التعظيمُ المشروعُ للأماكن بمكةَ المكرمةِ 2

التعظيمُ المشروعُ للأماكن بمكةَ المكرمةِ 2





 الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ اختصَّ اللهُ تعالى البلدِ الحرامِ وَفَضْلُه بأماكنَ معظَّمَةٍ، وَمقاماتٍ مباركةٍ، وَمشاعر مقدسةٍ، وَآياتٍ بينَةٍ، مما يزيدُه تشريفًا وَتعظيمًا وَإكرامًا، وَقدْ جاءت النصوصُ الشرعيةُ مِنَ الكتابِ وَالسنةِ مبينةً فضل هذِه المواقعَ المباركةِ وَأحكامِها، وَموضحةً الطرق المشروعة لتعظيمِها وَكيفية التعبدِ للهِ - عز وجل – عندها([1]).

  حيثُ افترضَ علينا شعائرَ لنقيمَها فِي هذه المشاعرَ، وَالمقصودُ بالمشاعر: مواضع مناسِكِ الحَجِّ، وَالمعالمُ التِي نَدَبَ اللهُ إليها، وَأَمَرَ بالقيامِ بها، وَهي جمعُ مَشْعَر، وَمِنْهَا سُمي الـمَشْعَرُ الحرامُ بمزدلفةَ، لأنَّه معلمٌ وَموضعٌ للعبادةِ.

  وَأمَّا الشعائر فهي أعمالُ الحجِّ وَمناسكُه وَعلاماتُه، جَمْعُ شعيرةٍ كالوقوفِ بعرفةَ، وَالطوافِ، وَالسعي، وَالرمي، وَنحو ذلك، وَكذَا كُلُّ مَا جُعِلَ علمًا لطاعةِ اللهِ يُسمى شعيرةً([2]).

  واللهُ - عز وجل - أَمَرَنَا بتعظيمِ مشاعره وَشعائِرِه؛ فقَالَ تَعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 30، 32].

  وَسأذكرُ فيما يلي هذه الأماكنَ التي شرعَ اللهُ - عز وجل - لنا تعظيمَها في مكةَ المكرمةِ، مبينًا فضلَها باختصارٍ:

1.    مقامُ إبراهيمَ:

          وَهوَ الحَجَرُ الذي قامَ عليه خليلُ اللهِ إبراهيمُ - عليه السلام - حينَ ارتفعَ بناؤه للبيتِ، وَشقَّ عليه تناولُ الحجارةِ، فكانَ يقومُ عليه ويبني وَإسماعيلُ يناولُه الحجارةَ، وهوَ الحَجَرُ الذي قامَ عليه للنداءِ وَالأذانِ بالحجِّ([3]).

          وقدْ وردَ في بعضِ الأحاديث الضعيفةِ أنَّه مِنَ الجنةِ([4]).

          وَقدْ ذكرَه اللهُ تعالى في كتابِه ضِمْنَ آياتِه البينات في حَرَمِه فقالَ: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97].

          يقولُ الطبري في تفسيرِها: (إِنَّ أولَ بيتٍ وُضِعَ للناسِ مباركًا وَهدى للعالمين، للذي ببكةَ، فيه علاماتٌ بيناتُ مِنْ قدرةِ اللهِ، وَآثارِ خليلِه إبراهيمَ، منهنَّ أثرُ قَدَمِ خليلِه إبراهيمَ - صلى اللهُ عليه وسلم - في الحَجَرِ الذي قامَ عليه)([5]).

          وقدْ شرعَ اللهُ تعالى لنا اتخاذَه مُصلى لمنْ طافَ بالكعبةِ؛ فقدْ روى أنس عنْ عمرَ - رضيَ اللهُ عنه - قالَ: (قلتُ: يا رسولَ اللهِ، لو اتخذتُ مِنْ مقامِ إبراهيمَ مُصلى؟ فأنزلَ اللهُ تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]).

