يخطئُ مَنْ يظنُّ أنَّ الشعرَ أداةٌ للترفيهِ والتسليةِ والإمتاعِ فقطْ، فالشعرُ وسيلةٌ فعالةٌ في التأثيرِ والإقناعِ وإيصالِ الفكرةِ إلى المستمعين، لِمَا له مِنْ وَقْعٍ خاصٍّ يؤثرُ في أعماقِ النفسِ، ويهزُّ القلبَ ويلهبُ الحماسَ، وبخاصةٍ إذا صدرَ مِنْ قلبٍ مخلصٍ، واتسمَ بالقوةِ في النَّظْمِ، والدقةِ في التعبيرِ، والجمالِ في الأسلوبِ البياني.
ولقدْ جاءَ الإسلامُ ليوجهَ انفعالاتِ الناسِ وميولَهم وأقوالَهم وأفعالَهم إلى الوجهةِ الحقةِ، التي تستقيمُ معها الحياةُ وتُنَالُ بها السعادةُ، ويُقَوِّمُ انحرافاتِ أهلِ الجاهليةِ الذين اتخذوا مِنَ الشعرِ وسيلةً لإرثاءِ النعراتِ القبليةِ، وافتراءِ الكذبِ والسخريةِ بالآخرين، واتباعِ الأهواءِ المضلةِ؛ ولذلكَ قالَ تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 224-227].
ففي هذه الآياتِ الكريمةِ ذَمٌّ لِمَنْ اتخذَ الشعرَ وسيلةً للغوايةِ واللغوِ الباطلِ، وثناءٌ على مَنْ جعلَ الشعرَ ملتزمًا بطريقِ الإيمانِ، وداعيًا إلى العملِ الصالحِ وانتصارًا للحقِّ وأهلِه.
وقدْ بَيَّنَ الرسولُ - صلى اللهُ عليه وسلم - أهميةَ الشعرِ في تزكيةِ النفسِ والتأثيرِ فيها في أحاديثَ عدةٍ، منها ما رواه البخاري وغيرُه، عنْ أُبي بن كعب - رضيَ اللهُ عنه- أنَّ رسولَ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم - قالَ: ((إِنَّ مِنَ الشعرِ حكمةً))([1])، وفي روايةٍ لأبي داود: ((وَإِنَّ مِنَ البيانِ سحرًا))([2]).
فالشعرُ الحسنُ يُقَوِّي حجةَ صاحبِه، ويزيدُ الحقَّ وضوحًا وجلاءً، ويدفعُ إلى العملِ الصالحِ، وقدْ أوردَ الحافظُ ابنُ حجر العسقلاني عَن ابنِ بطال قولَه: (مَا كانَ في الشعرِ والرجزِ مِنْ ذكرِ اللهِ تعالى وتعظيمٍ له ووحدانيته وإيثارِ طاعتِه والاستسلامِ له فهوَ حسنٌ مرغوبٌ فيه، وهوَ المرادُ في الحديثِ بأنَّه حكمة، ومَا كانَ كذبًا وفُحْشًا فهوَ مذمومٌ)([3]).
ولأهميةِ الشعرِ ودورِه في تقويةِ الإيمانِ ودحرِ الكفرِ، فقدْ كانَ الرسولُ - صلى اللهُ عليه وسلم - يحضُّ الشعراءَ مِنَ الصحابةِ على نظمِه، ومِنْ أبرزِهم حسانُ بن ثابت - رضيَ اللهُ عنه -، الذي دعا له الرسولُ - صلى اللهُ عليه وسلم - فقالَ: ((اللهُمَّ أَيدْهُ بِرُوحِ القُدُسِ))([4])، كمَا قالَ له وهو يهجو المشركين بشعرِه: ((اهْجُهم وجبريلُ مَعك))([5]).
ولمَّا اعترضَ عمرُ - رضيَ اللهُ عنه - على عبدِ اللهِ بن رواحة - رضيَ اللهُ عنه - لأنَّه كانَ يقولُ الشعرَ في المسجدِ؛ قالَ له الرسولُ - صلى اللهُ عليه وسلم -: ((خَلِّ عنه يا عمر، فَلَهيَ أسرعُ فيهم مِنْ نَضحِ الإبلِ))([6])، وهذا دليلٌ على مدى تأثيرِ الشعرِ في النفوسِ.
ولقدْ ثَبُتَ عَن الصحابةِ - رضيَ اللهُ عنهم - أنهم كانوا يرتجزونَ الشعرَ في مجالاتٍ عديدةٍ، وبخاصةٍ في المواطنَ التي تحتاجُ إلى شحذِ همةِ النفسِ على البذلِ وتقويةِ تحملِها للصعابِ.
وَمِنْ ذلكَ ما رواه البخاري عنْ سلمة بن الأكوع - رضيَ اللهُ عنه - قالَ: ((خَرَجْنَا مَع رسولِ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم - إلى خيبر، فَسِرْنَا ليلًا، فقالَ رجلٌ مِنَ القومِ لعامر بن الأكوع، ألَا تُسْمِعُنَا مِنْ هنيهاتِك؟ قالَ وكانَ عامرُ رجلًا شاعرًا، فنزلَ يحدو بالقومِ يقولُ:
اللَّهُمَّ لَوْلا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا |
وَلا تَـصَدَّقْنَا وَلا صَلَّيْنَا |
فَأَنْزِلَــنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا |
وَثَبِّتـِ الأَقْدَامَ إِنْ لاقَيْنَا |
إِنَّ الأُولَى قَـدْ بَغَوْا عَلَيْنَا |
وَإِنْ أَرَادُوا فِتْـنَةً أَبَيْنَا |
فقالَ رسولُ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم -: مَنْ هذا السائقُ؟ قالوا: عامر بن الأكوع، فقالَ: يرحمُهُ اللهُ))([7]).
وما رواه كتابُ السيرةِ مما قالَه جعفرُ بن أبي طالب وعبدُ الله بن رواحة - رضيَ اللهُ عنهما - في غزوةِ مؤتة، وهما مِنْ أمراءِ تلكَ الغزوةِ التي اشتدَّ فيها القتالُ واحتدمَ، وأبلى فيها المسلمون بلاءً حسنًا، فقدْ أوردَ ابنُ هشام أنَّ جعفرَ - رضيَ اللهُ عنه - قاتلَ وهوَ يحملُ اللواءَ ويقتحمُ صفوفَ الأعداءِ وهوَ يقولُ:
يَا حَـبَّذَا الْجَنَّةُ وَاقْتِرَابُهَا طَيِّبَةٌ بَارِدَةٌ شَرَابُهَا
وَالرُّومُ رُومٌ قَدْ دَنَا عَذَابُهَا عَلَيَّ إِنْ لاقَيْتُهَا ضِرَابُهَا
فَلَمَّا قُتِلَ جعفر أخذَ عبدُ اللهِ بن رواحة الرايةَ، ثُمَّ تقدَّمَ بها وهو على فرسِه وهوَ يُرَدِّدُ:
أقسَمتِ يا نَفــسُ لتَنْزِلَنَّهْ |
لتَـــنْزِلَنَّ أو لَتُكْرَهَنَّهْ |
إن أَجلَبَ الناسُ وشدُّوا الرَّنَّة |
مـالِي أراكِ تكرهين الجَنَّةْ |
يا نفــسُ إلاَّ تُقتَلي تموتِي |
هذا حِمَامُ الموتِ قد صُلِّيتِ |
ما تمنـــيتِ فقد أُعطِيتِ |
إِن تَفـعَلي فِعْلَهُما هُدِيتِ |
يريدُ صاحبيه زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب اللذين سبقاه إلى الشهادةِ، ثُمَّ قاتلَ حتَّى قُتِلَ - رضيَ اللهُ عنه -([8]).
ونلاحظُ في تلكَ الأبياِت مِنَ الشعرِ مَا كانَ يرمي إليه جعفرُ وابنُ رواحة - رضيَ اللهُ عنهما - مِنْ شَدِّ أزرِ النفسِ وتثبيتِها في خِضَمِّ المعركةِ، وتشويقِها إلى لقاءِ اللهِ سبحانه وجنتِه، وعاتَبَها خشيةَ أَنْ يبدرَ منها تقصيرٌ أوْ ترددٌ، وتذكيرُها بالمصيرِ المحتومِ لكلِّ إنسانٍ.
ولاشَكَّ أَنَّ هذه المعاني لابُدَّ أَنْ يزدادَ وَقْعُها المؤثرُ على النفسِ عندما تكونَ شعرًا صادقًا نابضًا بالحياةِ أكثر مما لوْ كانتْ جُمَلًا نثريةً.
ولذلك استخدمَ كثيرٌ مِنْ علماءِ السلفِ الشعرَ كوسيلةٍ لوعظِ النفسِ والدعوةِ إلى مكارم الأخلاقِ، وَمِنْ أبرزِ هؤلاء الإمامُ الشافعي - رحمهُ اللهُ - الذي تُعَدُّ أشعارُه مِنْ بدائع الحِكَمِ على الرغمِ مِنَ انشغالِه بالفقهِ، وَقَدْ حفلتْ كتبُ التراجم والأدبِ والرقائق بالنفائس مِنْ شعرِه، وَمِنْ ذلكَ قوله:
يا واعظَ الناس عمَّا أنتَ فاعلهُ |
يَا مَنْ يُعَدُّ عَلَيْهِ العُمْرُ بِالنَّفَسِ |
احفظ لشبيكَ من عيبٍ يدنسهُ |
إنَّ البياض قليلُ الحملِ للدنسِ |
كحاملٍ لثيـاب النَّاسِ يغسلها |
وثوبهُ غارقٌ في الرَّجسِ والنَّجسِ |
تَبْغي النَّجَاة َ وَلَمْ تَسْلُكْ طَرِيقَتَهَا |
إنَّ السَّفِينَة َ لاَ تَجْرِي عَلَى اليَبَسِ |
ركوبكَ النَّعشَ ينسيك الرُّكوب على |
مَا كُنْتَ تَرْكَبُ مِنْ بَغْلٍ وَمِنْ فَرَسِ |
يومَ القيـامة ِ لا مالٌ ولا ولدٌ |
وضمَّة ُ القبرِ تنسي ليلة العُرسِ([9]) |
وقوله وهوَ في مرضِه الذي ماتَ فيه:
ولَّما قسا قلبي، وضاقت مذاهبي جَعَلْتُ الرَّجَا مِنِّي لِعَفْوِكَ سُلّمَا
تعاظـــمني ذنبي فلَّما قرنتهُ بعفوكَ ربي كانَ عفوكَ أعظما
إلى أنْ قَالَ:
ألـستَ الذِّي غذيتني هديتني وَلاَ زِلْتَ مَنَّاناً عَلَيَّ وَمُنْعِمَا
عَسَى مَنْ لَهُ الإِحْسَانُ يَغْفِرُ زَلَّتي ويسترُ أوزاري وما قد تقدما([10])
ولاشَكَّ أنَّ الشعرَ سلاحٌ ذو حَدَّيْن، يُستخدمُ في الخيرِ كما يستخدمُ في الشرِّ، وقدْ أُسيءَ استخدامُه عندَ كثيرٍ مِنَ الشعراءِ فأصبحَ وسيلةً للهجاءِ والسخريةِ، والنفاقِ وإشاعةِ الفحشِ والرذيلةِ، كما أصبحَ وسيلةً للتكسبِ عندَ بعضِ الخلفاءِ والسلاطين، ولكنَّه مَع ذلكَ اسْتُخْدِمَ كسلاحٍ نفاذٍ فِي وَعْظِ النفوسِ وعتابِها، ونصرةِ الحقِّ والدعوةِ إلى الإسلامِ، ونحو ذلكَ مِن المقاصد الشرعيةِ النافعةِ.
ولوْ رجعنا إلى كُتُبِ التراجم لوجدنَاها مليئةً بالشواهد على استخدامِ العلماءِ والوعاظِ الصادقين للشعرِ في مجالِ تزكيةِ النفوسِ والدعوةِ إلى الخيرِ، وهذه بعضُ الأمثلةِ:
- أوردَ الإمامُ ابن رجب الحنبلي في ترجمتِه لعبدِ الملكِ بن عبد العزيز، أنَّ سابقَ البربري دخلَ يومًا على عمرَ بنِ عبدِ العزيز فقالَ له عمرُ: عِظْنِي يا سابق وأوجزْ، قالَ: نعمْ، فأنشدَه:
إذا أنْتَ لمْ تَرْحَلْ بِزَادٍ مِنَ التّقَى وَلاقَيْتَ بَعْدَ المَوْتِ مَن قد تزَوّدَا
نَدِمْتَ على أنْ لا تَكُونَ كمِثْلِهِ وأنكَ لمْ ترصدْ لما كانَ أرصدا
فبكى عمرُ حتَّى خَرَّ مغشيًّا عليه([11]).
- وذكرَ الإمامُ ابنُ كثير أنَّ الواعظَ أبا عثمان المنتخب ابن أبي محمد الواسطي، وكانَ مِنْ كبارِ الصالحين، أنشدَ نورَ الدين محمود زنكي أبياتًا يعظُه فيها، وَمِنْ جملةِ مَا قالَ:
مَثِّلْ وُقُوفَكَ أَيُّهَا المَغْرُوْرُ |
يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَاءُ تَمُوْرُ |
مَاذَا تَقُولُ إِذَا وَقَفْتَ بِمَوْقِفٍ |
فَرْدًا وَجَاءَكَ مُنْكَرٌ وَنَكِيْرُ |
مَاذَا تَقُولُ إِذَا وَقَفْتَ بِمَوْقِفٍ |
فَرْدًا ذَلِيْلاً وَالحِسَابُ عَسِيْرُ |
وَتَعَلَّقَتْ فِيْكَ الخُصُومُ وَأَنْتَ في |
يَوْمِ الحِسَابِ مُسَلْسَلٌ مَجْرُوْرُ |
وَتَفَرَّقَتْ عَنْكَ الجُنُودُ وَأَنْتَ في |
ضِيْقِ القُبُورِ مُوَسّدٌ مَقْبُورُ |
وَوَدِدْتَ أَنَّكَ مَا وَلِيْتَ وِلايَةً |
يَوْمًا ولا قَالَ الأَنَامُ أَمِيْرُ |
وَبَقِيْتَ بَعْدَ العِزِ رَهْنَ حَفِيْرَةٍ |
في عَالَمِ المَوْتَى وَأَنْتَ حَقِيْرُ |
وَحُشِرْتَ عَرْيَانًا حَزِيْنًا بَاكِيًا |
قَلِقًا وَمَا لَكَ في الأنَامِ مُجَيْرُ |
أَرَضِيْتَ أَنْ تَحْيَا وَقَلْبُكَ دَارِسٌ |
عَافِي الخَرَابَ وَجِسْمُكَ المَعْمُوْرُ |
أَرَضِيْتَ أَنْ يُحْظَى سِوَاكَ بِقُرْبِهِ |
أَبَدًا وَأَنْتَ مُعَذَّبٌ مَهْجُوْرُ |
مَهِّدْ لِنَفْسِكَ حُجَّةً تَنْجُو بِهَا |
يَوْمَ المَعَادِ وَيَوْمَ تَبْدُو العُوْرُ |
فلمَّا سَمِعَ نورُ الدين هذه الأبيات بكى بكاءً شديدًا([12]).
وهكذا تقرعُ المواعظُ قلبَ المؤمنِ وتؤثرُ في نفسِه، وبخاصةٍ إذَا كانتْ في قالبٍ شعري صادقٍ، تربطُ العبدَ باليومِ الآخرِ، وتدعو إلى تزكيةِ النفسِ، وتحثُّ على فضائلَ الأعمالِ، ولاشَكَّ أنَّ النفسَ تلينُ وتخشعُ عندما يعاتبُها صاحبُها ويُذَكِّرُها بافتقارِها إلى خالقِها بمثلِ هذا الشعرِ الرقيقِ المؤثِّرِ.
ولكنْ ينبغي ألَّا يُكْثِرَ الدعاةُ والوعاظُ مِنْ إيرادِ الشعرِ في مواعظهم؛ لأنَّ الإكثارَ منه قَدْ يردي إلى مَلَلِ السامعين وانصرافِهم عَن المتحدثِ، فالشعرُ في الكلامِ كالملحِ في الطعامِ، فلينتقِ الدعاةُ مِنْ أطايب الشعرِ بما لا يطغى على أصلِ الموضوعِ وعناصرِه الرئيسيةِ وشواهده الأساسيةِ مِنَ الكتابِ وَالسنةِ وأقوالِ السلفِ الصالحِ؛ ولذلكَ قالَ الإمامُ الغزالي: (وأمَّا الأشعارُ فتكثيرُها فِي المواعظ مذمومٌ)([13]).
ومع هذا تبقى أهميةُ الشعرِ كوسيلةٍ مساعدةٍ لتزكيةِ النفسِ، وبخاصة أنَّ كثيرًا مِنَ الدعاةِ اليومَ قَدْ لا يتقنُ عَرْضَ الفكرةِ بأسلوبِه الخاص، ولا يجيدُ صياغةَ العباراتِ بشكلٍ بليغٍ موجزٍ، فتأتي تلكَ الأشعارُ والقصصُ والأمثالُ المضروبةُ عاملًا مساعدًا يقوِّي أسلوبَه، وَيُدَعِّمُ موضوعَه، ويشدُّ انتباهَ السامعين إليه، ويزيدُ ِمنْ تأثرِهم واستجابتِهم.
الهوامش:
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.