مشروعية الرد على الشبهات من مذهب الصحابة

مشروعية الرد على الشبهات من مذهب الصحابة







الحمدُ للهِ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على رسولِ اللهِ أما بعد: كان الصحابةُ مرجعَ الإفتاء ونبعَ الاجتهاد حينما طرأت حوادثُ جديدةٌ، ووقعت وقائعُ لا عهد للمسلمين بها في حياةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، وكانوا في الإفتاء متفاوتين بتفاوت نضوجهم الفقهي، فأَثَرَ عن جملةٍ منهم كثيرٌ من الفتاوى بحيث يكوِّن المجموعُ مجلدًا ضخمًا، إلا أنه منثورٌ في بطون كتب العقيدة والسُّنة والفقه.

ولا يوجدُ خلافٌ في حجيةِ قولِ الصحابي، فما أجمعَ عليه الصحابةُ صراحةً أو كان مما لا يُعرف له مخالفٌ - كما في توريثِ الجدات السدس - يُعتَدُّ به، ولا خلافَ أيضًا في أن قولَ الصحابي اجتهادًا ليس حجةً على صحابيٍّ آخر، لأن الصحابةَ اختلفوا في كثيرٍ من المسائل، ولو كان قولُ أحدِهم حجةً على غيرِه لما جاء منهم هذا الخلاف.

إنما الخلافُ في فتوى الصحابي بالاجتهاد المحض بالنسبة للتابعي ومن بعده، هل يُعتبرُ حجةً شرعيةً أو لا؟ فذهب جمهورُ العلماءِ إلى أنه حجةٌ شرعيةٌ مقدمةٌ على القياس، حيث قال به الإمام أبو حنيفة وأئمة الحنفية، والشافعي في قول قديم له، وأحمد في رواية له وهي الراجحة على مذهبه([1]).

وقد لزم أهلُ السُّنة منهجَ الصحابةِ في كلِّ شيء، وكان شيخُ الإسلامِ من أشدِّهم تمسُّكًا به؛ حيث يرى (أن معرفةَ مرادِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم ومرادِ الصحابةِ هو أصلُ العلمِ وينبوعُ الهدى)([2])، ولا يرى طريقًا أفضل من طريقِهم، ومن قال بغير ذلك فهو مخطئٌ ضالُّ مبتدع([3])، ويرى أن علماء الإسلام يتَّبِعون أصولًا ثلاثة في إثبات الأحكام الشرعية لا يجوزُ إثباتُ حكمٍ شرعيٍّ بدونها، واحدٌ منها سبيلُ السابقين الأولين، والأخرى كتابُ الله عز وجل وسنَّة رسولِه صلى الله عليه وسلم([4]).

وقال: (وما أحسن قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حيث قال: أيها الناس، من كان منكم مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ بمن قد مات، فإن الحيَّ لا تؤمنُ عليه الفتنة، أولئك أصحابُ محمدٍ كانوا أفضل هذه الأمة؛ أبرها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، قومٌ اختارهم اللهُ لصحبةِ نبيِّه وإقامةِ دينِه، فإنهم كانوا على الهدى المستقيمِ.

ولهذا أحسنَ الشافعيُّ - رحمه الله - في قوله: هم فوقنا في كلِّ علمٍ وفقهٍ ودينٍ وهُدى، وفي كل سببٍ يُنَالُ به علمٌ وهدى، ورأيُّهم لنا خيرٌ من رأينا لأنفسِنا، وقال أحمدُ بن حنبل: أصولُ السُّنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحابُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)([5]).

وللصحابةُ رضي الله عنهم مواقف عديدة وأقوال كثيرة، تدلُّ على مشروعية الردِّ على الشبهات؛ فمنها مثلًا:

الدليل الأول:

روى ابن جرير بسنده، عن ابن عون، عن الحسن البصري: (أن أناسًا سألوا عبدَ الله بن عمرو بمصر، فقالوا: نرى أشياءَ من كتابِ اللهِ عز وجل أمرَ أن يُعمل بها فلا يُعمل بها، فأردنا أن نلقى أميرَ المؤمنين في ذلك، فقدم وقدموا معه .. فلقى عمرَ رضي الله عنه.

