بدعة الموالد ومنها الاحتفال بالمولد النبوي

بدعة الموالد ومنها الاحتفال بالمولد النبوي







الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ الموالد هي: الاجتماعات التي تقام لتكريم الماضين من الأنبياء والأولياء، والأصل فيها أن يتحرى الوقت الذي وُلد فيه من يُقصد بعمل المولد([1])، وما من ريب أن هذه الاجتماعات والاحتفالات لم تكن معروفة في الصدر الأول، وإنما أُحدثت في العصور المتأخرة، ومن أعظم هذه المواسم والاحتفالات المبتدعة التي يحتفل بها كثير من المسلمين، الاحتفال بالمولد النبوي، بل هو الأصل في الاحتفالات الأخرى التي تُتخذ للأولياء والصالحين والآباء.

وقد أنكر جمعٌ من علماء الشافعية بدعة الاحتفال بالمولد النبوي، وبيَّنوا بطلانها وفسادها بالأدلة الواضحة والبراهين الساطعة، ويمكن تلخصيها في النقاط التالية:

أولًا: أن الاحتفال بالمولد النبوي لم يكن معروفًا في القرون الثلاثة المفضلة، الذين هم خير الناس علمًا وعملًا، وأحرصهم على الاتباع وأبعدهم عن الابتداع، وهذا مما اتفق عليه المنكرون لبدعة المولد والمؤيدون لها، وإليك بعض تصريحاتهم في ذلك:

قال الإمام ظهير الدين التزمنتي - رحمه الله -: (هذا الفعل لم يقع في الصدرِ الأول من السلف الصالح مع تعظيمهم وحبِّهم له إعظامًا ومحبةً لا يبلغ جمعُنا الواحدَ منهم، ولا ذرةً منه ...) إلى أن قال: (... ولا خيرَ فيما لم يعمْله السلفُ الصالح ... ولا يصلحُ آخرُ هذه الأمة إلا ما أصلح أولها)([2]).

وقال الحافظ أبو زرعة العراقي، وقد سُئل عن عمل المولد أمستحبٌ هو أم مكروه؟ وهل ورد فيه شيءٌ أو فعله من يُقتدى به؟ قال: (إطعامُ الطعام مستحبٌّ في كلِّ وقت، فكيف إذا انضم لذلك السرور بظهور نور النبوة في هذا الشهر الشريف، ولا نعلم ذلك - أي عمل المولد ولو بإطعام الطعام - عن السلف)([3])، وقال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: (أصلُ عملِ المولدِ بدعةٌ لم يُنقلْ عن أحدٍ من السلفِ الصالح من القرون الثلاثة ...)([4]).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فإنَّ هذا لم يفعلْه السلف، مع قيام المقتضي له وعدم المانع منه لو كان خيرًا، ولو كان هذا خيرًا محضًا أو راجحًا لكان السلف - رحمهم الله - أحق به منه، فإنهم كانوا أشد محبةً لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمًا له منا، وهم على الخيرِ أحرص، وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمرِه، وإحياء سنته باطنًا وظاهرًا، ونشر ما بُعِثَ به، والجهاد على ذلك بالقلبِ واليدِ واللسانِ، فإن هذه طريقةُ السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصارِ، والذين اتبعوهم بإحسانٍ)([5]).

ثانيًا: أن الاحتفال بالمولد النبوي إنما أُحْدِث في العصور المتأخرة، وذلك في أواخر القرن الرابع الهجري في عهد الدولة الفاطمية، وهي دولة شيعية معروفة بالبدع والابتداع، فقد كانت لهذه الدولة أعيادٌ كثيرةٌ ومواسم عديدة يحتفلون بها طوال السنة، وهي تربو على عشرين موسمًا وعيدًا، ومنها المولد النبوي، كما ذكر ذلك المؤرخون.

قال الإمام المقريزي الشافعي - رحمه الله -: (وكان للخلفاءِ الفاطميين في طولِ السنة أعيادٌ ومواسم، وهي: موسمُ رأس السنة، وموسمُ أول العام، ويومُ عاشوراء، ومولدُ النبي صلى الله عليه وسلم، ومولدُ علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، ومولدُ الحسن ومولدُ الحسين - عليهما السلام -، ومولدُ فاطمة الزهراء - عليها السلام -، ومولدُ الخليفة الحاضر ...)، وذكر أعيادًا ومواسمَ أخرى وكيفية احتفالاتهم بها([6]).

وقال الشيخ علي محفوظ - رحمه الله -: (أولُ من أحدثَها بالقاهرة الخلفاءُ الفاطميون في القرن الرابع، فابدعوا ستةَ موالد: المولدَ النبوي، ومولدَ الإمام علي - رضي الله عنه -، ومولدَ السيدة فاطمة الزهراء - رضي الله عنها -، ومولدَ الحسن والحسين - رضي الله عنهما -، ومولد الخليفة الحاضر، وبقيت هذه الموالد على رسومها إلى أن أبطلها الأفضلُ ابن أمير الجيوش، ثم أُعيدت في خلافةِ الآمر بأحكام الله في سنة أربع وعشرين وخمسمائة بعد ما كادَ الناس ينسونها)([7]).

ثالثًا: إن أصل عمل المولد مأخوذ من النصارى في احتفالهم بمولد عيسى عليه السلام، كما صرَّح بذلك العلماء المؤيدون له والمنكرون عليه؛ قال الحافظ السخاوي - رحمه الله - وهو ممن يؤيد هذا العمل: (إذا كان أهلُ الصليبِ اتخذوا ليلةَ مولِدِ عيسى عيدًا أكبر، فأهلُ الإسلامِ أولى بالتكريمِ وأجدر)([8]).

وقال الشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي - رحمه الله -: (فالعلماءُ المحققون يستنكرون الاحتفالَ بليلةِ المولدِ النبوي الشريف، ويقولون أنها بدعةٌ من البدعِ، وأنها مشابهةٌ لليهودِ والنصارى، حيثُ يحتفلون بميلادِ أنبيائهم)([9])، فهذا نصٌّ في المشابهة، وأن الاحتفال أصله مأخوذ من الكفار، ومن المعلوم في الشرع أن التشبه بهؤلاء الكفار محرم أشد التحريم؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((منْ تشبَّه بقومِ فهو منهم)) ... وغير ذلك من النصوص الشرعية الكثيرة في النهي عن التشبه بالكفار.

رابعًا: مما يدل على بطلان الاحتفال بالمولد النبوي ما يترتب عليه من مفاسد عظيمة ومنكرات عديدة، من اللهو والسرف وإضاعة الأموال والأوقات وغير ذلك، بل قد يصل بعضها إلى حدِّ الكفر والشرك الأكبر والعياذ بالله.

قال ابن خلكان - رحمه الله - حاكيًا عن كيفية احتفال الملك المظفر بالمولد النبوي: (وأما احتفالُه بمولدِ النبي صلى الله عليه وسلم فإن الوصفَ يقصرُ عن الإحاطةِ به، لكن نذكرُ طرفًا منه: كانَ في كلِّ سنة يصلُ إليه من البلادِ القريبةِ من "إربل" خلقٌ كثير من الفقهاء والصوفية والوعاظ والقراء والشعراء، ولا يزالون يتواصلون من المحرم إلى أوائل شهرِ ربيعٍ الأول.

ويتقدم مظفر الدين بنصب قبابٍ من الخشبِ، كل قبةٍ أربع أو خمس طبقات، ويعمل مقدار عشرين قبة وأكثر، منها قبة له والباقي للأمراء وأعيان دولتِه لكلِّ واحدٍ قبة، فإذا كان أول صفر زينوا تلك القباب بأنواع الزينةِ الفاخرةِ المستجملة، وقعدَ في كلِّ قبةٍ جوق من المغاني وجوق من أربابِ الخيال ومن أصحابِ الملاهي، ولم يتركوا طبقةً من تلك الطباقِ في كلِّ قبةٍ حتى رتبوا فيها جوقًا.

وتبطلُ معايشَ الناس في تلك المدةِ، وما يبقى لهم شغلٌ إلا التفرج والدوران عليهم، وكانت القبابُ منصوبةً من بابِ القلعةِ إلى باب الخانقاه المجاورةِ للميدان، فكان مظفر الدين ينزلُ كلَّ يوم بعد صلاةِ العصر ويقف على قبةٍ قبةٍ إلى آخرِها، ويسمعُ غناءَهم، ويتفرجُ على خيَّالَاتهم وما يفعلونه في القبابِ، ويبيتُ في الخانقاه ويعمل السماع ويركب عقيب صلاةِ الصبحِ يتصيد، ثم يرجعُ إلى القلعةِ قبلَ الظهر، هكذا يعملُ كلَّ يومٍ إلى ليلةِ المولد، وكان يعملُه سنةً في ثامنِ الشهرِ، وسنةً في الثاني عشر؛ لأجل الاختلافِ الذي فيه.

