الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، ثم أما بعد؛ فمعنى المرض:فساد المزاج، وإظلام الطبيعة واضطرابها بعد صفائها واعتدالها، وقيل: هو حالة خارجة عن الطبع ضارة بالفعل، قال الأصمعي قرأت على ابن عمر وابن العلا: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة: 10] فقال المرض يا غلام – أي بالسكون – والجمع أمراض. يقال: مرض يمرض مرضًا فهو مارض من باب نصر، وهي لغة قليلة الاستعمال[1].
ومرض القلب في الاصطلاح: عرفه شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: "هو نوع فساد يحصل له يفسد به تصوره، وإرادته، فتصوره، بالشبهات التي تعرض له حتى لا يرى الحق أو يراه على خلاف ما هو عليه، وإرادته بحيث يبغض الحق النافع ويب الباطل الضار، فلهذا يفسر المرض تارة بالشك والريب[2].
وعرفه الإمام الغزالي بقوله: "مرض القلب أن يتعذر عليه فعله الذي خلق لأجله وهو العلم والحكمة والمعرفة وحب الله وعبادته والتلذذ بذكره {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56] .
وهنا نلاحظ أن التفسير الاصطلاحي يطابق اللغوي في أنه علة أو فساد أو حالة ضارة بالطبع ولا خلاف بين الغزالي وابن تيمية في هذا المفهوم لأن صاحب المرض ينكر الحق فالقلب كلما وردت عليه شبهة أو شهوة قوت مرضه قال تعالى: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الحج: 53].
حقيقة مرض القلب وهل هو يعدي؟
قال تعالى: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 14]، فهناك من الأمراض ما يؤلم القلب في الحال كالحزن والهم والغم والغيظ، وهذا قد يزول بالأدوية الطبيعية كإزالة أسبابه، أو بما يضاده فلا شك أن البدن يتألم تبعًا للقلب بسببها فمثلًا دواء الجهل يصحل بالعلم.
فالقلوب إذا تمرض ومرضها يعدي فهو رجس الشيطان الناتج عن الوسوسة قال تعالى: {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [يونس: 100]
فكلما يزداد قرب الإنسان من الشيطان يستولي على قلبه حتى يصير مرضًا، وهو بدوره خطر على بني جنسه بأنه شيطان الأنس قال تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 19]
ومن ثم يتراكم المرض حتى يؤدي إلى الكفر قال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 125]، وكما شرحته السنة في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا فأي قلب اشربها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى يصير على قلبين، على أبيض مثل الصفاء فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسودًا مربادًا كالكوز مجخيًا لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب منه هواه". وهذا يقودنا إلى معرفة الأسباب التي تسبب الرجس في القلوب، ومن ثم كيف نتخلص منها؟!
علامات مرض القلب وصحته:
قد يمرض القلب ويشتد مرضه ولا يعرفه صاحبه لانشغاله عن معرفة الصحة وأسبابها بل قد يموت ولا يشعر بموته! وعلامات ذلك أنه لا يؤلمه إجتراح السيئات والجهل بمعرفة الله تعالى، فإن القلب إذا كان فيه حياة تألم بحسب حياته فكلما صح ترحل إلى الآخرة وقرب منها حتى يصير من أهلها والعكس تمامًا، فكلما تلهى عن الآخرة آثر الدنيا واستوطنها حتى يصير من أهلها.
وفي هذا يقول ابن القيم رحمه الله: "من علامات أمراض القلوب عدولها عن الأغذية غذاء الإيمان، وأنفع الأدية دواء القرآن، ومن علامات صحته – أي القلب – أنه يرتحل عن الدنيا حتى ينزل بالآخرة، ومن علامات صحته أنه لا يزال يضرب على صاحبه حتى ينيب إلى الله تعالى ويخبت إليه..".
ويقول الإمام الغزالي: "فمن عنده شيء أحب إليه من الله فقلبه مريض، ومرض القلب مما لا يعرفه صاحبه فلذلك يغفل عنه، على مرارة دواءه، وهو مخالفة الشهوات، وإلا أقبل على حب الدنيا، وأعمال ظاهرها، وباطنها عادات وهذه علامات أصول الأمراض.[3]
ونخلص من هذا كله بأن الخطايا تمرض القلب، والتقوى تقيه، والاستغفار ينقيه.
وخلاصة الأمر فإن قول الغزالي يدعم قول ابن القيم.
الهوامش:
الهوامش:
[1] محيط المحيط، بطرس البستاني، ص 846.
[2] مجموع فتاوى شيخ الإسلام بن تيمية، ج10، ص61.
[3] إحياء علوم الدين، ج 3، ص 60.
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.