فقال: متى قَدِمْتَ؟

قال: منذ كذا وكذا.

قال: أَبِإِذْنٍ قَدِمْتَ؟

قال الحسن: فلا أدري كيف ردَّ عليه.

فقال: يا أميرَ المؤمنين، إن أناسًا لقوني بمصرَ، فقالوا: إنا نرى أشياء في كتابِ اللهِ أمرَ أن يُعمل بها فلا يُعمل بها، فأحبُوا أن يلقوك في ذلك.

قال: فاجمعْهُم لي.

قال: فجمعتُهم له - قال ابن عون: في بهو - فأخذ أدناهم رجلًا فقال: أُنْشِدُكَ اللهَ وبحق الإسلام عليك؛ أقرأت القرآنَ كله؟!

قال: نعم.

قال: فهل أحصيتَه في نفسك؟ - يعني: هل استقصيت العمل به في صحيح نيتك وتطهير قلبك ومحاسبة نفسك؟

قال: لا - ولو قال نعم لخصمه - أي: لأفحمه وألزمه الحجة.

قال: فهل أحصيتَه في بصرِك؟ فهل أحصيتَه في لفظِك - أي كلامك -؟ فهل أحصيتَه في أثرك - أي خطواتك ومشيك -؟

ثم تتبعهم حتى أتى على آخرِهم وهو يسألُهم: هل استقصيتُم العملَ بكتابِ اللهِ كلَّه في أنفسِكم وجوارحِكم وأقوالِكم أوفعالِكم، حركاتِكم وسكناتِكم، وهم يجيبون: اللهمَّ لا.

فقال عمر: ثكلتْ عمرَ أمُّه، أتكلفونه أن يقيم الناسُ على كتابِ اللهِ - أي بالصورة التي تفهمونها أنتم، ولم تقيموها في أنفسكم باعترافكم - قد علم ربُنا أن ستكون لنا سيئات ... وتلا: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31].

ثم قال: هل عَلِمَ أهلُ المدينة؟ أو قال: هل عَلِمَ أحدٌ بما قدمتم؟ - أي: يقصد عمر رضي الله عنه هل انتشرت الشبهةُ التي جئتُم بها بين الناسِ في المدينةِ -.

قالوا: لا.

قال: لو علموا لَوَعَّظْتُ بكم)([6]).

في القصةِ دلالةٌ صريحةٌ على مشروعيةِ الردِّ على الشبهات وإزالتِها عن نفوسِ أناسٍ وقعوا فيها، حيث لما رأوا بأن هناك أوامر في كتابِ اللهِ لا يُعْملُ بها؛ جاءوا إلى عبد الله بن عمرو، وذكروا ذلك عنده وجاءوا ليلقوا أميرَ المؤمنين في ذلك، فكأنهم اعتقدوا بأنه لابد من امتثالِ جميع ما أمر الله به في كتابه للحصول على غفرانه ورضاه والنجاة في الآخرة، فأزال أميرُ المؤمنين عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه شبهتَهم، حيث أمر بجمعهم له، ثم أخذ أدناهم رجلًا فقال: (أُنْشِدُك باللهِ وبحق الإسلام عليك؛ أقرأتَ القرآنَ كلَّه؟

قال: نعم.

قال: فهل أحصيتَه في نفسِك؟! - أي هل استقصيت العمل به في تصحيحِ نيتك، وتطهير نفسك، ومحاسبة نفسك؟! -، قال اللهم لا.

قال: فهل أحصيتَه في بصرِك؟ فهل أحصيتَه في لفظِك - أي كلامك -؟ فهل أحصيتَه في أثرك - أي خطواتك ومشيك -؟

ثم تتبعهم حتى أتى على آخرِهم ... فقال عمر: ثكلتْ عمرَ أمُّه، أتكلفونه أن يقيم الناسُ على كتابِ اللهِ - أي بالصورة التي تفهمونها أنتم، ولم تقيموها في أنفسكم باعترافكم - قد علم ربُنا أن ستكون لنا سيئات ... وتلا: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31]).

فزالت شبهتُهم وبانَ الأمرُ لهم، كما يدلُّ آخرُ كلامِ أميرِ المؤمنين رضي الله عنه على حزمِه وشدتِه لمنعِ الشبهة من الانتشار؛ حيث قال: (... لو عَلِمُوا لَوَعَّظْتُ بكم)؛ أي لجعلتكم عظةً ونكالًا لغيرِكم.

وهكذا، وبهذا الواعي لمصالح الدين والأمة والفقه لكتاب الله، حسم أميرُ المؤمنين القضيةَ من بدايتها، وسدَّ بابَ الشبهةِ والتشدُّدِ والتنطعِ، ولو كان تساهلَ فيه لربما هبَّتْ منه رياحُ شبهةٍ وفتنةٍ لا يعلمُ إلا الله تعالى عواقبَها([7]).

الدليل الثاني: حوارُ ابنِ عباس رضي الله عنه مع الحروريةِ من الخوارجِ، ومناقشته إياهم في ادِّعَائهم للردِّ على شبهاتهم بغية إزالتها عنهم، وبيان ما هو الحق والصواب في الأمر([8]).

شبهات الحرورية:

- عدم لبس الثياب الحسنة.

- حَكَّمَ عليُّ رضي الله عنه الرجالَ في أمر الله، والله يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف: 40].

- قاتلَ عليُّ معاويةَ - رضي الله عنهما - ولم يسبِ ولم يغنم، فلئن كانوا مؤمنين لم يحل قتالهم، ولئن كانوا كافرين حلَّ قتالهُم وسبيُهم.

- ومحَّا نفسه من إمارة المؤمنين، فإن لم يكن أميرَ المؤمنين فهو أميرُ الكافرين.

هذه كانت شبهاتُ الحروريةِ، تناولَ ابنُ عباسٍ رضي الله عنه جميعَها واحدةً واحدةً، من خلال الحوار الذي تقدَّم ذكرُه، وردَّ عليهم بأدلةٍ قويةٍ من العقلِ والنقلِ، أقنعَ بها الكثيرَ منهم وأفحمَ الجميعَ؛ فرجعَ منهم الكثيرُ.



الهوامش

([1]) أصول الفقه الإسلامي، د.وهبه الزحيلي، (2/880،279،879)، ط 2، 1418هـ – 1998، دار الفكر، دمشق.

([2]) منهج ابن تيمية في الدعوة، د.عبد الله بن ريد الحوطان، (1/143)، أصله رسالة الدكتوراة مقدمة في كلية الدعوة والإعلام، العام الجامعي 1413هـ.

([3]) المرجع السابق، (1/143).

([4]) المرجع السابق، (1/143).

([5]) منهاج السنة النبوية، ابن تيمية، (6/81)، تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم، طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1414هـ – 1991م.

([6]) جامع البيان، ابن جرير الطبري، تحقيق: د.عبد الله بن عبد المحسن التركي، بالتعاون مع مركز البحوث والدراسات العربية والإسلامية بدار هجر، (6/658)، ط 1، 1422هـ – 2001م، دار هجر للطابعة والنشر، القاهرة.

([7]) الحوار بين أهل الحق وأهل الباطل، إعداد إدارة الأبحاث والنشر، ص(95، 96).

([8]) انظر الحوار في مبحث "منهج الصحابة في الرد على الشبهات".

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
مشروعية الرد على الشبهات من مذهب الصحابة.doc doc
مشروعية الرد على الشبهات من مذهب الصحابة.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى