الشيخ جمال الدين القاسمي، شيخ الشام في وقته، ولد "رحمه الله" سنه: (1283 هـ) وبدأ بطلب العلم منذ الصغر، جد واجتهد، وتفوق على أقرانه، وسلك الطريقة النقشبندية على يد شيخه في ذلك الوقت الشيخ محمد الخاني شيخ الطريقة النقشبندية ومرجعها في ذلك الوقت.
شغل الشيخ القاسمي عدة مناصب في التدريس والدعوة، وما إن أعلن مخالفته لأرباب الطرق والخرافة حتى انهالت عليه الإشاعات والافتراءات من مشايخ الطرق في دمشق، وبدأت الوشاية به عند السلطات في دمشق فاستدعي وحقق معه فأثبت للجميع علمه وانصافه والتزامه القواعد والنصوص الشرعية، فقام من استدعاه بالاعتذار إليه وعاد إلى بيته معززاً مكرماً، ولكنه بقي في بيته منعزلاً للتأليف والتدريس.
وكان يصف شيوخ التصوف بقوله: ((هم كالعمود الكهربائي، يبث الجنون في رؤوس الناس، ويلجئهم إلى الإتيان بمظاهر مرض الصرع العام والذهول العقلي)) (1) أي حالات الذكر الخاصة بهم.
وكان ينهى عن الاختلاط بهم ولو من أجل الاطلاع على أحوالهم؛ فقد زجر تلميذاً له مرة حينما أحب الذهاب لمشاهدة حلقاتهم والسماع لأناشيدهم وموسيقاهم، وقال له : "لا تكثر سواد المبتدعة، ولاتكن قدوة سيئة لغيرك" (2) .
وقد آلمه كثيراً تصرفات مشايخ الطرق في دمشق وأعمالهم وادعاءاتهم وكثرة بدعهم، فهاجمهم وبيَّن ضلالهم، وقد وصف ما يفعلون من منكرات تضر بالدين، ننقل منها حديثه عن مواكبهم التي كانت تخرج في الربيع، فيقول (3) : ((لا تزال هذه الطوائف تبتدع أموراً تُضحك السفهاء وتُبكي العقلاء وتحتال لمطامعها البهيمية ما جلب العار على الأمة وسلط عليها الأجنبي يهزأ بديننا ويقبح أعمالنا ظناً منه أن ما يجريه هؤلاء الجهلة من الدين. فهلا رجع هؤلاء الجهلة عن بدعهم، والتزموا طريق أشياخهم الذين يدّعون أنهم على آثارهم وما هم إلا في أيدي الشياطين يلعبون بهم كيف يشاؤون. أين تصفية الباطن التي هي مدار الطريق، وأين الخمول مع هذا الظهور، وأين التواضع مع ركوب الخيل والبغال يقدمها الطبل والمزمار، وأين البعد عن الناس مع هذا المزاحمة الدنيوية، وأين البعد عن الرياء مع الوقوف بين مئات الألوف يتمايل ويتلوى، وأين الإرشاد مع هذه البدع وأين الأشياخ إذا أردنا السلوك. فلعمري لا نرى إلا رجالاً اتخذوا الطريق وسيلة معاشية. أما آن لهذه البدع أن تموت ولهؤلاء الجهلة أن ينتبهوا ويعلموا أنهم بين أمم ينظرون أعمالهم وينتقدون أجوالهم ويكتبون عنهم ما يكتب عن الهمج وسكان البوادي.
إنّ الطريق المسلوك للقوم مبني على الإخلاص في العمل وحب الخلوة والبعد عن الناس والصمت عن اللغو وملازمة الذكر ومداومة السهر فيه وفي التهجد والزهد فيما في أيدي الناس والتمسك بالسنة والإرشاد إلى الطريق المستقيم، وأين هذه الأصول الشريفة مما نراه الآن من الخروج عن الحدود واستبدال السنة البدعة وترك الشرع بهوى النفس.
والطامة الكبرى دعوة بعض الأشياخ وانتحاله ما يضر بالعقيدة وإضلاله العامة بما ينقله إليهم عن الإنسان الكامل ونحوه من كتب الصوفية مدعياً فهمه لإشاراته من طريق الفتح أو الإلهام، فقد كثرت النحل والبدع، وسمعنا من أقوالهم ما ليس من ديننا ولا يقول به أهل دين آخر.
وقد اتفق أن أحد مُعْتَبرِي الأجانب دخل أحد الأماكن وقد اجتمع فيه جماعة من أهل الأهواء، فرآهم يرقصون ويصيحون صياح جنون فقال لترجمانه : ما هذه الغوغاء ونحن نعلم أن صلاة المسلمين في غاية الخشوع والآداب وهذه أمور ليست إلا هذياناً. فقال له ترجمانه : "إن هذه أكبر صلاة عندهم" يريد تنفيره من الدين الإسلامي ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فالدين برئ من نسبة هذه البدع إليه؛ فإن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم معلومة محفوظة، إذ لم يترك الحفاظ وكتاب السير شيئاً من أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته إلا دونوه، وجاء الخلفاء الراشدون ومن عاصرهم على أثره صلى الله عليه وسلم وكذلك جاء الصوفية المتقدمون على هذا الأثر. فلما تشيخ الجهلاء في الطريق التزموا البدع وجاء من لهم إلمام بكتب القوم فانتحلوا أقوالاً لا يعرفون معناها، وعلّموها لجهلةٍ لا يفقهون، فضلُّوا وأضلوا، إنا لله وإنا إليه راجعون.
ومن المصائب الفظيعة تركهم الذكر الشرعي وقولهم "اللام إلا الله" "لوالوها إلا الله" و "ال" بلام مغلظة و"اه" و"ههِ" ثم الرقص وأكل النار وضرب الدف أو الناي والنقارات والنقرزان ووضع الدبوس في الذراع والسيخ الحديد في الحنك والشيش وغيرها من المفتريات القبيحة. فحق شيخ المشائخ منع هؤلاء الجهلاء من إعطاء العهود، حتى يعرفوا العقيدة والآداب الشرعية والفروع الفقهية، ففي ذلك خدمة الأمة والدين، وتأييد لكلمة الحق المتين)).
توفي الشيخ القاسمي "رحمه الله تعالى" سنة (1332 هـ) .
الهوامش:
(1) جمال الدين القاسمي وعصره: ظافر القاسمي، ص353.
(2) شيخ الشام: لمحمود الإستانبولي، ص 91.
(3) اصلاح المساجد 248 – 250 .
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.