          وَصلَّى النبيُّ - صلى اللهُ عليه وسلم - خلفَ المقامِ؛ كما في حديثِ جابر - رضيَ اللهُ عنه - في صفةِ حجةِ النبيِّ - صلى اللهُ عليه وسلم - حيثُ قالَ: (طافَ رسولُ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم - بالبيتِ سبعًا، رملَ منها ثلاثًا، وَمشى أربعًا، ثمَّ قامَ عندَ المقامِ فصلَّى ركعتين ثمَّ قرأَ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] ورفعَ صوتَه يُسْمِعُ الناسَ)([6]).

          والصلاةُ خلفَ المقامِ بعدَ الطوافِ سنةٌ مستحبةٌ لِمَنْ تيسرَ له ذلك.

          فالتعظيمُ المشروعُ للمقامِ هوَ الصلاةُ خلفَه كمَا فعلَ سيدُ الخلقِ - صلى اللهُ عليه وسلم -، أمَّا التعظيمُ الممنوعُ وَالمبتدعُ فهوَ التمسحُ بِه واستلامُه وتقبيلُه، وقدْ نهى السلفُ الصالحُ عنْ ذلكَ، فقد أتى ابنُ الزبير - رضيَ اللهُ عنه - على قومْ يمسحونَ المقامَ فقالَ: (إنَّكم لم تُؤمروا بمسحِه، وَإنِّما أُمِرْتُم بالصلاةِ عندَه)([7]).

          وَعنْ ابنِ جريج قالَ: (قلتُ لعطاء: أرأيتَ أحدًا يُقَبِّلُ المقامَ أوْ يمسُّه؟ قالَ: أمَّا أحدٌ يُعْتَبَرُ بِهِ فَلَا)([8]).

          وَقالَ قتادة: ({وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]، إنما أُمِرُوا أنْ يُصَلُّوا عندَه وَلمْ يُؤمروا بمسحِه، ولقدْ تكلفتْ هذه الأمةُ شيئًا مَا تكلفتْه الأممُ قبلَها، وَلقدْ ذكرَ لنَا بعضُ مَنْ رأى أثرَ عقبِه وَأصابعِه، فمَا زالتْ حتى اخلولقَ وَانمحَى)([9]).

          وَقالَ النووي - رحمهُ اللهُ -: (لا يُقَبِّل مقامَ إبراهيمَ وَلا يستلمه، فإنَّه بدعةٌ)([10]).

          وَقالَ ابنُ تيمية - رحمهُ اللهُ -: (وَقَدْ اتفقَ العلماءُ على ما مضتْ بِهِ السنةُ، مِنْ أنَّه لا يُشْرَعُ الاستلامُ وَالتقبيلُ لمقامِ إبراهيمَ ...)([11]).

2.    زمزم:

          وهيَ البئرُ المباركةُ المشهورةُ فِي المسجدِ الحرامِ شرقي الحجرِ الأسود وَجنوبي مقامِ إبراهيمَ - عليه السلام -، وَقصةُ خروجِ هذا الماءِ مشهورةٌ وَفضائلُه معلومةٌ، فقدْ اختصَّه اللهُ بخصائصَ تدلُّ على أهميتِه وَفضلِه على سائرِ المياه، وَمِنْ ذلكَ: غَسْلُ صدرِ النبيِّ - صلى اللهُ عليه وسلم - بهذا الماءِ المباركِ قَبْلَ الإسراءِ وَالمعراجِ([12]).

          وَمِنْ ذلكَ أنَّه أفضلُ مياهِ الأرضِ شرعًا وَطِبًّا؛ فعنْ ابنِ عباس قالَ: ((قالَ رسولُ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم -: خيرُ ماءٍ على وَجْهِ الأرضِ ماءُ زمزم ...))([13]).

وَمِنْ فضائلِه: إشباعُ شاربِه كمَا يُشْبِعُهُ الطعامُ؛ فقدْ ثبتَ في صحيحِ مسلم، عن عبدِ اللهِ بن الصامت، عن أبي ذرٍّ - رضيَ اللهُ عنه - في خبرِ إسلامِه، وفيه: ((أنَّ النبيَّ - صلى اللهُ عليه وسلم - قَالَ لأبي ذر: متى كنتَ ههنا؟ قَالَ: قُلْتُ: قدْ كنتُ ههنا منذُ ثلاثين بينَ ليلةٍ وَيومٍ، قالَ: فمنْ كانَ يُطْعِمُكَ؟ قالَ: قلتُ: مَا كان لي طعامٌ إِلَّا مَاءُ زَمْزَمَ، فَسَمِنْتُ حَتَّى تَكَسَّرَتْ عُكَنُ بَطْنِي، وَمَا أَجِدُ عَلَى كَبِدِي سُخْفَةَ جُوعٍ، قَالَ: إِنَّهَا مُبَارَكَةٌ إِنَّهَا إنها طعامٌ طعم))([14]).

قَالَ ابنُ الأثيرِ: (أي يَشْبَعُ الإنسانُ إذَا شَرِبَ ماءَها كَمَا يشبعُ مِنَ الطعامِ)([15]).

وَمنْ فضائلِه أنَّه - بإذنِ اللهِ تعالى - شفاءٌ للأسقامِ؛ لحديثِ ابنِ عباس مرفوعًا: ((خَيْرُ مَاءٍ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ مَاءُ زَمْزَمَ، وَفِيهِ طَعَامٌ مِنَ الطُّعْمِ، وَشِفَاءٌ مِنَ السُّقْمِ))، وَلهذا الماء المباركِ فضائلُ عديدةٌ تَرَكْتُها طلبًا للاختصارِ([16]).

وَقدْ حَفِظَ اللهُ - عز وجل - هذا الماءَ المبارك، فهوَ آيةٌ ظاهرةٌ على عظمةِ المولى - سبحانه وتعالى -، فلمْ ينضبْ عَبرَ هذه القرون، وَقدْ أُجريتْ عليه التحاليلُ الحديثةُ فَأَثْبَتَتْ نقاوتَه وَخُلوَّه مِنَ الشوائبِ([17]).

وَحقًّا مَا قاله ابنُ القيمِ: (مَاءُ زمزم سيدُ المياهِ وَأشرفُها وَأجلُّها قدرًا، وَأحبُّها إلى النفوسِ، وَأغلاها ثمنًا، وَأنفسُها عندَ الناسِ، وَهوَ هزمةُ جبريل، وَسُقْيَا اللهِ إسماعيلَ)([18]).

3.    الصفا والمروة:

          وَهُمَا جبلان بمكةَ، شرقي الكعبة، وَيُقْصَدَان للسعي بينهما في الحجِّ وَالعمرةِ، فهو أحدُ أركانِهما؛ قَالَ تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158].

          يقولُ الإمامُ الطبري - رحمهُ اللهُ - في تفسيرِه قولَه تعالى: {مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}: (منْ معالم اللهِ التِي جعلَها - جَلَّ ثناؤه - لعبادِه مَعْلَمًا وَمَشعرًا يعبدونَه عندها إمَّا بالدعاءِ، وَإمِّا بالذكرِ، وإما بأداءِ ما فَرَضَ عليهم مِنَ العملِ عندها ...)([19]).

4.    مِنى، عرفات، مزدلفة:

وهذه الأماكنُ الثلاثةُ مِنَ الأماكن المُعَظَّمةِ وَالمشاعر المُقَدَّسَةِ، التي تُقصدُ وَتُؤدى فيها شعائرُ الحجِّ.

أمَّا مِنَى: فإنَّها تُقصدُ أيامَ الحجِّ فقط لأداءِ ما يتعلقُ بها منْ أحكامِه؛ كالمبيتِ وَالرمي وَالذبحِ، وَقدْ ذكرَها اللهُ تعالى فقالَ: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [البقرة: 203].

وَيُقالُ: إنَّ منْ آياتِها أنها تتسعُ بأهلِها كمَا يتسعُ الرحمُ للولدِ([20]) وَاللهُ أعلم.

وسُميتْ بذلكَ لما يُمْنَى بها مِنَ الدماءِ؛ أي: يُراق، وَحَدُّهَا منْ مهبطِ العقبةِ إلى وادي محسر([21]).

أما عرفات: فتُقْصَدُ يومَ عرفة فقط، في اليومِ التاسعِ مِنْ شهرِ ذي الحجة، للوقوفِ فيها وَالذكرِ وَالدعاءِ، ويقفُ الحاجُّ عندَ الصخراتِ أسفلَ جبلِ إلال([22]) - إنْ تيسرَ له ذلك -، وإلَّا فعرفة كلها موقفٌ، وَلَا يُشرعُ صعودُ الجبلِ كَمَا يفعلُه كثيرٌ مِنَ الحُجَّاجِ، وَقَدْ وَرَدَ ذِكْرُ عرفات وَأُشِيرَ إلى مزدلفة في قولِه تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 198، 199].

روى البخاري عنْ عائشة - رضيَ اللهُ عنها - قالتْ: (كَانَ قُرَيْشٌ وَمَنْ دَانَ دِينَهَا يَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ الْحُمْسَ، وَكَانَ سَائِرُ الْعَرَبِ يَقِفُونَ بِعَرَفَةَ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ أَمَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْتِيَ عَرَفَاتٍ فَيَقِفَ بِهَا، ثُمَّ يُفِيضَ مِنْهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ})([23]).

أما المزدلفة: فتُقْصَدُ ليلةَ النحرِ بعدَ الانصرافِ مِنْ عرفات للمبيتِ بها، وذلكَ لذكرِ اللهِ تعالى وَالدعاءِ عندَ المشعرِ الحرام، وهوَ جبلٌ في وسطِ مزدلفة أُزِيلَ في العصرِ الحاضرِ للحاجةِ إلى التوسعةِ، وَأُقِيمَ مكانَه مسجدٌ؛ قَالَ تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة: 198].

وَحدودُ مزدلفة ما بينَ وادي محسر هذا، ومأزمي عرفة، وليسَ الحدَّانِ منها، وكُلُّها مِنَ الحرمِ([24]).

وَقَدْ وردَ ذكرُ هذه الأماكن الثلاثةِ فِي عدةِ أحاديث صحيحةٍ؛ منها: قولُه - صلى اللهُ عليه وسلم -: ((كُلُّ عرفة موقفٌ، وَكُلُّ مِنَى منحرٌ، وَكُلُّ مزدلفة موقفٌ، وَكُلُّ فِجاجِ مكةَ طريقٌ وَمنحرُ))([25]).

          هذه الأماكنُ التي دَلَّتْ النصوصُ الشرعيةُ الصحيحةُ على فضلِها وَتخصيصِها بالعبادةِ وِفْقَ شَرْعِ اللهِ تعالى، وهي أحرى الأماكن بالإجابةِ، وَقَدْ قَالَ الشوكاني - رحمهُ اللهُ - عنْ فضلِ الدعاءِ فِي هذه الأماكن ونحوِها: (في هذه المواضع المباركةِ مزيدُ اختصاصٍ، فقَدْ يكونُ مَا لها مِنَ الشرفِ وَالبركةِ مقتضيًا لِعَوْدِ بركتِها على الداعي فيها، وَفضلُ اللهِ واسعٌ، وَعطاؤه جَمٌّ، وَكَمَا فِي حديثِ: ((هُم القَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُم))، فجعلَ جليسَ أولئك القومِ مثلَهم مع أنَّه ليسَ منهم، وإنما عادتْ عليه بركتُهم فصارَ كواحدٍ منهم، فلا يبعد أنْ تكونَ المواضعُ المباركةُ هكذا، فيصير الكائنُ فيها الداعي لربِّه عندها مشمولًا بالبركةِ التي جعلَها اللهُ فيها، فلا يشقَى حيئنذٍ بعدم قبولِ دعائِه)([26]).

وقدْ صَنَّفَ أحدُ علماءِ مكةَ - وهو الشيخ/ محمد سعيد بن عثمان بن محمد شطا - كتابًا في مواطن إجابةِ الدعاءِ بمكةَ المكرمةِ، سمَّاهُ "مجموعُ الذخائر المكيةِ، في البقاعِ وَالمآثرِ الحَرَمِيةِ، لإجابةِ الأدعيةِ وَالأذكارِ الواردةِ فيها"([27]).

ويجدرُ التنبيهُ هنا إلى أمرين مهمين:

الأول: أنَّ هذه الأمكنة المُفَضَّلة التي سبقَ الحديثُ عنها، ينبغي أن لا يُعْبَدَ اللهَ عندَها إلا بما شرعَ مِنْ حيثُ أصلِ العبادةِ، وَمِنْ حيثُ صفتِها، فمثلًا مقامُ إبراهيمَ - عليه السلام - الذي بجوارِ الكعبة يصلي عنده ركعتين بعدَ الطوافِ، يقرأُ فِي الركعةِ الأولى بالفاتحة: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1]، وَفِي الثانيةِ بالفاتحة و{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1].

فأصلُ التعبدِ صلاةُ ركعتين، فلا يمسح المقامَ وَلَا يُقَبِّله وَلَا يتبرك بِه، بمعنى أنَّه لا يُتعبد اللهُ عنده بنوعٍ مِنَ العباداتِ غيرِ مَا وردَ، هذا منْ ناحيةِ أصلِ التعبدِ، وقدْ سبقَ إيرادُ بعضِ أقوالِ السلفِ فِي النهي عنْ مسحِ المقامِ وتقبيلِه.

أما منْ ناحيةِ وصفِ العبادةِ؛ فالذي وردَ أنها ركعتان بعدَ الطوافِ، ويُستحبُّ أنْ يقرأ في الأولى بعد الفاتحةِ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1]، وفي الثانية بعد الفاتحة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]([28]).

فلابدَّ مِنْ التقيدِ بالأصلِ وَالوصفِ الواردَين لكلِّ شعيرةٍ، وَهذَا هوَ الركنُ الثاني منْ أركانِ حُسْنِ العملِ وَقبولِه، فالأولُ الإخلاصُ للهِ، والثاني المتابعةُ للشرعِ وَعدمُ الابتداعِ([29]).

ومنْ أدلةِ الركنِ الأول قولُه تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 2، 3].

ومنْ أدلةِ الركنِ الثاني قولُه تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31].

وَقَالَ تعالى: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38].

وَقَالَ تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3].

وَقَولُه - صلى اللهُ عليه وسلم -: ((مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عليه أَمْرُنَا فَهُو رَدٌّ))([30]).

وَمِنْ أدلةِ الركنين معًا قولُه تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 112].

وَقولُه تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [النساء: 125].

فهذه الأمكنةُ المعظمةُ لابدَّ فيها مِنَ المتابعةِ وَعدمِ الابتداع ِعندَها بعباداتٍ لمْ يأذنْ بها اللهُ تعالى، وَالمتابعةُ الصادقةُ هيَ التي يكونُ العملُ فيها على وفقِ السنةِ في القصدِ وفِي صورةِ الفعلِ.

وقدْ ذكرَ بعضُ العلماءِ مِنَ الأمثلةِ الغريبةِ على ذلك: (مَا يفعلُه بعضُهم فِي الحرمِ المكي، وهو أنهم يأتونَ إلى موضعٍ هناكَ يسمونه "سُرَّة الدنيا"!! فمنْ لمْ يكشفْ عنْ سُرَّتِه وَيضعُها عليه وإلًّا وقعَ في زيارتِه الخللُ على زعمِهم)([31])، وهذا غيرُ موجودٍ فِي زمانِنا وللهِ الحمد، ولكنِّي ذكرتُه على سبيلِ التمثيلِ.

وَالمقصودُ هوَ الاتباعُ لا الابتداعُ، وَقَدْ طَبَّقَ السلفُ الصالحُ هذا المنهجَ فِي التعاملِ معَ الأمكنةِ، فما عَمِلَهُ - صلى اللهُ عليه وسلم - عملُوه، وَمَا تركَه تركوه.

ومنَ الشواهد على ذلكَ ما وردَ أنَّ ابنَ عباسٍ وَمعاوية - رضيَ اللهُ عنهما - طافا بالبيتِ، فاستلمَ معاويةُ الأركانَ الأربعةَ فقالَ ابنُ عباسٍ: (إنَّ رسولَ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم - لمْ يستلمْ إلا الركنين اليمانيين!! فقالَ معاويةُ: ليسَ منَ البيتِ شيءٌ متروكٌ، فقالَ ابنُ عباس: لقدْ كانَ لكُمْ فِي رسولِ اللهِ أسوةٌ حسنةٌ))؛ فرجع إليه معاوية)([32]).

وَمِنَ الشواهد أيضًا: تركُ السلفِ صلاةَ ركعتين على المروة بعدَ الفراغِ مِنَ السعي، وقدْ ذهبَ إلى استحبابِ ذلكَ بعضُ الفقهاءِ قياسًا على الصلاةِ بعدَ الطوافِ، قَالَ الشافعي - رحمهُ اللهُ -: (ليسَ في الطوافِ بينَ الصفا وَالمروةِ صلاةٌ)([33]).

قَالَ ابنُ تيمية - رحمهُ اللهُ -: (وَقَدْ أنكرَ ذلكَ سائرُ العلماءِ مِنْ أصحابِ الشافعي وَسائرِ الطوائف، وَرأوا أنَّ هذه بدعةٌ ظاهرةُ القبِح، فإنَّ السنةَ مضتْ بِأَنَّ النبيَّ - صلى اللهُ عليه وسلم - وَخلفاؤُه طافُوا وَصلوا كمَا ذكرَ اللهُ الطوافَ وَالصلاةَ، ثُمَّ سعوا وَصَلُّوا عقبَ السعي، فاستحبابُ الصلاةِ عقبَ السعي كاستحبابِها عندَ الجمراتِ، أوْ بالموقفِ بعرفات، أو جعلِ الفجرِ أربعًا قياسًا على الظهرِ، وَالتركُ الراتبُ سنةٌ، كما أنَّ الفعلَ الراتبَ سنةٌ)([34]).

الثاني: أن هذه الأمكنةَ المفضلةَ اختُصَّتْ بعباداتٍ، فلا يشرعُ أنْ يُقاسَ بها غيرُها، يقولُ ابنُ تيمية - رحمهُ اللهُ -: (لا نزاعَ بينَ المسلمين أنَّ المشاعر خُصَّتْ منَ العباداتِ بما لا يشركُها فيها سائرُ البقاعِ، كمَا خُصَّ البيتُ بالطوافِ، فمَا خُصَّتْ بِهِ تلكَ البقاعُ لا يُقاسُ بها غيرُها، وَمَا لمْ يشرعْ فيها فأولى أنْ لا يُشرعَ في غيرِهَا)([35]).

(وَليسَ لأحدٍ أنْ يُشَرِّعَ مَا لمْ يُشَرِّعْهُ اللهُ، كمَا لوْ قالَ قائلٌ: أنَا أَسْتَحِبُّ الطوافَ بالصخرةِ سبعًا كَمَا يُطافُ بالكعبةِ، أوْ أَسْتَحِبُّ أنْ أتخِذَ منْ مقامِ موسى وعيسى مُصَلَّى كَمَا أمرَ اللهُ أنْ يُتَّخَذَ مِنْ مقامِ إبراهيمَ مُصلى، وَنحو ذلكَ لم يكنْ له ذلك.

لأنَّ اللهَ يختصُّ مَا يختصُّه مِنَ الأعيانِ وَالأفعالِ بأحكامٍ تخصُّه يمتنعُ معها قياسُ غيرِه عليه، إمَّا لمعنى يختصُّ بِهِ لا يوجدُ بغيرِه على قولِ أكثرِ أهلِ العلمِ، وإمَّا لمحضِ تخصيصِ المشيئةِ على قولِ بعضِهم، كمَا خصَّ الكعبةَ بِأَنْ يُحَجَّ إليها وَيُطافَ بها، وكما خَصَّ عرفات بالوقوفِ بها، وكمَا خَصَّ مِنَى برمي الجمارِ بها، وكمَا خَصَّ الأشهرَ الحُرُم بتحريمِها، وَكما خَصَّ شهرَ رمضانَ بصيامِه وَقيامِه ... إلى أمثالِ ذلك)([36]).

 



([1]) انظر: البلد الحرام فضائل وأحكام، إعداد كلية الدعوة وأصول الدين بجامعة أم القرى، ص(49).

([2]) انظر: الصحاح، الجوهري، ولسان العرب، ابن منظور، (ش ع ر).

([3]) انظر: شفاء الغرام، الفاسي، (1/203)، وفضل الحجر الأسود ومقام إبراهيم، سائد بكداش، ص(91).

([4]) انظر هذه الأحاديث وتخريجها في: فضائل مكة الواردة في السنة، الغبان، (2/684-694، 738-739).

([5]) تفسير الطبري، (5/601).

([6]) من حديث طويل رواه مسلم، (1218).

([7]) أخبار مكة، الفاكهي، (1/457)، مصنف ابن أبي شيبة، (4/61)، مصنف عبد الرزاق، (5/49).

([8]) أخبار مكة، الفكاهي، (1/458)، مصنف عبد الرزاق، (5/49).

([9]) تفسير الطبري، (2/527)، وأخبار مكة، الأزرقي، (2/29).

([10]) الإيضاح في مناسج الحج، النووي، ص(133).

([11]) اقتضاء الصراط المستقيم، ابن تيمية، (2/799).

([12]) الحديث في صحيح البخاري، (3/492).

([13]) رواه الطبراني في الكبير، (11/98)، وقال المنذري في الترغيب والترهيب، (209/2): (رواه الطبراني في الكبير، ورواته ثقات، وابن حبان في صحيحه).

([14]) رواه مسلم، (4/1919).

([15]) النهاية، ابن الأثير، (3/125)، وانظر: كلام الإمام ابن القيم في زاد المعاد، (4/393).

([16]) وللمزيد من الاطلاع انظر: أخبار مكة، الأزرقي، (2/59)، وإعلام الساجد، الزركشي، ص(206).

([17]) انظر: زمزم طعام طعم وشفاء سقم، المهندس يحيى كوشك، ص(109).

([18]) زاد المعاد، ابن القيم، (4/392).

([19]) تفسير الطبري، (2/710).

([20]) انظر: أخبار مكة، الأزرقي، (2/179)، إعلام الساجد، الزركشي، ص(70)، وفضائل مكة الواردة في السنة، الغبان، (2/921)، وفيه حديث مرفوع ضعيف.

([21]) معجم البلدان، ياقوت الحموي، (5/198، 199) باختصار.

([22]) انظر في صحة تسميته بهذا الاسم وخطأ التسمية بـ"جبل الرحمة" في: جبل إلال بعرفات تحقيقات شرعية وتاريخية، العلامة بكر أبو زيد، ص(16-29).

([23]) رواه البخاري، (8/186).

([24]) معجم البلدان، ياقوت الحموي، (5/198)، المجموع، النووي، (8/122).

([25]) رواه أبو داود، (1936)، بإسناد صحيح، وابن ماجه، (3048).

([26]) تحفة الذاكرين، الشوكاني، ص(44)، باختصار، وانظر إعلام الساجد، الزركشي، ص(110).

([27]) طُبِعَ الكتاب بتحقيق: د.عبد الله نذير أحمد، وقد تضمن أحاديث ضعيفة، ويُحمد له أنه لم يذكر إلا الأمكنة الواردة تعظيمُها في النصوص الشرعية.

([28]) انظر:فتاوى ابن تيمية، (26/127).

([29]) انظر: مجموعة التوحيد، محمد بن عبد الوهاب، (2/476).

([30]) الحديث رواه مسلم، (2/257-258).

([31]) صلة الناسك في صفة المناسك، ابن الصلاح، ص(127)، والمدخل، ابن الحاج، (4/243)، والإبدع في مضار الابتداع، علي محفوظ، ص(305)، معجم البدع، رائد بن صبري بن أبي علفة، ص(283).

([32]) رواه الترمذي، (3/213)، وأحمد في مسنده، (1/217)، وقال الترمذي: (حسن صحيح).

([33]) صلة الناسك في صفة المناسك، ابن الصلاح، ص(138)، وقال ابن الصلاح بأنه "ابتداع شعار".

([34]) مجموع فتاوى ابن تيمية، ص(26-171-172).

([35]) اقتضاء الصراط المستقيم، ابن تيمية، (2/809-810).

([36]) مجموع فتاوى ابن تيمية، (4/482).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
التعظيمُ المشروعُ للأماكن بمكةَ المكرمةِ 2.doc doc
التعظيمُ المشروعُ للأماكن بمكةَ المكرمةِ 2.pdf pdf

ذات صلة

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى