هو أحد كبار التابعين، افتتح الذهبي ترجمته في السير بقوله: (الإمام، شيخ الإسلام، أبو بكر الأنصاري، الأنسي البصري، مولى أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، تملكة أنس، ثم كاتبه على ألوف من المال فوفاه، وعجل له مال الكتابة قبل حلوله، فتمنع أنس من أخذه لما رأى ابن سيرين قد كثر ماله من التجارة وأمل أن يرثه، فحاكمه إلى عمر رضي الله عنه، فألزمه تعجيل المؤجل) [1].
ولد ابن سيرين لسنتين بقيتا من خلافة عمر، وقد رأى ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم [2]، وسمع أبا هريرة، وعمران بن حصين، وابن عباس، وعدي بن حاتم، وابن عمر، وعبيدة السلماني، وشريحًا القاضي، وأنس بن مالك، وخلقًا سواهم، روى عنه: قتادة، وأيوب، ويونس بن عبيد، وابن عون، وخالد الحذاء، وهشام بن حسان، وعوف الأعرابي، وقرة بن خالد، ومهدي ابن ميمون، وجرير بن حازم، وأبو هلال محمد بن سليم، ويزيد بن إبراهيم التستري، وعقبة بن عبد الله الأصم، وسعيد بن أبي عروبة، وأبو بكر سلمى الهذلي، وحيان بن حصين، وشبيب بن شيبة، وسليمان بن المغيرة، وخليد بن دعلج [3].
فضله ومناقبه:
وقد ورد في فضله ومناقبه الكثير من الأخبار والآثار، تشهد جميعها بما كان عليه حاله من ورع وفقه وحفظ، نذكر طرفًا منها:
عن غالب عن بكر بن عبد الله المزني قال: من سره أن ينظر إلى أورع أهل زمانه فلينظر إلى محمد بن سيرين، فوالله، ما أدركنا من هو أورع منه [4].
وعن حماد بن زيد عن عاصم الأحول قال: سمعت مورقًا العجلي يقول: ما رأيت رجلًا أفقه في ورعه ولا أورع في فقهه من محمد ابن سيرين[5].
وعن حازم بن رجاء بن أبي سلمة قال: سمعت يونس بن عبيد يصف الحسن وابن سيرين فقال: أما ابن سيرين فإنه لم يعرض له أمران في دينه إلا أخذ بأوثقهما[6].
ويكفيه من مناقبه أن خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استأمنه على تغسيله، فعن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد عن هشام قال: أوصى أنس بن مالك رضي الله عنه أن يُغسِّله محمد بن سيرين، فقيل له في ذلك ـ وكان محبوسًا ـ فقال: أنا محبوس، قالوا: قد استأذنا الأمير فأذن لك، قال: إن الأمير لم يحبسني إنما حبسني الذي له الحق، فأذن له صاحب الحق؛ فخرج فغسَّله[7].
زهده وورعه:
وقد كان ابن سيرين وقافًا على كلامه، لا ينطق إلا بالخير، فعن ابن عون قال: قيل لمحمد بن سيرين: يا أبا بكر، إن رجلًا قد اغتابك فتحله، قال: ما كنت لأحل شيئًا حرمه الله[8].
بل قد ورد عنه أنه سمع رجلًا يسب الحجاج، فأقبل عليه فقال: مه أيها الرجل، فإنك لو قد وافيت الآخرة كان أصغر ذنب عملته قط أعظم عليك من أعظم ذنب عمله الحجاج، واعلم أن الله تعالى حكم عدل، إن أخذ من الحجاج لمن ظلمه فسوف يأخذ للحجاج ممن ظلمه، فلا تشغلن نفسك بسب أحد[9].
وقد كان لسانه لهاجًا بذكر الله على كل حال، فعن موسى ابن المغيرة قال: رأيت محمد بن سيرين يدخل السوق نصف النهار يُكبِّر ويُسبِّح ويذكر الله تعالى، فقال له رجل: يا أبا بكر، في هذه الساعة؟! قال: إنها ساعة غفلة[10].
بل لقد كان يملك رؤية خاصة في معرفة كيف يوفق الله تعالى للعبد إلى إصلاح نفسه، فعن حبيب عن ابن سيرين قال: إذا أراد الله تعالى بعبد خيرًا جعل له واعظًا من قلبه يأمره وينهاه[11].
وكان رحمه الله متورعًا عن الفتيا على الرغم من سعة علمه، فعن الأشعث قال: كان محمد بن سيرين إذا سئل عن شيء من الفقه الحلال والحرام تغيَّر لونه وتبدل، حتى كأنه ليس بالذي كان[12][.
وقال مهدي بن ميمون: كان محمد بن سيرين يتمثل الشعر ويذكر الشيء ويضحك، حتى إذا جاء الحديث من السنة كلح وانضم بعضه إلى بعض[13][.
وعن السرى بن يحيى قال: لقد ترك ابن سيرين ربح أربعين ألفًا في شيء دخله، قال السرى: فسمعت سليمان التيمي يقول: لقد تركه في شيء ما يختلف فيه أحد من العلماء[14].
وكان ابن سيرين نبراسًا في التعفف، قال عنه هشام بن حسان:كان ابن سيرين إذا دُعي إلى وليمة أو إلى عرس يدخل منزله فيقول: اسقوني شربة سويق، فيُقال له: يا أبا بكر، أنت تذهب إلى الوليمة أو إلى العرس تشرب سويقًا! قال: إني أكره أن أحمل حر جوعي على طعام الناس[15].
بل إنه من شدة ورعة كان يحصي ذنوبه يومه وليلته، فعن عبد الله بن السرى قال: قال ابن سيرين: إني لأعرف الذنب الذي حمل عليَّ به الدين ما هو، قلت لرجل من أربعين سنة: يا مفلس، فحُدِّث به أبا سليمان الداراني فقال: قلَّت ذنوبهم فعرفوا من أين يؤتون، وكثُرت ذنوبي وذنوبك فليس ندري من أين نؤتَى[16].
وقد كان له مع فقهه وورعه نصيب وافر من العبادة، فعن أنس بن سيرين قال كان لمحمد بن سيرين سبعة أوراد يقرؤها بالليل، فإذا فاته منها شيء قرأه من النهار[17]، وعن ابن شوذب قال: كان ابن سيرين يصوم يومًا ويفطر يومًا، وكان الذي يفطر فيه يتغدى فلا يتعشى ثم يتسحر ويصبح صائمًا[18].
فقهه وحكمته:
لم يكن ابن سيرين عابدًا ورعًا تقيًّا فحسب، بل هو من التابعين الذين جمعوا بين جمال العبادة وعظمة العلم، عن عثمان البتي قال: لم يكن بالبصرة أحد أعلم بالقضاء من ابن سيرين[19]، وقال عوف الأعرابي: كان ابن سيرين حسن العلم بالفرائض والقضاء والحساب[20].
ولقد أتاه الله تعالى الحكمة في الفتيا، فعن يحيى بن عتيق قال: قلت لمحمد بن سيرين: الرجل يتبع الجنازة لا يتبعها حسبة، يتبعها حياء من أهلها له في ذلك أجر؟ قال: أجر واحد! بل له أجران؛ أجر لصلاته على أخيه، وأجر لصلته الحي[21].
وقد كان مع ذلك متواضعًا لا يرى لنفسه فضل، فقد سئل مرة عن فتيا فأحسن الإجابة فيها، فقال له رجل: والله يا أبا بكر، لأحسنت الفتيا فيها أو القول فيها، قال: وعرَّض كأنه يقول ما كانت الصحابة لتحسن أكثر من هذا، فقال محمد: لو أردنا فقههم لما أدركته عقولنا[22].
وقد كان مع فقهه حكيمًا في نظرته لأمور العباد وما ينفعهم في الدنيا، وكيف يُعرف الصالح من غيره، فعن أيوب قال: كان محمد بن سيرين يقول: لا تكرم أخاك بما يشق عليك[23]، وعن الأصمعي قال: لقيت ابن أبي عطارد وهو شيخ هرم، فقلت له: ما حفظت عن أبيك عن ابن سيرين؟ قال: حدثني أبي أن محمد بن سيرين قال له: انكح امرأة تنظر في يدك ولا تنكح امرأة تكون أنت تنظر في يدها[24]، وعن حماد بن زيد عن هشام قال: سمعت بن سيرين يقول: المسلم المسلم عند الدرهم والدينار[25].
تأوليه للرؤيا:
ومع فقهه وورعه وعبادته، فقد فتح الله عليه بابًا آخر من أبواب الخير، التي لم يفتحها لكثير من عباده، ألا وهو تأويل الرؤيا، فعن وهب بن جرير عن أبيه قال: كان الرجل إذا سأل ابن سيرين عن الرؤيا قال له: اتق الله في اليقظة لا يضرك ما رأيت في المنام[26]، وعن مغيرة بن حفص، قال: سأل رجل ابن سيرين فقال: رأيت كأن الجوزاء تقدمت الثريا، قال: هذا الحسن يموت قبلي، ثم أتبعه، وهو أرفع مني[27]، وقد كان فقد مات الحسن البصري قبله.
وقد جاء عن ابن سيرين في التعبير عجائب يطول الكتاب بذكرها، وكان له في ذلك تأييد إلهي، وقد جمع بعضًا من ذلك في كتابه المعروف: تفسير الأحلام.
تمسكه بالسنة:
كان ابن سيرين من أشد الناس تمسكًا بالسنة القولية والعملية، قال ابن عون: كان محمد يأتي بالحديث على حروفه، وكان الحسن صاحب معنى[28].
ولهذا فقد قال رحمه الله عبارات مشرقة سطر بها الكثير من المحدثين مقدمات مصنفاتهم في جمع أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن ابن عون عن محمد بن سيرين قال: إن هذا العلم دين؛ فانظروا عمن تأخدون دينكم[29]، وعن عاصم الأحول عن محمد بن سيرين قال: لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا: سمُّوا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيوخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدعة فلا يوخذ حديثهم[30].
وقال كان لابن سيرين رأيًا حازمًا في أحداث عصره والفرق التي ظهرت وكثرة البدع والأهواء، فعن ابن عون قال: كان محمد يرى أن أهل الاهواء أسرع الناس ردة، وأن هذه نزلت فيهم: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 68][31]، وعن شعيب بن الحبحاب، قلت لابن سيرين: ما ترى في السماع من أهل الاهواء؟ قال: لا نسمع منهم ولا كرامة[32].
وفي يوم من الأيام دخل رجلان من أصحاب الأهواء على محمد بن سيرين فقالا: يا أبا بكر نحدثك بحديث، قال: لا، قالا: نقرأ عليك آية من كتاب الله، قال: لا، لتقومان أو لأقومن[33].
وكان له مواقف من البدع التي انتشرت في زمانه، حيث نبَّه على خطورتها بقوله: (ما أخذ رجل بدعة فراجع سنة)[34]، مشددًا على أهمية السير على السنة بقوله: (مادام على الأثر فهو على الطريق)[35].
ولذلك كانت تلك الشخصة الفريدة لها مواقف من الذين أرادوا الخير والعبادة ولكنهم سلكوا مسلكًا بعيدًا عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روي أنه بلغه أن قومًا يُفضِّلون لباس الصوف فقال: إن قومًا يتخيرون الصوف، يقولون إنهم متشبهون بالمسيح بن مريم، وهدي نبينا أحب إلينا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبس القطن وغيره[36].
وفي مرة قيل له أن ههنا رجالًا إذا قرئ على أحدهم القرآن غُشي عليه، فقال محمد بن سيرين: يقعد أحدهم على جدار ثم يقرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره، فإن وقع فهو صادق، قال أبو عمرو: وكان محمد بن سيرين يذهب إلى أنه تَصنُّع وليس بحق من قلوبهم[37].
موته:
مات ابن سيرين في شهر شوال سنة عشرة ومائة وهو ابن سبع وسبعين سنة بعد الحسن بمائة يوم، وصلى عليه النضر بن عمرو المقرئ من أهل الشام، وقبره بإزاء قبر الحسن بالبصرة، رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جناته.
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.