التعظيمُ الممنوعُ للأماكن بمكةَ المكرمةِ 3

التعظيمُ الممنوعُ للأماكن بمكةَ المكرمةِ 3





الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛
الأدلةَ المانعةَ لهذا التعظيمِ المُبْتَدَعِ:

الدليلُ الأول: أنَّ تعظيمَ الأماكن التي شُرِعَ لنا تعظيمُها والتعبدُ للهِ تعالى عندَها، كالطوافِ بالكعبةِ أو تقبيلِ وَمَسْحِ الحجرِ الأسود، ليسَ المقصدُ من ذلك التماسَ البركاتِ الدنيويةِ مِنْ أجزائِها؛ ولذلكَ قالَ عمرُ - رضيَ اللهُ عنه - في الحجرِ الأسود: (إنِّي لأعلمُ أَنَّكَ حجرٌ لا تَضُرُّ ولا تَنْفَعُ، وَلولَا أنِّي رأيتُ النبيَّ- صلى اللهُ عليه وسلم - يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ)([1]).

يقولُ المحب الطبري - رحمهُ اللهُ -: (إنما قالَ ذلكَ عمرُ - رضيَ اللهُ عنه - واللهُ أعلم؛ لأنَّ الناسَ كانوا حديثي عهدٍ بعبادةِ الأصنام، فخشيَ عمرُ أنْ يَظُنَّ الجُهَّالُ أنَّ استلامَ الحجرِ هو مثلُ مَا كانتْ العربُ تفعلُه، فأرادَ عمرُ أنْ يُعَلِّمَ الناسَ أَنَّ استلامَه لا يُقْصَدُ به إلا تعظيمُ اللهِ - عز وجل -، والوقوفُ عند أمرِ نبيِّه - صلى اللهُ عليه وسلم -، وأنَّ استلامَه مُخَالِفٌ لِفِعْلِ الجاهليةِ فِي عبادتِهم الأصنامَ؛ لأنَّهم كانوا يعتقدون أنها تُقَرِّبُهم إلى اللهِ زُلْفَى، فنبَّهَ عمرُ على مخالفةِ هذا الاعتقادِ، وأنَّه لا يبنغي أنْ يُعْبَدَ إلَّا مَنْ يملكُ الضُّرَّ وَالنَّفْعَ، وهوَ اللهُ جَلَّ وَعَلا)([2]).

وفي قولِ عمرَ (دَفْعُ مَا وقعَ لبعضِ الجُهَّالِ مِنْ أَنَّ في الحجرِ الأسود خاصةً ترجعُ إلى ذاتِه)([3]).

هكذا كانَ اعتقادُ الصحابةِ - رضيَ اللهُ عنهم - في المواضعَ التي شُرِعَ لنا تعظيمُها، فمَا بالُكَ بمنْ يأتي إلى هذه الأماكنَ التي لمْ يُشْرَعْ تعظيمُها، وَيُعْتَقَدُ فيها ببركةٍ خاصةٍ فيُتَعَبَّدَ للهِ تعالى عندها، وبعضُهم يَتَمَسَّحُ ويُقَبِّلُ أحجارَها مُلْتَمِسًا بركتَها.

الدليلُ الثاني: أَنَّ تعظيمَ هذه الأماكنَ وتقديسَها هو بمثابةِ اتخاذِها عيدًا، فالعيدُ يشملُ الزمانَ وَالمكانَ([4])، وهوَ اسمٌ لما يُعْتَادُ فِعْلُه، أو تَرَدَّدَ إليه الإنسانُ ليعملَ عملًا، وإذا كانَ النبيُّ - صلى اللهُ عليه وسلم - قدْ نهانَا أَنْ نتخذَ قبرَه عيدًا حينَ قَالَ: ((لَا تجعلُوا قَبْرِي عيدًا))([5])، وهوَ مِنْ أشرفِ الأماكنَ، فالأماكنُ التي مَرَّ بها النبيُّ - صلى اللهُ عليه وسلم - أو صلَّى بها اتفاقًا أولى ألَّا تُتَّخَذَ عيدًا.

الدليلُ الثالث: أنَّ المكانَ الذي كانَ النبيُّ - صلى اللهُ عليه وسلم – يصليفيه بالمدينةِ النبويةِ دائمًا لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ السلفِ يستلمُه ولا يُقَبِّلُه، وَلَا المواضع التي صلَّى فيها بمكةَ وغيرِها، فإذا كانَ الموضعُ الذي كانَ يطؤُه بقدمَيْهِ الكريمتين ويُصَلِّي عليه لمْ يُشَرِّعْ لأمتِه التمسحَ بِه ولا تقبيلَه، فكيفَ بما لا تُعْلَمُ صحتُه منْ آثارِه - صلى اللهُ عليه وسلم -؟! أوْ بما يُعْلَمُ أنَّه مكذوبٌ؟! كحجارةٍ كثيرةٍ يأخذُها الكذابون وَينحتون فيها مواضعَ قدمٍ ويزعمون عندَ الجُهَّالِ أنَّ هذا موضعُ قدمِ النبيِّ - صلى اللهُ عليه وسلم -، بلْ تركُها مِنْ بابِ أولى([6]).

ولقدْ كانَ سلفُ هذه الأمةِ يحتاطون في تعظيمِ الأماكنَ التي ثَبُتَ أنَّ النبيَّ - صلى اللهُ عليه وسلم - وقفَ عليها، وَمِنْ ذلكَ ما فعلَه الإمامُ مالك، حيثُ نُقِلَ عنه أنَّه لمْ يأخذْ العلمَ عنْ عطاء لمَّا رآه تمسَّحَ بمنبرِ رسولِ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم -([7]).

       ونحنُ اليومَ نشاهدُ كثيرًا مِنْ روادِ هذه الأماكنَ التي لمْ يُشْرَعْ تعظيمُها، يتمسحون بها ويُقَبِّلُون أحجارَها، وغير ذلكَ من المنكراتِ مما سيتضحُ بإذنِ اللهِ تعالى في الدليلِ الآتي.

الدليلُ الرابع: الواقع ُالمُشَاهَدُ لهذه الأماكنَ، حيثُ يرى الناظرُ لهذه الأماكنَ ما يدمي العينَ وَيجرحُ الفؤادَ، مِنْ مظاهرَ الشركِ والخرافةِ والابتداعِ التي تُمَارَسُ عندَ هذه الأمكنةِ على مدارِ العامِ، وخصوصًا في موسمِ الحجِّ، وسأذكرُ بعضَ مَا وردَ في تقريرِ هيئةِ الأمرِ بالمعروفِ والنهي عنْ المنكرِ، وهيَ الجهةُ المُحْتَسِبَةُ لإرشادِ النَّاسِ في هذه الأمكنةِ؛ حيثُ جاءَ فيه: (ما يحصلُ مِنْ مخالفاتٍ بجبلِ إلال بعرفات المُسَمَّى جبلُ الرحمةِ: صدورُ صورٍ شركيةٍ وبدعيةٍ ومعتقداتٍ خرافيةٍ عديدةٍ مِنَ الحُجاجِ حيالَه، ومنها:

       - تقبيلُ الشاخصِ، والسجودُ والصلاةُ نحوه على خلافِ القبلةِ، والطوافُ حولَه.

       - اعتقادُ بعضِهم بأنَّ الساحةَ التي بأعلى الجبلِ حولَ الشاخصِ هيَ قبرَ أبينا آدم - عليه السلامُ-.

       - الجهرُ بأدعيةٍ وَأوراد وابتهالاتٍ فيها غلوٌّ بالصالحين، بلْ فيها إغاثةُ بغيرِ اللهِ وطلبُ الشفاعةِ والحوائجَ وتفريجِ الكرباتِ من الأولياءِ َوالمُعَظَّمِين عندَهم.

       - التبركُ بقمةِ الجبلِ والشاخصِ، والتمسحُ بهما بصورٍ عديدةٍ؛ كأخذِ الأتربةِ والأحجار، وأوراقِ الأشجارِ، ومسحِ خِرَق وَمناديل بحوزتِهم بهما لاعتقادِ البركةِ وَالاستشفاءِ وغيرِ ذلكَ.

       - محاولةُ التبركِ بالعاملين مِنْ أعضاءِ الهيئةِ أو الجنودِ ومحاولةُ تصويرِهم.

