كي يؤدي العلم دوره في تزكية النفس، لابد من أن يتحقق فيه شرطان:
- أن يصحبه العمل الصالح مع الإخلاص لله سبحانه والتزام الآداب المطلوبة للعالم والمتعلم.
- أن يتجنب المسلم المراء والخصام في مسائل العلم.
ولنبدأ بالشرط الأول: العلم والعمل
العلم النافع هو العلم الذي يتبعه العمل ويلتزم صاحبه بالخلق الفاضل والآداب الكامل والاعتصام بالكتاب والسنة وإخلاص القصد لله سبحانه، وبذلك يثمر ثمراته المرجوة في تزكية النفس.
ولقد حذرنا الله سبحانه من العلم الذي لا يصاحبه العمل، ومن القول الذي لا يتبعه الفعل، فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2، 3]
وقال سبحانه: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44]، كما بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن العالم سيسأل يوم القيامة عن علمه ماذا عمل فيه وهل أثمر عنده الخشية من الله والتقرب إليه بالعمل الصالح أم اتخذه وسيلة للتظاهر والتباهي أمام الناس؟
روى الترمذي عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه، وعن علمه فيم فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن جسمه فيم أبلاه).
وروى مسلم عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه).
وهذه عقوبة من لا يعمل بما آتاه الله من علم، ولا ينتفع به، وإنما يكتفي بأمر الناس ونهيهم، ويترك نفسه لتناسق وراء المعاصي في غفلة عن أعين الناس، ولكن الله سبحانه الذي لا تخفى عليه خافية، والذي ستره في الدنيا حتى ظن الناس به الصلاح، يفضحه يوم القيامة على رؤوس الأشهاد.
ولذلك كان الصحابة رضي الله عنهم مع تقواهم وتمسكهم بالكتاب والسنة يخشون هذا الموقف العصيب يوم القيامة.
فعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: (إنما أخاف أن يقال لي يوم القيامة أعلمت أو جهلت؟ فأقول: علمت، فلا تبقى آية من كتاب الله عز وجل آمرة أو زاجرة إلا جاءتني تسألني فريضتها، فتسألني الآمرة هل ائتمرت، والزاجرة هل ازدجرت، فأعوذ بالله من علم لا ينفع).
وعنه رضي الله عنه أنه قال: (لا تكون عالمًا حتى تكون بالعلم عاملًا).
ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يسأل ربه العلم النافع ويتعوذ به من العلم الذي لا ينفع.
روى مسلم عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها).
قال الإمام ابن رجب الحنبلي: (من فاته هذا العلم النافع وقع في الأربع التي استعاذ منها النبي صلى الله عليه وسلم، وصار علمه وبالًا وحجة عليه، فلم ينتفع به لأنه لم يخشع قلبه لربه، ولم تشبع نفسه من الدنيا، بل ازداد عليها حرصًا ولها طالبًا، ولم يسمع دعاؤه لعدم امتثاله لأوامر ربه، وعدم اجتنابه لما يسخطه ويكرهه).
ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه على العلم النافع الذي يزكي النفس، وبذلك تخرج من مدرسة النبوة هذا الجيل القرآني الفذ الذي حمل رسالة الإسلام إلى الآفاق، وتسلم وراثة النبوة ليسلمها لمن بعده بأمانة وإخلاص، وتعاقبت الأجيال الفاضلة التي تتلقى العلم للعمل وتتأدب العلم وتتحلى بفضائله.
روى الخطيب البغدادي عن مالك بن انس قال: قال ابن سيرين: "كانوا يتعلمون الهدى كما يتعلمون العلم".
وعن مالك أيضًا عن ابن شهاب أنه قال: (إن هذا العلم أدب الله الذي أدب به نبيه صلى الله عليه وسلم، وأدب النبي صلى الله عليه وسلم أمته، أمانة الله إلى رسوله، ليؤديه على ما أدى إليه، فمن سمع علمًا فليجعله أمامه حجة فيما بينه وبين الله عز وجل).
وعن إبراهيم بن حبيب قال: قال لي أبي: (يا بني إيت الفقهاء والعلماء، وتعلم منهم وخذ من أدبهم وأخلاقهم وهديهم، فإن ذاك أحب إلى لك من كثير من الحديث).
ولذلك كانت العلامة التي يتميز بها أهل العلم النافع أنهم يتواضعون ولا يرون لأنفسهم حالًا ولا مقامًا ويكرهون المدح وثناء الناس عليهم، ولا يتكبرون على أحد، وتراهم زاهدين في الدنيا راغبين في الآخرة، يواظبون على عبادة ربهم، وكلما ازدادوا علمًا ازدادوا تواضعًا لله وخشية وانكسارًا وذلًا له سبحانه.
وقد حدد الإمام الشاطبي رحمه الله شروط العالم المتحقق بالعلم، وهي ثلاثة:
- العلم بما علم حتى يكون قوله مطابقًا لفعله.
- أن يكون ممن رباه الشيوخ في ذلك العلم لأخذه عنهم وملازمته لهم.
- الاقتداء بمن أخذ عنه والتأدب بآدابه فلما تركت هذه الأوصاف رفعت البدع رؤوسها وحل اتباع الهوى محل الاقتداء.
المراء والخصام في مسائل العلم يقسي القلب ويحرم من ثمرات العلم:
الشرط الثاني الذي لابد من تحققه لكي يؤدي العلم دوره في تزكية النفس وترقية حالها هو تجنب الخصام والمراء والجدال في مسائل العلم.
والدليل على ذلك ما رواه أصحاب السنن، عن أبي أمامه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما ضل قوم بعد هدى إلا أوتوا الجدل، ثم قرأ: {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58])، وقال بعض السلف: (إذا أراد الله بعبد خيرًا فتح له باب العمل، وأغلق عليه باب الجدل، وإذا أراد الله بعبد شرًا أغلق عنه باب العمل وفتح له باب الجدل).
وقال مالك رحمه الله: (المراء والجدال في العلم يذهب بنور العلم).
وقال أيضًا: (المراء في العلم يقسي القلب).
وسمع الحسن البصري قومًا يتجادلون فقال: (هؤلاء قوم ملوا العبادة، وخف عليهم القول، وقل ورعهم فتكلموا).
وقال محمد بن جعفر الصادق: (إياكم والخصومات في الدين فإنها تشغل القلب وتورث النفاق).
وقد علق الإمام ابن رجب الحنبلي بعد أن أورد هذه الأقوال عن علماء السلف، فقال: (وقد فتن كثير من المتأخرين بهذا، فظنوا أن من كثر كلامه وجداله وخصامه في مسائل الدين فهو أعلم ممن ليس كذلك، وهذا جهل محض... فليس العلم بكثرة الرواية ولا بكثرة المقال ولكنه نور يقذف في القلب يفهم به الحق ويميز به بينه وبين الباطل).
ثم قال: (وقد ابتلينا بجهلة من الناس يعتقدون في بعض من توسع في القول من المتأخرين أنه أعلم ممن تقدم، فمنهم من يظن في شخص أنه أعلم من كل من تقدم من الصحابة ومن بعدهم لكثرة بيانه ومقاله، ومنهم من يقول هو أعلم من الفقهاء المشهورين المتبوعين).
وبعد هذا البيان لضرورة البعد عن الجدال والمراء في مسائل العلم وضع لنا الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله ضوابط للعلم النافع البعيد عن الجدل والخصام فقال: (العلم النافع من هذه العلوم كلها ضبط نصوص الكتاب والسنة وفهم معانيها، والتقيد في ذلك بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعيهم في معاني القرآن والحديث، وفيما ورد عنهم من الكلام في مسائل الحلال والحرام، والزهد والرقائق، والمعارف وغير ذلك، والاجتهاد في تمييز صحيحه من سقيمه أولًا، ثم الاجتهاد في الوقوف على معانيه وتفهمه ثانيًا، وفي ذلك كفاية لمن عقل، وشغل لمن بالعلم النافع عني واشتغل).
ولا شك أن هذا التحديد يشمل كل علم نافع يسير في ركاب الكتاب والسنة ويلتزم بمنهج السلف الصالح ويحذر صاحبه غرور النفس وهواها.
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.