الحكم في قولِه تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} [الأنعام: 114].
وورد في السنة من حديث هاني بن يزيد رضي الله عنه: ((أَنَّهُ لَمَّا وَفَدَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ قَوْمِهِ سَمِعَهُمْ يَكْنُونَهُ بِأَبِي الْحَكَمِ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَكَمُ، وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ، فَلِمَ تُكْنَى أَبَا الْحَكَمِ؟ فَقَالَ: إِنَّ قَوْمِي إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَتَوْنِي، فَحَكَمْتُ بَيْنَهُمْ فَرَضِيَ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا أَحْسَنَ هَذَا، فَمَا لَكَ مِنَ الْوَلَدِ؟ قَالَ: لِي شُرَيْحٌ، وَمُسْلِمٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: فَمَنْ أَكْبَرُهُمْ؟ قُلْتُ: شُرَيْحٌ، قَالَ: فَأَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ))([3]).
المعنى في حَقِّ اللهِ تعالى:
هذا الاسمُ المباركُ له عدةُ معانٍ؛ منها:
1- الحكمُ الذي يحكمُ في خلقِه كمَا أرادَ، إمَّا لزامًا وإمَّا تكليفًا وابتلاءً للعبادِ، فحُكْمُه في خلقِه نوعان: ما يتعلقُ بالتدبيرِ الكوني، وهذا واقعٌ لا محالة متى شاءَه اللهُ وأرادَه، وحُكْمٌ شرعيٌّ تكليفيُّ يترتبً على فعلِه الثوابُ والعقابُ.
2- الحَكَمُ: هوَ الحاكمُ الذي لا يُرَدُّ حكمُه.
3- أنَّه يحكمُ بينَ عبادِه في شَرْعِه وقدرِه وجزائِه، ويُسْلَمُ له الحكمُ ويردُ إليه فيه الأمرُ([4])، وهذا لا يليقُ بغيرِ اللهِ - سبحانه وتعالى -([5]).
يقولُ ابنُ تيمية - رحمهُ اللهُ -: (فاللهُ - سبحانه وتعالى - هو الحَكَمُ الذي يحكمُ بينَ عبادِه، والحُكْمُ له وحده، وقدْ أنزلَ اللهُ الكتبَ وأرسلَ الرسلَ ليحكمَ بينهم، فمنْ أطاعَ الرسولَ كانَ منْ أوليائِه المتقين، وكانتْ له سعادةُ الدنيا والآخرةِ، ومنْ عصى الرسولَ كانَ مِنْ أهلِ الشقاءِ والعذابِ.
قالَ تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213])([6]).
4- أنَّ حُكْمَ اللهِ - سبحانه وتعالى- يكونُ بأمرِه وشرعِه([7]) بينَ عبادِه، ويحكمُ بينهم فيما كانوا فيه يختلفون([8]).
المعنى عندَ المخالفين والمناقشةُ وَالردُّ:
أولًا: المعنى عندَ المعتزلةِ:
الحَكَمُ: هو الحاكمُ الذي يحكمُ ويَفْصِلُ بينَ المُحِقِّ وَالباطِلِ([9])، ويقضي بينَ عبادِه([10])؛ يقولُ الرازي: (قالَ أكثرُ العقلاءِ إنَّ حُكْمَ اللهِ تعالى بجميعِ الكلياتِ والجزئياتِ، قدْ حصلَ مِنَ الأزلِ إلى الأبدِ، وأمَّا المعتزلةُ: فقدْ سَلَّمُوا ذلكَ في كُلِّ الحوادث إلَّا في أحوالِ الحيواناتِ)([11]).
الردُّ على ذلكَ:
المعتزلةُ لا يُسْلِمُونَ بجريانِ حُكْمِ اللهِ تعالى على أفعالِ العبادِ؛ وذلكَ لأنهم ينكرون خَلْقَ اللهِ تعالى لأفعالِهم، ويقولون إنَّ العبدَ هوَ الذي يخلقُ فِعْلَهُ الاختياري، وذلكَ انطلاقًا مِنْ أصلِهم الثاني وهوَ العدل([12]).
وسيأتي بيانُ مسألةِ أفعالِ العبادِ موضحةً بأدلتِها، وموقفُ المُخَالِفِ منها عندَ شَرْحِ اسمِ الخالقِ للهِ - عز وجل -.
ثانيًا: المعنى عندَ الأشاعرةِ:
الحَكَمُ معناه: الحَاكِمُ، ويمكنُ صَرْفُهُ إلى "قولِ اللهِ" المبينِ لِكُلِّ نَفْسٍ جزاءَ عَمَلِها، ويمكنُ صَرْفُهُ إلى أفعالِ المجازاةِ في الثوابِ وَالعقابِ.
وقيلَ: الحَكَمُ والحَاكِمُ يرجعان إلى معنى المنعِ، ومنْ ذلكَ سُميتْ حكمةُ اللجامِ حكمةً، فإنَّها تمنعُ الدابةَ مِنَ الجماحِ، وسُميتْ العلومُ حكمًا، لأنَّها تَزَعُ الموصوفين بها عَنْ شِيَمِ الجاهلين([13]).
وقدْ فَصَّلَ الرازي في معنى هذا الاسمِ، وذكرَ فيه عدةَ مسائلَ، وفي معرضِ حديثِه قالَ: (إنَّ أفعالَ العبادِ موقوفةٌ على إرادتِهم، وهيَ حادثةٌ، فلابدَّ لها مِنْ مُؤثرٍ، والمؤثرُ إما أنْ يكونَ حادثًا أو قديمًا، فإنْ كانَ المؤثرُ في حدوثِ تلكَ الإرادةِ شيئًا قديمًا؛ فذلكَ القديمُ يمتنعُ أنْ يكونً موجبًا بالذاتِ، وإلَّا لَزِمَ مِنْ قِدَمِ العلةِ قِدَمُ المعلولِ، فيلزمُ كونُ الإرادةِ محدثةً قديمةً، وذلكَ محالٌ، فلابدَّ وَأنْ يكونَ ذلكَ القديمُ فاعلًا مختارًا، وهذا مذهبُ جمهورِ أصحابِ السنةِ والجماعةِ.
فجميعُ الكلياتِ والجزئياتِ مُقَدَّرَةٌ بأوقاتٍ مخصوصةٍ وأحوالٍ مخصوصةٍ، لا يجوزُ على المُتَقَدِّمِ أنْ يتأخرَ، ولَا المُتَأَخِّرَ أنْ يتقدَّمَ، وأنَّ حُكْمَ اللهِ في جميعِ الكلياتِ والجزئياتِ حاصلٌ في الأزلِ، ومعلومٌ أنَّ الحُكْمَ الأولَ لا دافعَ له)([14]).
الرد على ذلك:
نلحظُ على مَا سبقَ بيانُه تأويلًا ظاهرًا لمعنى هذا الاسمِ المباركِ، حيثُ صُرِفَتْ صفةُ الحكمةِ للهِ - عز وجل - إلى معنى الذاتِ، فَفُسِّرَ الحُكْمُ بقولِه، وإذا أُشِيرَ إلى أنها صفةً فعليةً صُرِفَتْ إلى المجازاةِ في الثوابِ والعقابِ.
ولاشَكَّ أنَّ حكمَ اللهِ وإنْ كانَ له تعلقٌ بالذاتِ إلَّا أنَّه يظهرُ في فعلِه، وأفعالُه لا نهايةَ لها، وآحادُها حادثةٌ لكمالِ قدرتِه وتمامِ عزتِه، ولا خلافَ في أنَّ أصلَ الصفةِ قديمٌ.
أمَّا الأشاعرةُ فيقولون بأزليةِ الصفاتِ، ويمنعونَ حدوثَ آحادِها بحجةِ مَنْعِ حلولِ الحوادثَ في ذاتِه تعالى، ومنْ هذه الصفاتِ حُكْمُهُ تعالى، فيرونَ أنَّ هذا الحكمَ قديمٌ فقطْ، وأنَّ آحادَه غيرُ حادثةٍ ولا متجددةٍ، وهذا قَدْحٌ في القدرةِ الكاملةِ، فإنَّ تَجَدُّدَ آحادِ الفعلِ دليلٌ على الكمالِ المطلقِ في الذاتِ والصفاتِ والأفعالِ.
وكذلكَ نَلْحَظُ على ما سبقَ مِنْ قَوْلِ الرازي مَيْلًا إلى القولِ بالجبرِ، وأنْ ليسَ للعبدِ فِعْلٌ اختياريٌّ، وذلك بصدورِ الحُكْمِ في جميعِ الكلياتِ والجزئياتِ في الأزلِ، وإلغاءُ فِعْلِ العبدِ ومشيئتِه، فلابدَّ مِنْ إثباتِ فِعْلِ العبدِ ومشيئتِه وأنها خاضعةٌ لمشيئةِ اللهِ - سبحانه وتعالى -.
ثالثًا: المعنى عندَ الماتريدية:
الحَكَمُ: هوَ الذي له الحكمُ في الدنيا والآخرةِ، فلهُ الحُكْمُ في أمورِ الخَلْقِ وأفعالِهم، كمَا له الحُكْمُ في أحوالِهم، لأنَّه لا يلحقُه الخطأُ في حُكْمِهِ، إذْ هو عالمٌ بذاتِه، ولا تلحقُه التهمةُ أيضًا في دَفْعِ مَضَرَّةٍ أوْ جَرِّ نَفْعٍ؛ لأنَّه غني بذاتِه، فلهُ الحكمُ في الدارين جميعًا([15]).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.