فإذا كان قبلَ المولد بيومين أخرجَ من الإبلِ والبقرِ والغنمِ شيئًا كثيرًا زائدًا عن الوصفِ، وزفَّها بجميعِ ما عنده من الطبولِ والمغاني والملاهي حتى يأتي بها إلى الميدان، ثم يشرعون في نحرِها، وينصبون القدورَ ويطبخون الألوان المختلفة، فإذا كانت ليلة المولد عملَ السماعات بعد أن يصلي المغرب في القلعة)([10]).

قال الشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي: (وانظر أيضًا إلى بدعةِ الموالدِ وما نتجَ منها من تنميةِ الفواحش واختلاط الرجالِ والنساءِ واحتكاكهم بهنَّ، وإلى ما استتبعته من شربِ الخمورِ والمُسْكِرات، وترك الصلواتِ، وإنفاقِ الأموالِ الطائلة في غير ما ينفع، وكل ذلك يفعلونه على حساب الدين)([11]).

وقال في موضعٍ آخر: (ومنْ يومِ أن ابتدع الملكُ المظفر هذه البدعةَ والعلماءُ منقسمون بين محسن ومكره، ولكن كلُّهم متفقون - والحمد لله - على أن ما يحصلُ في ليلةِ المولد من دقِّ الطبولِ ورقصِ الصوفيةِ، واختلاطِ الرجالِ بالنساءِ والمردانِ، ونشرِ الأعلام، وما إلى ذلك من الأعمالِ التي تنافي الحياء، وبالتالي تنافي دينَ الإسلام؛ أنها أعمالٌ محرمةٌ وضلالاتٌ منكرةٌ، لا يجوِّزُها إلا الشيطانُ وحزبُه، {أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 19])([12]).

ومن منكرات المولد: القيام عند ذكر مولده صلى الله عليه وسلم، فهذا أيضًا من البدع المحدثة التي ما أنزل اللهُ بها من سلطان، وقد صرَّح بذلك بعضُ الشافعية، منهم ابن حجر الهيتمي - رحمه الله -، فقال في معرض إنكاره على من يقوم عند قراءة: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1]: (ونظير ذلك فعلُ كثيرٍ عند مولدِه صلى الله عليه وسلم ووضع أمِّه له من القيام، وهو أيضًا بدعةٌ لم يردْ فيه شيءٌ، على أن الناسَ إنما يفعلون ذلك تعظيمًا له صلى الله عليه وسلم، فالعوام معذورون لذلك بخلافِ الخاصة)([13]).

وقال الشيخ علي الحلبي - رحمه الله -: (جرت عادةُ كثيرٍ من الناسِ إذا سمعوا بذكرِ وضعِه صلى الله عليه وسلم أن يقوموا تعظيمًا له صلى الله عليه وسلم، وهذا القيام بدعةٌ لا أصلَ لها)([14]).

 

الهوامش

([1]) الإبداع في مضار الابتداع، علي محفوظ، ص(231).

([2]) نقله الصالحي في سبل الهدى والرشاد، (1/364)، وانظر: القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل، إسماعيل الأنصاري، (2/444).

([3]) نقله الشيخ إسماعيل الأنصاري،انظر: القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل، ضمن مجموعة رسائل في حكم الاحتفال بالمولد النبوي، (2/443).

([4]) نقله السيوطي في "حسن المقصد في عمل المولد"، الحاوي للفتاوى، (1/196)، وانظر المصدر السابق، (2/444).

([5]) اقتضاء الصراط المستقيم، ابن تيمية، (2/123-124).

([6]) الخطط المقريزية، (1/490-وما بعدها)، دار صادر.

([7]) الإبداع، علي محفوظ، ص(231).

([8]) التبر المسبوك في ذيل السلوك، السخاوي، ص(14)، وانظر: الأعياد وأثرها على المسلمين، سليمان السحيمي، ص(286).

([9]) تحذير المسلمين، أحمد بن حجر آل بوطامي، ص(188).

([10]) وفيات الأعيان، ابن خلكان، (3/374)، بتصرف، وانظر البداية النهاية، ابن كثير، (17/205)، ت/التركي.

([11]) تحذير المسلمين، أحمد بن حجر آل بوطامي، ص(75).

([12]) المصدر السابق، ص(187-188).

([13]) الفتاوى الحديثية، ابن حجر الهيثمي، ص(112).

([14]) السيرة الحلبية، علي بن برهان الدين، (1/136).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
بدعة الموالد ومنها الاحتفال بالمولد النبوي.doc doc
بدعة الموالد ومنها الاحتفال بالمولد النبوي.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى