عبد الكريم أكبر
موقع شؤون إسلامية 23/11/2014
ظل "تيار اليسار الإسلامي" منكمشاً طيلة العقد الأخير من القرن العشرين وذلك لأسباب متعددة أهمها تقهقره أمام الشعبية الواسعة التي تأتت للحركات الإسلامية في أغلب بلدان العالم الإسلامي، وفشله في نقل السياسة إلى ثقافة الأمة عبر استعارة منظومات فكرية أخرى لدراسة "المسألة الدينية الإسلامية"، والاجتهاد في مشاريع تأويلية للقرآن الكريم وإطلاق قراءات حداثية للنصوص الإسلامية لطرح بدائل جديدة.
وقد عرفه أحد رواد هذا التيار، وهو حسن حنفي -الذي احتذى منهج دراسة سبينوزا للتوراة- في دراساته للقرآن الكريم وعلومه بأنه: "حركة تاريخية جماهيرية ثقافية حضارية اجتماعية سياسية…ترتكز على ثلاثة أصول: التراث القديم، والتراث الغربي، والقرآن الكريم".
ووفق هذا المنطلق سار من سموا أنفسهم: "الإسلاميين التقدميين" بدءاً بحسن حنفي في مصر وانتهاء بأحميدة النيفر، وصلاح الدين الجورشي، ومحمد أركون، وعبد المجيد الشرفي، وهشام جعيط وعبد السلام المسدي، مستندين على أن: "أن استخدام العقل على نطاق واسع خاصة داخل الفضاء الديني مسألة مشروعة لا يكتمل الوعي الديني والاجتماعي إلا بها".
ولاحظ بعض أفراد هذا التيار أن التصوف شكل مساحات تجديدية حقيقية في تاريخ التراث الإسلامي يمكن بإعادة قراءتها بناء منظور جديد يتلاءم ومسلمي القرن الحادي والعشرين، وبناء على هذا المفهوم ألف حسن حنفي كتاباً وسمه: "من الفناء إلى البقاء"، عرف فيه "الإصلاح الصوفي" وزعم تفكيك النص الصوفي باعتباره نصاً تاريخياً لا يحمل مقومات الأزلية أو الامتداد التاريخي، وأسعفه ذلك في تأكيد فكرة أنه لا يوجد نص أزلي ثابت على الإطلاق، وأن القرآن الكريم بدوره يخضع لعملية التجديد.
فكرة حسن حنفي حول محورية التصوف في التراث الإسلامي والإمكانيات المتاحة من خلاله لتطوير الخطاب الإسلامي وتجديد الخطاب الديني صارت بعد الربيع العربي شعاراً كبيراً لِلَمِّ شتات مفكري هذا التيار وأشياعهم من الحداثيين لمجابهة انتشار الحركات الإسلامية، ولما كان مشروع التصوف السياسي ومشروع اليسار الإسلامي يتقاطعان في مجابهة حركات الإسلام السياسي فقد وجدا في دولة الإمارات السند والنصير.
وإذا كانت مؤسسة طابة الصوفية قد لملمت شتات خريجي مدارس التعليم الديني العتيق في العالم الإسلامي من صوفية أبناء الغرب (أمريكيين وأوربيين)، لتشكل تحالفاً صوفياً عالمياً تمخض عنه مجلس: "حكماء المسلمين" بقيادة الصوفيين عبد الله بن بيه وأحمد الطيب؛ فإن مؤسسة "مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث" (التي تأسست سنة 2013) جاءت لتجمع فلول اليسار الإسلامي بأقرانهم من الحداثيين للعب دور جديد في بلدان "الربيع العربي"، فكانت حسب وصف محمد الهيلالي مدير المركز المغربي للأبحاث والدراسات المعاصرة محاولة مدعومة من مؤسسات إماراتية كثيرة لمحاصرة فكر التجديد والردة على الربيع.
وكما حشدت مؤسسة طابة الطاقات لشيطنة الحركات الإسلامية وبناء مرجعية صوفية-أزهرية، فإن مؤسسة مؤمنون بلا حدود رامت شيطنة فكر الحركات الإسلامية مدعية "أنسنة الدين"، وكرست اهتماماتها نحو: "دراسة منظومة الأفكار المؤسسة للعقل الثقافي الكلي في المنطقة"، وسعت في الشق العملي إلى: "اختبار اجتهادات المفاعيل الثقافية والفكرية والمجتمعية في الفضاء العربي الإسلامي، نظرياً وواقعياً". وسلكت إلى ذلك: "سبيل النقد المنفتح في مراجعة كافة الأفكار دون انحياز إلا لما يحقق مصلحة الإنسان في واقعه ومعاشه"، وجعلت من بين أهدافها:
_ تفكيك الأُسس والقواعدِ الفكريةِ لظواهر الفكر والثقافة المغلقة والإقصائية.
_ دعم الدراسات والبحوث الاجتماعية والفكرية والدينية القائمة على أسسٍ علميةٍ وعقلانية.
_ بناء الكفاءات العلمية والكوادر البحثية القادرة على البحث العلمي في قضايا التجديد والإصلاح الثقافي والديني بشكلٍ مُعمقٍ ورصين.
_ تنسيق ودعم التواصل والتعاون بين الباحثين والمفكرين والمؤسسات الذين تتقاطع اهتماماتهم وأعمالهم مع رسالة المؤسسة.
_ إيصالُ صوت التيار التجديديّ الجادِّ لمختلف الشرائح الاجتماعية.
تشترك "مؤمنون بلا حدود" واتجاه التصوف السياسي الممثل بمؤسسة "طابة" ومجلس حكمائها في كونهما حاولا تجميل صورتهما للغرب، ففي حين قرر الفقيه ابن بيه أن السلم: "تنازل"، وحاول جاهداً إبطال فتوى ابن تيمية في موضوع جهاد الدفع؛ صرح محمد العاني وهو المدير العام لمؤسسة "مؤمنون بلا حدود" أن مؤسسته لا تهتم بالسياسية، مؤكداً أنها: "انبثقت من خلال حاجة ثقافية وفكرية لوجود بديل آخر خارج الإطار البحثي والأكاديمي للتيارات الفكرية الإسلامية التقليدية والسياسية، وخارج التيارات المعرفية الأخرى ذات التوجهات المختلفة سواء العلمانية أو القومية أو الليبرالية أو اليسارية"، وذكر أنها: "تبتغي تجلية العلاقة والتوفيق دون تلفيق بين العلم والدين والأخلاق والسياسة"، نافياً أن يكون له صلة بأي جهة من الجهات. لكن واقع الحال يكشف أن علاقة مؤسسة بلا حدود بالمؤسسات الإماراتية جد وثيق، كما أن مشروعها في إحياء فكر اليسار الإسلامي مكشوف؛ فمجلس أمنائها ضم أحميدة النيفر وهو من الهيئة التأسيسية لمنتدى الجاحظ، ويتكرر ضمن المشاركين في فعالياتها اسم الصحفي صلاح الدين الجوشي وهو من نفس منتدى الجاحظ، يضاف إليهما حسن حنفي زعيم فكر اليسار الإسلامي الذي أطلق مجلة اليسار الإسلامي سنة 1981 والتي اعتبرت آنذاك محاولة للتوفيق بين الإسلام والماركسية.
وفي هذا المجال تجتهد مؤسسة "مؤمنون بلا حدود" في إعادة إنتاج فكر من تعتبرهم أصحاب رؤى تنويرية مثل: السوداني محمد أبو القاسم حاج حمد مؤلف كتاب الحاكمية وكتاب جذور المأزق الأصولي، ومثل المصري حسن حنفي مُنْزِلُ أفكار اليهودي باروخ إسبينوزا حول التوراة على القرآن الكريم، وقد كرمته في مؤتمر نظم بمراكش (17-18مايو 2014) تحت عنوان: "الخطاب الديني: الإشكالات وتحديات التجديد"، كما أحيت كتابات نصر حامد أبو زيد التي كانت محط جدل خلال تسعينيات القرن الماضي.
وقد ألحقت المؤسسة شخصيات معروفة بعدائها للحركات الإسلامية وللسلفية خصوصاً مثل منتصر حمادة أحد مريدي شيخ الطريقة القادرية البوتشيشية، مؤلف: "الإسلاميون المغاربة واللعبة السياسية"، و"قراءة في نقد الحركات الإسلامية"، و"المسلمون وسؤال تنظيم القاعدة"، و"نحن وتنظيم القاعدة"، و"نحن والتصوف"، و"في نقد تنظيم القاعدة: مساهمة في دحض أطروحات الحركات الإسلامية الجهادية"، و"زمن الصراع على الإسلام"، و"الوهابية في المغرب".