       - إهداءُ الرسائل الورقيةِ، وَالحروزِ وَالتمائم للشاخصِ والرسولِ وآدم، وتركُها بأعلى الجبلِ وَحولَ الشاخصِ، وفيها توسلٌ بغيرِ اللهِ، واستغاثاتٌ وَطَلَبُ حوائج منْ غيرِ اللهِ، ويحتوي بعضُها على أشعارٍ وَطلاسم شعوذةٍ، وتُوضَعُ أحيانًا في أكياسٍ مِن القماشِ أو الورقِ أو الجلدِ.

       - إهداءُ صورِهم وصورِ أُسَرِهم وأقاربِهم للجبلِ، مع رسائلَ موجهٍ للهِ - سبحانَه وتعالى - والرسولِ - صلى اللهُ عليه وسلم - وآدم - عليه السلامُ - وغيرِهم، والنساءُ بها متبرجاتٌ، وفي تمامِ زينتهِنِّ، وتركُها بالجبلِ لمُعْتَقَدٍ فاسدٍ.

       - كتابةُ أسماءِ أسرِهم وأقاربِهم وذويهم على الجبلِ والشاخصِ وما حولَه من الأحجارِ والصخورِ، وبعضِ المعلوماتِ عنهم لمعتقداتٍ فاسدةٍ، منها: إثباتٌ لحجتِه وَزيارتِه وَقبولِهما، ووصايا وَأدعيةٍ وَطَلَبِ حوائج مِنْ غيرِ اللهِ - سبحانَه وتعالى -؛ لِجَلْبِ البركةِ وَالنفعِ بذلكَ.

       - حدوثُ اختلاطٍ وَالتصاقٍ أحيانًا بسببِ الزحامِ الشديدِ الحاصلِ فوقَ الجبلِ حولَ الشاخصِ في بعضِ الأوقاتِ لكثرةِ الوافدين من الحُجَّاجِ للموقعِ، فيستغلُّ هذا ضِعَافُ النفوسِ لأغراضٍ سيئةٍ.

       - ضَمُّ الرجلِ لزوجتِه ضَمًّا شديدًا وتقبيلُها في أعلى الجبلِ أمامَ الناسِ؛ لِمُعْتَقَدٍ فاسدٍ أَنَّ هذا الفعلَ توبةٌ مِنْ أي ذنبٍ، وأنه اتقداءٌ بأبي البشرِ آدم - عليه السلام - لِفِعْلِهِ ذلكَ مع زوجتِه حواء)([8]).

كَمَا وردَ في التقريرِ المخالفاتُ التي في موقعِ مكتبةِ مكةَ المكرمةِ؛ ومنها:

       - السجودُ لها، والصلاةُ إليها، والطوافُ حولها، والتعَلُّقُ ببابِ المكتبةِ ونافذتِها، والبكاءُ وَالنحيبُ عندهما، وسؤالُ المغفرةِ والتوبةِ، وطلبُ الحوائجَ مِن النبيِّ - صلى اللهُ عليه وسلم - وَمِنْ غيرِه مِنَ البشرِ.

       - قصدُ المبنى واستقبالُه للتعبدِ في حالةِ خشوعٍ وخضوعٍ وتذللٍ وبكاءٍ، للدعاءِ وَترديدِ الابتهالاتِ البدعيةِ والشركيةِ.

       - تقبيلُ المبنى وَلَعْقُ الأبوابِ وَالنوافذَ، وَالتبركُ وَالتمسحُ بجدرانِه وَكُلِّ شيءٍ حولَ المبنى أو مُتصلٍ بِه، وأكلُ شيءٍ من الأتربةِ وَالحصى الموجودِ حولَه.

       - جَمْعُ الأتربةِ والحصى وأخذُها منْ حولِ المبنى؛ لِمُعْتَقَدٍ فاسدٍ كالبركةِ وَالاستشفاءِ مِنَ الأمراضِ المختلفةِ، وممن لا ينجبون لغرضِ الإنجابِ وَغيرِ ذلك.

       - عقدُ العقدِ على شببايك المكتبةِ، وَكتابةُ الأدعيةِ البدعيةِ والشركيةِ على الجدران([9]).

       وَقَدْ رأيتُ بِأُمِّ عيني مِنَ الحجاجِ مَنْ يأتي إلى هذا الموضعِ ويستقبلُه مُصَليًا مُسْتَدْبِرًا الكعبةَ خلفَ ظهرِه، وأخبرني رجالُ الحسبةِ العَامِلِين عندَ المكتبة بأنَّ الحجاجَ يضعون الأموالَ في الصناديق المجاورةِ للمكتبةِ والمخصصةِ للجرائد أوْ البريدِ.

       أمَّا مَا يحدثُ في جبلِ النور مِنَ المخالفاتِ؛ فقدْ نَصَّ التقريرُ على مَا يلي:

       - جميعُ مَا ذُكِرَ مِن المخالفاتِ الشركيةِ والبدعيةِ، والمعتقاداتِ الخرافيةِ بموقعِ "جبلِ عرفات وَالمكتبةِ" تحصلُ في هذا الموقعِ، مع فارقِ المعتقدِ حيالَ الموقعِ "بتعظيمِ وَتقديسِ الغارِ أعلاه"، ويلاحظُ هنا المشقةُ الواضحةَُ والعنتُ الكبيرُ الذي يلاقيه الحجاجُ في صعودِ الجبلِ، لا سيما كبار السنِّ، فَيُصِرُّ بعضُ الحجاجِ إصرارًا عجيبًا على الصعودِ، ولوْ كَلَّفَهُم هذا الكثيرَ مِن الأضرارِ البدنيةِ وَالأذى.

- طلبُ المَدَدِ وَالاستغاثةُ بالنبيِّ - صلى اللهُ عليه وسلم - وَبِعَلي - رضيَ اللهُ عنه -، وغيرِهما من الأولياءِ والأشخاصِ المُعَظَّمِين عندَهم أثناءَ صعودِ الجبلِ.

       - مرابطةُ بعضِ المتخلفين بالبلادِ بأعلى الجبلِ، واستغلالُهم لقدومِ آلافٍ مِن الحجاجِ لممارسةِ بيعِ بعضِ المعروضاتِ وَالموادِ الغذائيةِ بصفةٍ غيرِ نظاميةٍ وَبأسعارٍ مرتفعةٍ.

       - سُكْنَى بعضُ المتسولين بالجبالِ، واتخاذُهم الموسمَ، وقدومُ آلافِ الحجاجِ ذريعةً للتوسلِ وَالتكسبِ وجمعِ أموالٍ طائلةٍ باستدرارِ عواطفَ الحجاجِ وَإظهارِ الحاجةِ وَالفاقةِ.

       - كذبُ وتزويرُ بعضِ الأشخاصِ المتخلفين بالبلادِ بتظاهرِهم بتعبيدِ الطريقِ المؤدي لأعلى الجبلِ، بالتظاهرِ ببناءِ عتبات دَرَجٍ تُسَهِّلُ الصعودَ، بإظهارِ بعضِ الأدواتِ "كالسطل، والأسمنت، والساحي"، ويقومون بالتسولِ وطلبِ المساعدةِ مِنَ الناسِ وجمعِ الأموالِ بالباطلِ، وربما أوهموا الحجاجَ أنهم مكلفون بهذا العملِ مِنْ جهةٍ رسميةٍ، وهكذا يوميًّا، بلْ ويُرْغِمُون بعضَ الحجاجِ أحيانًا على التبرعِ بالقوةِ، مستغلين ضعفَهم، وعلو الجبلِ مِنَ الجهاتِ الحكوميةِ وَالأمنيةِ.

       - قيامُ مَنْ أشرْنَا لهم بتزيينِ مدخلِ الغارِ وما حولَه بكتاباتٍ ملونةٍ فيها اسمُ اللهِ واسمُ الرسولِ - صلى اللهُ عليه وسلم - وبعضِ الصحابةِ؛ وذلكَ لإضفاءِ الشرعيةِ لمثلِ هذه الزياراتِ، وترغيبِ الحجاجِ للتصويرِ عندها.

       - التبركُ والتمسحُ بالجبلِ والأشجارِ النابتةِ في الغارِ، وبأتربتِه وما حولَه مِنَ الصخورِ، وأخذُ شيءٍ منها.

       - حصولُ الازدحامِ الشديدِ وَالاختلاطِ بينَ الرجالِ وَالنساءِ حولَ الغارِ، وبمدخلِه وداخلِه؛ ما يؤدي إلى التصاقِ الرجالِ بالنساءِ.

- وجودُ كتاباتٍ كثيرةٍ حولَ الغارِ بعدةِ لغاتٍ، أكثرها الباكستانية والهندية والتركية والإندونيسية، محتويةً على أسماءِ الحجاجِ وَأُسَرِهِمْ، وطلبُ المددِ وتفريجِ الكرباتِ وَالشفاءِ مِنَ النبيِّ - صلى اللهُ عليه وسلم -، ونحو ذلكَ([10]).

       وهذا يؤكدُ أنَّ المفاسدَ المترتبةَ على هذا التعظيمِ الممنوعِ لهذه الأمكنةِ كثيرةٌ وخطيرةٌ، وأنَّ منهجَ السلفِ الصالحِ في التحذيرِ عَنْ تقديسِ هذه الأمكنةِ هو الأسلمُ والأحكمُ والأعلمُ.

الدليلُ الخامس: أنَّ بركةَ ذواتِ الأنبياءِ وَالمرسلين لا تتعدى إلى الأمكنةِ الأرضيةِ واللهُ أعلم، وإلَّا لَزِمَ أنْ تكونَ كُلُّ أرضٍ وَطِئَها النبيُّ - صلى اللهُ عليه وسلم -، أو جلسَ عليها، أوْ طريقٍ مَرَّ بها تُطْلَبُ بَرَكَتُهَا، ويُتَبَرَّكُ بها، وهذا لازمٌ باطلٌ قطعًا، فانتفى الملزومُ إذن([11]).

والصحابةُ - رضيَ اللهُ عنهم - أشدُّ الناسِ حرصًا على بركةِ النبيِّ - صلى اللهُ عليه وسلم - الذاتيةِ، ولذلكَ تنافسوا على شعراتِه - صلى اللهُ عليه وسلم -، ولم يحرصوا على تتبعِ أماكن صلواتِه وَجلوسِه؛ قالَ الشيخُ صديق حسن خان - رحمهُ اللهُ -: (قالوا: المشيُ في أرضٍ مَشَى فيها رسولُ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم - يُكَفِّرُ السيئاتِ، خصوصًا مع النيةِ الصالحةِ، وفيها بُشرى له برجاءِ أنْ يكونَ مُتَّبِعًا آثارَه الشريفةَ، قُلْتُ: وذلكَ يحتاجُ إلى سندٍ، لأنَّ المُكَفِّرَ إنما هو اتباعُ هديه وَسنتِه ظاهرًا وباطنًا، دونَ تتبعِ آثارِه الأرضيةِ فقط، فَتَدَبَّرْ)([12]).

ومتابعةُ هديه - صلى اللهُ عليه وسلم - باطنًا وظاهرًا هوَ المطلوبُ مِنْ كُلِّ مسلمٍ، وليسَ تتبعَ آثارِه المكانيةِ، وهذا ما أشارَ إليه الحسنُ البصري حينَ رأى قومًا يزدحمون على حَمْلِ نَعْشِ بعضِ الموتى الصالحين؛ فقالَ: (في عملِه فَنَافِسُوا)، وعَلَّقَ ابنُ رجب على كلامِ الحسنِ فقالَ: (يشيرُ إلى أنَّ المقصودَ الأعظمَ متابعتُه فِي عملِه، لا مجرد الازدحامِ على نعشِه)([13]).

الدليلُ السادس: أنَّ معظم الزوارِ لهذه الأمكنةِ قصدُهم التقربُ إلى اللهِ بزيارتِها، ولذلكَ يتعبدون اللهَ تعالى عندَها بالصلاةِ والدعاءِ ونحوِها، مريدين بذلكَ متابعةَ رسولِ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم -، ومتابعتُه - صلى اللهُ عليه وسلم - تكونُ بطاعةِ أمرِه وتكونُ في فعلِه، بأنْ يفعلَ مثلَ مَا فعلَ على الوجهِ الذي فَعَلَهُ.

فإذا قصدَ العبادةَ في مكانٍ كانَ قَصْدُ العبادةِ فيه متابعةً له، كَقَصْدِ المشاعر وَالمساجد، وأمَّا إذا نَزَلَ في مكانٍ بحكمِ الاتفاقِ لكونِه صادفَ وَقْتَ النزولِ، أوْ غير ذلكَ مما يُعْلَمُ أنَّه لمْ يَتَحَرَّ ذلكَ المكانَ، فإذَا تحرينا ذلكَ المكانَ لم نكنْ متبعين له، فإنَّ الأعمالَ بالنياتِ([14])، بلْ هوَ مخالفةٌ لهدي النبيِّ - صلى اللهُ عليه وسلم - في النيةِ والقَصْدِ، وَقَدْ حَذَّرَنَا نبيُّنا عنْ مخالفتِه في أمورِ عبادتِنا؛ فقالَ: ((إِنَّ خَيْرَ الحديثِ كتابُ اللهِ، وَخَيْرَ الهَدي هَديُ محمدٍ - صلى اللهُ عليه وسلم -، وَشَرَّ الأمورِ مُحْدَثَاتُها، وَكُلُّ بدعةٍ ضلالةٌ))([15]).

الدليلُ السابع: لو سَوَّغْنَا زيارةَ هذه الأماكن في مكةَ المكرمةِ بِحُجَّةِ أَنَّ النبيَّ - صلى اللهُ عليه وسلم - أقامَ أو جلسَ أو صلَّى فيها، لفتحْنَا البابَ لسائرِ المقاماتِ وَالمشاهدَ المنتشرةِ في أنحاءِ العالمِ الإسلامي، كالمقامين اللذَين بطريقِ جبلِ قاسيون بدمشق، اللذان يُقَالُ إنها مقامُ إبراهيمَ وعيسى، والمقامُ الذي يُقالُ إنَّه مغارةُ دَمِّ قابيل، وأمثالُ ذلكَ مِنَ البقاعِ التي بالحجازِ وَالشامِ وغيرِها.

ثُمَّ ذلكَ يفضي إلى ما أفضتْ إليه مفاسدُ القبورِ، فإنَّه يُقالُ: إنَّ هذا مقامُ نبيٍّ، أوْ قبرُ نبيٍّ أوْ ولي، بخبرٍ لا يُعْرَفُ قَائِلُهُ، أو بمنامٍ لا تُعْرَفُ حقيقتُه، ثُمَّ يترتبُ على ذلكَ اتخاذُه مسجدًا، فيصيرَ وثنًا يُعْبَدُ مِنْ دونِ اللهِ، شِرْكٌ مبنيٌّ على إفكٍ([16]).

وهذا ما وقعَ في كثيرٍ مِنْ بلدان المسلمين/ وإلى اللهِ المُشتكى.

 

 



([1]) رواه البخاري.

([2]) القرى لقاصد أم القرى، محب الدين الطبري،ص(281)، ونقله ملخصُ ابنِ حجر في الفتح، (3/463)، وقريبٌ منه ما ذكره الباجي - رحمهُ اللهُ- في المنتقى شرح الموطأ، (2/287).

([3]) فتح الباري، ابن حجر، (3/463).

([4]) انظر: المعاني التي يشملها العيد في اقتضاء الصراط المستقيم، ابن تيمية، (1/442).

([5]) رواه أحمد في مسنده، (2/367)، وأبو داود، (2/534)، وسكت عنه، وصححه النووي في الأذكار،ص(93)، وحسنه ابنُ حجر في الفتوحات الربانية، (3/313).

([6]) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم، ابن تيمية، (2/809)،وشفاء الصدور، مرعي الحنبلي،ص(178).

([7]) شفاء الصدور، مرعي الحنبلي،ص(179).

([8]) تقرير هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بفرع منطقة مكة المكرمة لحج عام 1423هـــ،ص(2-3).

([9]) المصدر السابق،ص(5-6).

([10]) المصدر السابق،ص(7-8).

([11]) هذه مفاهيمنا، صالح بن عبد العزيز آل الشيخ،ص(211)، وانظر: مجموعة الرسائل والمسائل، ابن تيمية، (5/263).

([12]) رحلة الصديق إلى البيت العتيق، صديق حسن خان،ص(21).

([13]) فتح الباري، ابن رجب، (3/179).

([14]) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم، ابن تيمية، (2/752).

([15]) رواه مسلم، (867).

([16]) اقتضاء الصراط المستقيم، ابن تيمية، (2/757-758).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
الأدلةَ المانعةَ لهذا التعظيمِ المُبْتَدَعِ.doc doc
الأدلةَ المانعةَ لهذا التعظيمِ المُبْتَدَعِ.pdf pdf

ذات صلة

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى