الحمدُ للهِ وَالصلاةُ وَالسلامُ على رسولِ اللهِ وَآلِه وَصحبِه وَمَنْ وَالَاه وَبَعد.. أَورَدَ الإمامُ ابنُ القيمِ - رحمه اللهُ - فِي حديثِه عَنْ المحاسبةِ وصفًا للطريقةِ التِي ينبغي للمسلمِ أَنْ يسلكَها فِي محاسبةِ نفسِه وَالتدقيقِ على أعمالِه؛ فقَالَ: (وَجِمَاعُ ذَلِكَ أَنْ يُحَاسِبَ نَفْسَه أولاً عَلَى الْفَرَائِضِ، فَإِذَا تَذَكَّرَ فِيهَا نَقْصًا تَدَارَكَهُ إِما بِقَصَاءٍ أَوْ إِصْلاحٍ، ثُمَّ يُحَاسِبُ عَلَى الْمَنَاهِي، فَإنْ عَرَفَ أَنَّهُ ارْتَكَبَ مِنْهَا شَيْئًا تَدَارَكَهُ بالتَّوْبَةِ والاسْتِغْفَارِ والْحسناتِ الْمَاحِيةِ، ثُمَّ يُحَاسِبُ نَفْسَه على الْغَفْلَةِ فإن كَانَ قَدْ غَفَلَ عَمَّا خُلِقَ لَهُ تَدَارَكَهُ بالذِّكْرِ والإِقْبَالِ على الله.
ثُمَّ يُحَاسِبُهَا بِمَا تَكَلَّمَ به لِسَانُهُ أَوْ مَشَتْ بِهِ رِجْلاهُ أَوْ بَطَشَتْهُ يَدَاهُ أَوْ سَمِعَتْهُ أُذْنَاهُ مَاذَا أَرَدْتَ بِهَذَا؟ وَلِمَ فَعَلْتُ؟ وَعَلَى أَيْ وَجْهٍ فَعَلْتُهُ؟ وَيَعْلَمُ أنَّه لابد أَنْ يُنْشَرَ لِكلَّ حَرَكةٍ وَكَلِمَةٍ مِنْه دِيوانٌ لِمَ فَعَلْتَهُ؟ وَكَيْفَ فَعَلْتَهُ؟ فَالأوَّلُ: سُؤالٌ عَنْ الإِخْلاصِ، والثَّانِي: سُؤالٌ عَنْ الْمُتَابَعَةِ)([1]).
فالمحاسبةُ تشملُ حياةَ المسلمِ، وَكُلَّ صغيرةٍ وَكبيرةٍ يعملُها أَوْ يتركُها أوْ يعزمُ عليها فِي قَلْبِه، وَكُلَّمَا أحكمَ العبدُ رقابتَه على نفسِه كَانَ أكثرَ سلامةً مِنْ شُرورِها.
وَيُمْكِنُ تقسيمَ مجالاتِ محاسبةِ النفسِ إلى الأقسامِ التاليةِ:
1- المحاسبةُ على المعاصي الظاهرةِ وَالباطنةِ: وَهوَ أولُ ما ينبغي أنْ يبادرَ إليه المبتدئُ فِي طريقِ التزكيةِ، وَقَدْ وَرَدَ الأمرُ بذلكَ فِي آياتٍ كثيرةٍ مِنْ كتابِ اللهِ تعالى؛ وَمِنْهَا قولُه تعالى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 120].
وَيشملُ ظاهرُ الإثمِ وَباطنُه كُلَّ معصيةٍ صغيرةٍ أَوْ كبيرةٍ، ظاهرةٍ أوْ خفيةٍ، كما تشملُ معاصي القلبِ مِنْ حسدٍ وَحِقْدٍ وَسُوءِ ظَنٍّ وَاحتقارٍ للمسلمٍ وَنحو ذلك، وَلا تتحققُ للمرءِ التوبةُ مِنْ هذِه المعاصي إلا بالندمِ على فِعْلِها وَمحاسبةِ نفسِه وَمعاتبتِها وَالإقلاعِ عنها وَالعزمِ على أنْ لا يعودَ إليها.
وَليعلَم المسلمُ أَنَّ طريقَه فِي محاسبةِ نفسِه على هذه المعاصي أَنْ يذكرَها بأخطارِها المُهلكةِ وَعواقبِها الخطيرةِ فِي الدنيا وَالآخرةِ، فهي أشدُّ خطرًا مِنَ السمومِ فكيفَ يميلُ إليها وَيرغبُ فيها؟!
وَهَلْ رأيتَ مَنْ يأتي بالأفاعي وَالعقاربِ فيربيها فِي دارِه وَيتركُها طليقةً تَفْتِكُ بِهِ وَتَقْتُلُه؟!
ثُمَّ لِيَعْلَم أَنَّ هذه الجوارحَ وَالأعضاءَ أمانةٌ لديه، سَيُسْأَلُ عنها يومَ القيامةِ، فَإِنْ لَمْ يحفظْها أهلكتْه؛ قَالَ تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].
وَلَاشكَّ أَنَّ تَرْكَ الفرائض وَالتهاونَ فيها مِنْ أخطرِ المعاصي، فيجبُ على المسلمِ أنْ يحاسبَ نفسَه على أدائِه للفرائض وَإتقانِه لها.
وَلْيَتَذَكَّرْ العبدُ وَهوَ يحاسبُ نفسَه كيفَ يحاسبُ الشريكُ شريكَه إذَا كانَ لا يأمنُ لَهُ وَيَخْشَى مِنْ خيانتِه.
وَفِي ذلكَ يقولُ الإمامُ ابنُ القيم - رحمه اللهُ -: (وَقَدْ مُثلتِّ النَّفسُ معَ صَاحِبهَا في الْمَالِ، وَكَمَا أنَّهُ لا يَتِمُّ مقْصُودُ الشّرِكَةِ من الرّبْحِ إلا بالْمُشَارَطَةِ عَلى مَا يَفْعلُ الشَّريكُ أَولاً ثُُمّ بِمطالعَةِ مَا يَعمَلُ والإِشْرَافُ عَلَيْهِ وَمُراقَبتِهِ ثَانيًا، ثُمَّ بِمحَاسَبتهِ ثَالثًا، ثُمّ بِمنْعِهِ مِنَ الْخِيانَةِ أنْ اطّلعَ عَلَيْهَا رَابعًا، فَكذلكَ النّفسُ يُشارِطُها أَوَّلاً على حِفظِ الْجَوارِحِ السَّبعَةِ الَّتِي حِفظُهَا هوَ رأسُ الْمَال والرِّبْحُ بَعدَ ذَلِكَ فَمَنْ لَيْسَ لَهُ رَأسُ مَالٍ كَيْفَ يَطْمَعُ في الرِّبْحِ؟
وَهَذِهِ الْجَوارِحُ السَّبْعةُ هِيَ: الَعْينُ، والأُذُنُ، والفَمْ، واللِّسَانُ، والفَرْجُ، واليَدُ، والرِّجْلُ هِيَ مَرْكَبُ العَطَبِ والنَّجَاةِ، فَمِنْهَا عَطِبَ مَنْ عَطِبَ بإهْمَالِهَا وَعَدَمِ حِفْظَها، وَنَجَا مَنْ نَجَا بِحِفْظِهَا وَمُرَاعَاتِهَا فَحَفِظُهَا أَسَاسُ كلِّ خَيرٍ، وَإهْمَالُها أَسَاسُ كَلِّ شَرٍّ.
فإذا شارطَهَا على حِفظِ هَذِهِ الْجَوارِحِ وانتَقَل مِنْهَا إِلى مُطَالَعتها والإِشْرَافِ عَلَيْهَا وَمُراقبَتِهَا فَلا يُهُملها فإنّه إنْ أَهْمَلهَا لَحْظَةً وَقَعتْ في الْخِيَانةُ ولابد فَإنْ تَمادَى على الإِهْمَالِ تَمَادَتْ فِي الْخِيانَةِ حَتَّى يَذْهَبَ رَأسُ الْمَالِ كُلِّهِ.
فَمَتى أَحَسَّ بالْخُسْرَانِ وَتَيَقّنهُ اسْتَدْرَكَ مِنْهَا مَا يَسْتَدْرُكُه الشَّرِيكُ مِنْ شَريكِهِ مِن الرُّجُوع عَلَيْهِ بِمَا مَضَى والقِيَام بالْحِفْظ والْمُرَاقَبةِ في الْمُسْتَقْبَلِ وَلا مَطْمَع لَهُ فِي فَسْخِ هذِهِ الشِّرِكَةِ مَعَ هذا الْخَائِنِ فَليَجْتهدْ في مُراقَبتهِ وَمُحَاسَبَتهِ وَلِيَحْذَرْ مِنْ إهْمَالِهِ)([2]).
وَنستخلصُ مِنْ هذَا القولِ القيمِ أَنَّ المسلمَ لا يستغني عَنْ المحاسبةِ بحالٍ مِنَ الأحوالِ، وَكُلَّمَا كانتْ نفسُه أمارةً بالسوءِ مُصْغيَةً لوساوس الشيطانِ، كانَ أكثرَ احتياجًا للمحاسبةِ ليأمنَ مَكْرَها وَخيانَتَهَا، وَعَليه أَنْ يحاسبَها وَهوَ خائفٌ حزينٌ مُنْكَسِرُ القلبِ على مَا فَرَّطَ فِي جَنْبِ اللهِ، فَإِنْ فَعَلَ ذلكَ وَكانتْ محاسبتُه صادقةً أَبْدَلَهُ اللهُ بالحزنِ فَرَحًا وَالذلِّ عِزًّا.
وَقَدْ وَصَفَ عبدُ اللهِ بن مسعود حالَ المؤمنِ الصادقِ فِي خشيتِه مِنْ ذنوبِه وَخوفِه منها؛ فقَالَ: (إِنَّ المؤمنَ يرى ذنوبَه كأنَّه قاعدٌ تحتَ جَبَلٍ يخافُ أَنْ يَقَعَ عليه، وَإِنَّ الفاجرَ يرى ذنوبَه كذُبَابٍ مَرَّ على أنفِه فَقَالَ بِهِ هَكَذَا)([3]).
2- المحاسبةُ على النيةِ وَالقصدِ: لا يتقبلُ اللهُ سبحانه مِنَ العملِ إلَّا مَا كانَ خالصًا لَهُ، فالإخلاصُ أساسُ قبولِ الأعمالِ؛ قَالَ تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5].
وَقَدْ سَبَقَ الحديثُ عَنْ الإخلاصِ مِرَارًا فِي الفصولِ الماضيةِ، وَلَكنَّ المقصودَ هنا التنبيهُ على ضرورةِ محاسبةِ النفسِ على النيةِ وَالقصدِ الذي دَفَعَهَا إلى ذلكَ العملِ، وَهذِه المحاسبةُ لَابُدَّ مِنها لِيَسْلَمَ المسلمُ مِنَ الرياءِ المُحْبِطِ للأعمالِ، وَالرياءُ قَدْ يسبقُ العملَ وَقَدْ يصاحبُه وَقَدْ يأتي نتيجةً وَثَمَرَةً لَهُ.
فَقَدْ يُصَلِي العبدُ ركعتين بخشوعٍ وَتَضَرُّعٍ فَإِذَا فَرَغَ منها لاحظَ نَظَرَ الناسِ إليه وَإعجابَهم بصلاتِه فأُصِيبَ بالغرورِ، وَأَرْخَى لنفسِه العنانَ لتسترسلَ فِي آفةِ الغرورِ وَالرضا عَنْ النفسِ دونَ أَنْ يضبطَها بالمحاسبةِ وَالمعاتبةِ.
لذلكَ كانتْ المحاسبةُ فِي هذا المجالِ شاملةً لثلاثةِ أنواعٍ: قَبْلَ العملِ، وَأثناءَه، وبعدَه، وقدْ وَصَفَ الإمامُ ابنُ القيمِ أولَ همِّه وَإرادتِه، وَلَا يبادرُ بالعملِ حتَّى يتبينَ لَهُ رجحانُه على تركِه([4]).
ثُمَّ أَورَدَ قولَ الحسن البصري - رحمهُ الله -: (رَحِمَ اللهُ عَبْدًا وَقَفَ عِنْدَ هَمِّهِ، فَإِنْ كَانَ للهِ مَضَى، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ تَأَخَّر)([5]).
وَأمَّا المحاسبةُ أثناءَ العملِ وَبعدَه فهيَ حراسةُ العملِ مِنْ آفةِ الرياءِ المُهْلِكَةِ التِي تنشأُ مِنْ أنانيةِ النفسِ وَحُبِّ المباهاةِ، وَسَبَبُ ذلكَ الغفلةُ عَنْ مراقبةِ اللهِ سبحانه، وَعدمُ الصبرِ على طاعتِه.
وَقَدْ حَذَّرَ المولى عبادَه مِنْ تلكَ الآفةِ التِي تُبْطِلُ الأعمالَ؛ فَقَالَ تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33].
وَقَالَ سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} [البقرة: 264].
وَلِهَذَا كانَ السلفُ الصالحُ - رحمهم اللهُ - يحاسبونَ أنفسَهم بشدةٍ على أقوالِهم وَأفعالِهم مخافةَ الرياءِ وَالمباهاةِ، وَمِنْ ذلكَ قولُ عمرَ بنِ عبد العزيز - رحمه اللهُ -: (إنَّه ليمنعُنِي مِنْ كَثيرٍ مِنَ الكلامِ مخافةُ المباهاةِ)([6]).
وَهكذَا ينبغي على العبدِ أَنْ يطاردَ مقاصدَ الرياءِ المتسللةِ إلى القلبِ، وَأَنْ يحاسبَ نفسَه على النيةِ الباعثةِ لكلِّ عملٍ وَالمُصَاحِبَةِ لها حتَّى تكونَ خالصةً للهِ وحدَه.
وَلِيَضَع نُصْبَ عينيه قولَ الحقِّ سبحانه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20].
3- المحاسبةُ على تفويتِ الطاعاتِ وَتضيعِ الأوقاتِ: الغفلةُ داءٌ عضالٌ يجبُ الحذرُ مِنْهُ وَالمسارعةُ إلى علاجِه، لكي يتيقظَ قَلْبُ المسلمِ وَيبادرَ إلى اغتنامِ أوقاتِه فِي مرضاةِ ربِّه؛ وَلذلك لابدَّ مِنْ محاسبةِ النفسِ على ضياعِ الأوقاتِ وَتفويتِ الطاعات، وَقَدْ صَرَّحَتْ الأحاديثُ النبويةُ بوجوبِ حفظِ أوقاتِ المسلمِ مِنَ الضياعِ وَأنَّهُ سَيُسْأَل عَنْ ذلكَ يومَ القيامةِ.
عَنْ أبِي بزرة نضلة بن عبيد الأسلمي - رضيَ اللهُ عنه - قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم -: (لَا تَزُول قَدَمَا عَبْدٍ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فيمَا أَفْنَاه؟ وَعَنْ عِلْمِه فِيمَ فَعَلَ فِيه؟ وَعَنْ مالِه مِنْ أينَ اكتسبَه وَفِيمَ أَنْفَقَهُ؟ وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أبلَاه؟!)([7]).
يقولُ الإمامُ ابنُ القيمِ - رحمه اللهُ -: (إنَّ الغافلَ عَنْ الاستعدادِ للقاءِ رَبِّه وَالتزودِ لِمَعَادِه بمنزلةِ النائمِ بَلْ أسوأُ حالًا مِنْهُ، فَإِنَّ العاقلَ يعلمُ وَعْدَ اللهِ وَوَعِيدَه، لَكِنْ يحجُبُهُ عَنْ حقيقةِ الإدراكِ وَيُقْعِدُه عَنْ الاستدراكِ سِنَةُ القَلْبِ، وَهيَ غفلتُه التِي رَقَدَ فيهَا فَطَالَ رقودُه.
وَانْغَمَسَ فِي غمارِ الشهواتِ، وَاستولتْ عليه العاداتُ، وَمخالطةُ أهلِ البطالاتِ، وَرضيَ بالتشبهِ بأهلِ إضاعةِ الأوقاتِ، فهوَ فِي رُقَادِه مَعَ النائمين، فَمَتَى انكشفَ عَنْ قلبِه سِنَةُ هذِه الغفلةِ بزجرةٍ مِنْ زواجرَ الحقِّ فِي قلبِه، استجاَب فيهَا لواعظِ اللهِ فِي قلبِ عبدِه المؤمنِ، وَرَأَى سرعةَ انقضاءِ الدنيا، فنهَضَ فِي ذلكَ الضوءِ على ساقِ عَزْمِهِ قائلًا: {يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56]، فاستَقْبَلَ بقيةَ عمرِه مُسْتَدْرِكًا بِهِ مَا فَات، مُحْيِيًا بِهَا ما تَقَدَّمَ لَهُ مِنَ العثراتِ.
ثُم يبرقُ لَهُ فِي نورِ اليقظةِ بارقةٌ أخرى يرَى فِي ضوئِها عيوبَ نفسِه وَآفاتِ عملِه، وَمَا تقدَّمَ لَهُ مِنَ الخباياتِ وَالإساءاتِ، وَهَتْكِ الحُرُمَاتِ، وَالتقاعدِ عَنْ كثيرٍ مِنَ الحقوقِ وَالواجباتِ، فَإِذَا انضمَّ ذلكَ إلى شهودِ نِعَمِ اللهِ عليه وَأيادِيه لديه؛ رأى أَنَّ حَقَّ المُنْعِمِ عليه فِي نِعَمِهِ وَأمره لَمْ يبقَ لَهُ حسنةٌ واحدةٌ يرفعُ بِهَا رأسَه، وَانكسرتْ نفسُه وَخَشَعَتْ جوارحُهُ.
ثُمَّ تبرقُ لَهُ بارقةٌ أخرى يرَى في ضوئِها عزَّةَ وقتِه وَخَطَرَهُ وَشَرَفَهُ، وَأَنَّه رأسٌ مالِ سعادتِه، فيبخل بِه أَنْ يضيعَه فيمَا لا يُقَرِّبَه إلى رَبِّهِ، فَإِنَّ فِي إضاعتِه الخسرانَ وَالحسرةَ وَالندامةَ، وَفِي حفظِه وَعِمَارَتِه الربحُ وَالسعادةُ، فَيَشِحَّ بأنفاسِه أَنْ يضيعَها فيمَا لا ينفعُه يومَ معادِه.
ثُمَّ يلحظُ فِي ضوءِ تلكَ البارقةِ مَا تقتضيه يقظتُه مِنْ سِنَةِ غفلتِه، مِنَ التوبةِ وَالمخاسبةِ وَالمراقبةِ وَالغيرةِ لربِّه أَنْ يؤثِّرَ عليه غيرُه.
فَهَذَا كُلُّه مِنْ آثارِ اليقظةِ وُموجباتِها، وَهيَ أولُ منازل النفسِ المطمئنةِ)([8]).
وَبِهَذَا يتبين للمسلمِ أهميةُ محاسبةِ النفسِ على ما ضَيَّعَتْ مِنْ أوقاتٍ، وَكَيْفَ يكونُ إيقاظُ النفسِ وَشَدُّ هِمَّتِها لاغتنامِ الأوقاتِ، فالوقتُ هوَ الحياةُ، وَمَا أحسن قولَ الشاعر:
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَزْرَعْ وَأَلْفَيْتَ حَاصِدًا نَدِمْتَ عَلَى التَّفْرِيطِ فِي زَمَنِ البَذْرِ
وَيوضحُ الإمامُ الغزالي طريقةَ محاسبةِ النفسِ على تضييعِ الأوقاتِ وَالغفلةِ عَنْ الطاعاتِ؛ فيقول: (إِذَا أَصْبَحَ العبدُ، وَفَرَغَ مِنْ فريضةِ الصُّبْحِ، ينبغي لَهُ أَنْ يُفْرِغَ قَلْبَهُ ساعةً لمشارطةِ النفسِ فيقولَ للنفسِ: مَا لِي بضاعةٌ إلا العُمُر، وَمَتَى فَنِيَ فَقَدْ فَنِيَ رأسُ المالِ، وَهذَا اليومُ الجديدُ قَدْ أَمْهَلَنِي اللهُ فِيه، وَلَوْ توفانِي لكنتُ أتمنى أنْ يُرْجِعَنِي إلى الدنيا يومًا واحدًا حتَّى أعملَ فيه صالحًا، فاحسَبِي أنَّكِ قَدْ توفيتِ ثُمَّ رُدِدِّتِ، فإياكِ ثُمَّ إياكِ أَنْ تُضَيِّعِي هذا اليوم، فَإِنَّ كُلَّ نفسٍ مِنَ الأنفاسِ جوهرةٌ)([9]).
وَالواقعُ أَنَّ الإنسانَ يرغبُ فيمَا يُحِبُّ، وَيُسَارِعُ إلَى مَا يهفو قلبُه إليه، فَإِنْ كانَ قلبُه متعلقًا بالدنيا؛ أَلْفَيتَهُ سابقًا إلى أعمالِها وَأموالِها، بطيئًا عَنْ طاعةٍ رَبِّهِ، وَإذَا تعلَّقَ قلبُه باللهِ سبحانه وَخَلَّصَهُ ممَّا يشغلُ عنه كانتْ هِمَّتُهُ إلى الطاعاتِ كبيرةً وَغَفَلَاتُه عَنْ اللهِ قليلةً.
وَلِذلكَ ينبغي أَنْ تكونَ محاسبةُ العبدِ لنفسِه فِي هذا المجالِ ميزانًا يَعْرِفُ بِهِ مستوى الإيمانِ فِي قلبِه فيسارعَ إلى تغذيةِ شجرةِ الإيمانِ لِتُثْمِرَ المسارعةَ إلى الأعمالِ الصالحةِ.
4- المحاسبةُ علَى النِّعَمِ: أَخْبَرَ اللهُ سبحانه بِأَنَّ العبدَ سَيُسْأَل يومَ القيامةِ عَنْ شُكْرِ مَا أُنْعِمَ بِه عليه مِنَ النِّعَمِ؛ فَقَالَ تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8].
وَلَاشَكَّ أَنَّ نِعَمَ اللهِ على عبادِه لا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى، وَأبرزُها نعمةُ الأمنِ وَالصحةِ وَالرزقِ وَالفراغِ وَالأولادِ وَالذريةِ وَنحو ذلكَ؛ قَالَ تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34].
وَلذلكَ ينبغي على المسلمِ أَنْ يستشعرَ نِعَمِ اللهِ، وَيحاسِب نفسَه على القيامِ بِشُكْرِهَا وَيعاتب تلكَ النفسَ إذَا تهاونَتْ فِي شَيءٍ مِنَ النِّعَمِ أَوْ استَقَلَّتْ بشأنِه.
قَالَ الإمامُ ابنُ القيمِ - رحمهُ اللهُ -: (وَالنعيمُ المسئولُ عَنْهُ نوعان: نوعٌ أُخِذَ مِنْ حِلِّهِ وَصُرِفَ فِي حَقِّهِ، فيُسْأَل عَنْ شُكْرِهِ، وَنَوْعٌ أُخِذَ بِغَيرِ حِلِّهِ وَصُرِفَ فِي غَيْرِ حَقِّهِ، فَيُسْأَل عَنْ مُسْتَخْرَجِهِ وَمَصْرَفِه فَإِذَا كَانَ العبدُ مسؤولًا وَمُحَاسبًا علَى كُلِّ شيءٍ، حتَّى على سمعِه وَبصرِه وَقلبِه، فهوَ حقيقٌ أَنْ يُحَاسِبَ نفسَه قَبْلَ أَنْ يُنَاقَشَ الحسابَ)([10]).
وَقَالَ أيضًا مُبينًا مجالاتِ محاسبةِ النفسِ على النِّعَمِ وَعبوديةَ العبدِ تجاهها: (وَأمَّا عبوديةُ النِّعَمِ فمعرفتُها وَالاعترافُ بِهَا أولًا، ثُمَّ العياذُ بِهِ سبحانه أَنْ يقعَ فِي قلبِه نسبتُها وَإضافتُها إلى سواه، وَإِنْ كانَ سببًا مِنَ الأسبابِ فهوَ مُسَبِّبُهُ وَمُقِيمُهُ، فالنعمةُ مِنْهُ وَحده بِكُلِّ وجهٍ وَاعتبارٍ، ثُمَّ الثناءُ بِهَا عليه وَمحبتُه عليها، وَشُكْرُه بِأَنْ يستعملَها فِي طاعتِه، وَمِنْ لطائف التعبُّدِ بالنعمِ أنْ يستكثرَ قليلَها عليه، وَيستقل كثيرَ شكرِه عليها)([11]).
كَمَا بَيَّنَ - رحمهُ اللهُ - أَنَّ على العبدِ أَنْ يقايسَ بَيْنَ نعمةِ اللهِ عليه وَبيْنَ مَا يقعُ فيه مِنَ المعاصي، فحيئذٍ يظهرُ له التفواتُ، وَيعلم أنَّه ليسَ لَهُ إلا عفوُ اللهِ ورحمتُه، فيعاتبَ نفسَه وَيتوبَ إلى رَبِّهِ([12]).
الهوامش:
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.