كما انفتحت المؤسسة على أقلام اشتهرت بقراءات تجفيفية للثقافة الإسلامية مثل عبد المجيد الشرفي، وأقلام دأبت على قرع دفوف مختلفة كاللبناني رضوان السيد الذي شارك في منتدى تعزيز السلم الأهلي في المجتمعات الإسلامية، والذي أعلن غير مرة أن "فشل حركات الإسلام السياسي كان مدوياً، سواء تعلق الأمر بتجربة الإخوان المسلمين أو التيارات السلفية أو دعاة ولاية الفقيه"، ودعا في مناسبات عديدة للإبقاء على دور المؤسسات الدينية التقليدية كالأزهر في مصر والزيتونة في تونس والقرويين في المغرب والمؤسسة الدينية في السعودية مع "إعادة تأهيلها وتحريرها من نفوذ الإسلاميين وأجهزة الحكم الدكتاتورية".
وفي إطار مشروعها لأنسنة الدين؛ اتهمت المؤسسة بالترويج لفكرة وحدة الأديان، وهي فكرة لقيت رواجاً بين أهل التصوف من أمثال ابن عربي المرسي وابن الفارض وجلال الدين الرومي، كما سعى القائمون عليها إلى الترويج لفكرة حصر الدين في الدولة عبر التهليل للدولة المدنية ذات الوعاء العلماني الذي تتوافق فيه كل الأطياف الدينية والمذهبية والثقافية والعرقية على قيم خارج الدين، بينما يصبح الدين فيها شأناً فردياً مهمته ضبط سلوك الأفراد وتوجيهها في علاقة أحادية مع الخالق.
جدير بالذكر أن توطين مؤسسة "مؤمنون بلا حدود" في المغرب يتعدى ما صرح به محمد العاني في حواره مع نور الدين علوش المنشور بجريدة العلم المغربية (31 يناير 2014)، إذ إن موقعها قد اختير بعناية ليكون منصة قريبة من "تونس" البلد الذي انطلقت منه شرارة ثورة الياسمين، واحتضن منتدى الجاحظ الذي آل على نفسه (منذ حصوله على تأشيرة العمل القانوني في 12 يونيو 1990) تطوير فكرة حسن حنفي التي تقوم على أن: "استخدام العقل على نطاق واسع خاصة داخل الفضاء الديني مسألة مشروعة، ومسألة لا يكتمل الوعي الديني والاجتماعي إلا بها".
وكما يلجأ أهل التصوف إلى الذوق لتوجيه نص الوحي خارج قواعد أهل الشريعة، أمعن النيفر سادن خط البحث في "مؤمنون بلا حدود" وشيعته في إعمال العقل في القرآن الكريم بلا حدود، ولم يجدوا غضاضة في التماس آليات في النظر مستعارة من منظومات دينية وثقافية أخرى.
جدير بالذكر أن هذه المؤسسة الموطنة في المغرب الأقصى قد شكلت غرفة عمليات ميدانية لمواجهة صعود فكر أهل النهضة في تونس، وتم اختيار الموقع بعناية للتفاعل مع فورة الحليف الصوفي في ذلك البلد المالكي الاشعري الجنيدي، وقربه من الحليف الغربي، وعلاقته بالممول الإماراتي، وذلك بالتوازي مع المحور الصوفي الرابط بين أبو ظبي والقاهرة والرباط، والذي يعرض نفسه على أنه المحور الوسطي المعتدل المهيأ لمحاصرة التشدد والتطرف والغلو، والأمثل للحوار مع الغرب المسيحي.
وتبقى القواسم البارزة بين أهل "طابة" و"مؤمنون بلا حدود" متمثلة في: اصطفافهما ضد الحركات الإسلامية، ووسم التيارات السلفية بالتشدد، وادعائهما امتلاك ناصية الفهم المعتدل، وذلك بالارتكاز على التمويل السخي من دولة الإمارات العربية المتحدة التي تعمد إلى الحط من المرجعيات الدينية الأخرى ومناكفة المملكة العربية السعودية في الشأن الخارجي.
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.