الحمدُ للهِ والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ وآلِه وصحبِه ومنْ وَالَاه وبعد ... محاسبةُ النفسِ تعني النظرَ والتأملَ فيما عَمِلَ المسلمُ مِنْ أعمالٍ، وَمَا قَدَّمَ مِنْ خيرٍ أوْ شرٍّ، مع النظرِ في النيةِ والقصدِ وحسابِ الربحِ والخسائر فيما كان منه، وليكونَ إعدادًا لما يَسْتِقْبِلُ مِنْ أيامِه بعزمٍ جديدٍ على الاستقامةِ، وبهذا تشملُ المحاسبةُ الماضي والحاضرَ والمستقبلَ، وإنْ كانتْ في ظاهرِها لا تشملُ إلا الماضي والحاضرَ فقط.
الأدلةُ على ضرورةِ المحاسبةِ لكلِّ مسلمٍ:
لابدَّ لكلِّ مسلمٍ أنْ يكونَ له موقفٌ مع نفسِه يحاسبُها ويعاتبُها؛ ليأمنَ شرَّها ويتحملَ في قيادتِها، وقدْ وَرَدَتْ أدلةٌ كثيرةٌ منَ الكتابِ والسنةِ وأقوالِ الصحابةِ والسلفِ الصالحِ في التأكيدِ على محاسبةِ النفسِ، وبيانِ أهميتِها وآثارِها النافعةِ في التزكيةِ، ومنْ هذهِ الأدلةُ:
1- قولُه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ} [الحشر: 18].
قالَ الإمامُ ابنُ القيمِ: (هذه الآيةُ تدلُّ على وجوبِ محاسبةِ النفسِ)([1]).
وقالَ الإمامُ ابنُ كثير في تفسيرِه لهذِه الآيةِ: {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} أي: (حاسِبُوا أنفسَكم قَبْلَ أنْ تُحَاسَبُوا وَانظُرُوا ماذا ادَّخَرْتُم لِأنفسِكم مِنَ الأعمالِ الصالحةِ ليومِ معادِكم وعرضِكم على ربِّكم ... وَاعلمُوا أنَّه عَالِمٌ بجميعِ أعمالِكم وأحوالِكم، لا تخفى عليه منكمْ خافيةٌ)([2]).
2- وَقالَ تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ } [القيامة: 1-2].
قالَ مجاهد: (اللوامةُ هي التي تندمُ على ما فَاتَ وتلومُ نفسَها)([3])، وَقَدْ أقسمَ اللهُ بها وذكرَها معَ يومِ القيامةِ دلالةً على شرفِها ومنزلتِها، وبيانًا لضرورةِ المحاسبةِ وأهميتِها.
3- وَقالَ تعالى: { بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ } [القيامة: 14-15].
فالإنسانُ بصيرٌ بعيوبِ نفسِه، وَلَوْ تظاهرَ بالأعذارِ وجادلَ عنْ نفسِه؛ فلنْ ينفعَه ذلك يومَ القيامةِ، وهذه إشارةٌ إلى ضرورةِ الرجوعِ إلى النفسِ ومحاسبتِها وَكشفِ عيوبِها قَبْلَ فواتِ الأوانِ.
4- عَنْ أبِي يعلي شداد بن أوس - رضيَ اللهُ عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلَّى اللهُ عليه وسلم -: (الكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَه وَعَمِلَ لِمَا بعدَ الموتِ، والعاجزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَه هواهَا، وتمنَّى على اللهَ)([4]).
قالَ الإمامُ الترمذي: (معنى "دَانَ نَفْسَه" أي: حاسبَها في الدنيا قَبْلَ أنْ يُحَاسب يومَ القيامةِ)([5]).
وَعَنْ عمرَ بن الخطابِ - رضيَ اللهُ عنه - أنَّه قالَ: (حَاسِبُوا أنفسَكُم قَبْلَ أنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوا أنفسكَم قَبْلَ أنْ تُوزَنُوا، فإنَّ أهونَ عليكُم في الحسابِ غدًا أنْ تُحَاسِبُوا أنفسَكم اليومَ، وتَزَيَّنُوا للعرضِ الأكبرِ، يومئذٍ تُعْرَضُون لا تَخْفَى منكم خافيةٌ)([6]).
كما وردت آثارٌ كثيرةٌ عنْ السلفِ الصالحِ - رحمهم اللهُ - في وجوبِ المحاسبةِ وأهميتِها؛ منها:
قولُ الحسنِ البصري - رحمه الله -: (لا تلقى المؤمنَ إلا يعاتبُ نفسَه؛ ماذا أردتُ بكلمتِي؟ ماذا أردتُ بأكلَتِي؟ ماذا أردتُ بشَرْبَتِي؟ والعاجزُ يمضي قُدُمَا لا يعاتبُ نفسَه)([7]).
- وقالَ أيضًا: (إنَّ العبدَ لا يزالُ بخيرٍ ما كانَ له واعظٌ منْ نفسِه، وَكانت المحاسبةُ مِنْ هِمَّتِه)([8]).
- وقولُ ميمون بن مهران: (لا يكونُ الرجلُ تقيًّا حتى يكونَ لنفسِه أشدَّ محاسبةً مِنَ الشريكِ لشريكِه)([9]).
- وَقالَ مالكُ بن دينار - رحمه اللهُ -: (رَحِمَ اللهُ عبدًا قالَ لنفسِه النفيسةِ: أَلَسْتِ صاحبةَ كذا؟! أَلَسْتِ صاحبةَ كذا؟ ثمَّ ذمَّها ثمَّ خَطَمَهَا([10])، ثمَّ ألزمَها كتابَ اللهِ فكانَ لها قائدًا)([11]).
وَهكذا تتوالى أقوالُ السلفِ - رحمهم اللهُ - في التأكيدِ على ضرورةِ محاسبةِ النفسِ وَالتدقيقِ عليها في كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ؛ لِيَسْلَمَ مِنْ أخطارَها وشرورَها.
الهوامش:
([6]) أورده الإمام أحمد في كتاب الزهد، ص(177)، وابن أبي الدنيا في محاسبة النفس، ص(30)، وأورده الترمذي في سننه، (4/550)، وابن الجوزي في صفة الصفوة، (1/286)، وابن القيم في إغاثة اللهفان، (1/78).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.