الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ شبهةُ استدلالهِم بالنصوصِ الدالةِ على حفظِ عمومِ الأمةِ من الشركِ، أو عدمِ الخوفِ على الأمةِ منه، فقد تمسكوا فيها بالنصوصِ الدالةِ على يأسِ الشيطان أن يُعبدَ في جزيرةِ العربِ، والنصوصِ الدالةِ على عدمِ خوفِ النبي صلى الله عليه وسلم الشركَ على أمته.
فمن ذلك ما رواه مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: »إن الشيطانَ قد أيسَ أن يعبدُه المصلون في جزيرةِ العرب، ولكن في التحريشِ بينهم« ([1])، وما كان في هذا المعنى من النصوصِ؛فقالوا: إن هذا أمانٌ من النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الأمةِ أن تقعَ في الشركِ([2]).
ويمكن أن يحلق بذلك ما يستدلون به من نهي النبيِّ صلى الله عليه وسلم أن يبقى دينان في جزيرةِ العربِ([3])؛ فيقولون: هذا أمانٌ للجزيرةِ أن يكون فيها غيرَ دينِ الإسلام، وكذلك إخبارُ النبي صلى الله عليه وسلم عن أروزِ الإيمانِ إلى المدينة([4])، فيعرضونه في مقامِ حفظِ الأمةِ من الشركِ، فما يكون في المدينةِ من الاستغاثات والتوسلات بالأموات فهو محلُّ إيمانٍ لا شرك([5]).
الرد:
أولًا: ما يتعلقُ بحديثِ يأسِ الشيطان أن يُعبد في جزيرةِ العربِ: فالحديثُ ثابتٌ من عدةِ طرقٍ عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم، وإن كان بعضُ طرقِه لا تخلو من مقال، إلا أن ذلك لا يضر؛ لسلامةِ الطرقِ الأخرى، لكن استدلالهم بالحديثِ على عدمِ وقوعِ أحدٍ من الأمةِ في الشركِ فباطل، والجوابُ عليه من وجوه:
o معارضتُه للأحاديث الثابتةِ الدالةِ على وقوعِ طوائفَ من الأمةِ بالشرك، ولحوقِها بالمشركين، وما كان من ارتدادِ طوائف من الأمةِ عن الإسلامِ بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
o الحديثُ فيه الإخبارُ عن يأسِ الشيطان من أن يُعبَدَ في جزيرةِ العرب، ويأسُالشيطان ليس حكمًا قدريًّا نافذًا، بحيث إن خالفَه الواقعُ في زمنِمن الأزمان يكون ذلك معارضة لقدرٍ أخبرَ عنه الشارع.
o الحديثُ فيه تخصيصُ جزيرة العربِ بذلك، ومعناه أن غيرها لا يشمله ذلك، وهذا حجةٌ على المبتدعةِ في استدلالهم بالحديثِ على أن الشركَ لا يكون في الأمة، إذ أن حدودَ الأمةِ أوسع من جزيرةِ العرب.
o أن مِنْ أهلِ العلمِ من حملَ الحديثَ على عمومِ الأمة([6])، فقد قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله -: »المراد أنه يئسَ أن تجتمعَ الأمةُ كلها على الشركِ الأكبر<<.
o أن في بعضِ ألفاظِ طرقِ الحديثِ جاء تقييدُ الميئوس منهم بالمصلِّين، فيحتمل أن يكون اليأسُ واقعًا على أناسٍ مخصوصين بناءً على أن (ال) تكون للعهد، وأن يُراد بهم الكاملون فيها.
ثانيًا: فيما يتعلقُ بما يستدلون به من فضائل الجزيرةِ والحرمين وأروزِ الإيمانِ إلى المدينةِ والنهي أن يبقى دينان في جزيرةِ العربِ؛ بأن هذا يدلُ على أن هذه الديارُ ديارَ إيمانٍ لا شرك، والجواب:
o هذا ليس في محلِّ المنازعة، إذ لا تعارض بين هذه الفضائل، وبين أن يقعَ أحدٌ من الأمةِ في الشرك، أو أن يعيش في تلك البقاعِ من هو من أهلِ الشركِ والضلالِ، ولقد كانت المدينة خيرَ ما كانت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لم تخلُ من المنافقين الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبُهم.
o بل قد جاء في أحاديث الدجالِ مايدلُ على أن المدينةَ يكون فيها كفارٌ ومنافقون، كما جاء في الصحيحين من حديثِ أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: »ليس من بلد إلا سيطؤه الدجالُ، إلا مكة والمدينة، ليس له من نقابِها نقبٌ إلا عليه الملائكةُ صافين يحرسونها، فثمَّ ترجفُ المدينةُ بأهلِها ثلاث رجفات فيُخرِج اللهُ كلَّ كافرٍ ومنافق« ([7]).
([2])شفاء السقام للسبكي، ص(250)، الصواعق الإلهية لسليمان بن عبد الوهاب، ص(116-119)، صلح الإخوان لابن جرجيس، ص(144)، البراهين الساطعة للقضاعي، ص(384).
([3])ومن ذلك ما رواه أحمد في المسند،(6/274)، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: >>كان آخر ما عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال:لايترك بجزيرة العرب دينان<<.
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.