الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ شبهةُ قولِهم إن إقرارَ المشركين بوحدانيةِ اللهِ تعالى في الربوبيةِ إنما هو في حالِ المناظرةِ والمجادلةِ فقط، وبعد ذلك يرجعون إلى اعتقادِ الربوبيةِ في آلهتهم([1])، ومنهم من يفسر بذلك قولَ اللهِ تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}[يوسف: 106].
الرد:
أولًا: هذا مخالفٌ لما عليه أئمةُ التفسيرِ من الصحابةِ والتابعين لهم بإحسان، وقد تقدَّمَتْ أقوالهُم بأن المشركين كانوا يقرِّون بأن اللهَ تعالى هو خالقُهم ورازقُهم ومع ذلك يشركون معه غيره في العبادةِ، فهذه حالٌ واحدة فيهم - من غير حالِ الضراء - منطوية على أمرين مجتمعين؛ وهما الإقرارُ بوحدانيةِ اللهِ تعالى في ربوبيته والإشراك في عبادته.
ثانيًا: أن ذلك مخالفٌ لقوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}[يوسف: 106]، فجملة "وهم المشركون" حاليَّة، والمقرر في علمِ البلاغةِ أن الحالَ قيدٌ لعاملها ووصفٌ لصاحبها، وعليه فإن عامل هذه الجملة الحالية الذي هو (يؤمن) مقيدٌ بها، فيصير المعنى تقييد إيمانِهم بكونهم مشركين، فهذه حالٌ واحدةٌ اجتمع فيها الإيمانُ والشرك، وقد مرَّ توجيهُ ذلك بأن الإيمانَ هو اللغوي لا الإيمان الشرعي الذي هو مقابلُ الكفرِ([2]).
ثالثًا: أن المشركين يصرِّحُون بأن ما يعبدونه من دونِ اللهِ تعالى إنما هم وسطاء وشفعاء لهم إلى الله سبحانه وتعالى، وأنهم - أي الآلهة التي يعبدون - مخلوقونَ مربوبون للهِ، وهذه أمورٌ يقرِّون ويصرِّحُون بها، وليس ثمَّة مناظرة ولا مجادلة، كما كانوا يقولون في تلبيتهم: »لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريكَ لك، إلا شريك هو لك تملكُه وما مَلَك« ([3])، وكذلك ما هو منقولٌ من أشعارِهم ومنثورِهم مما فيه الدلالةُ على إقرارِهم بربوبيةِ اللهِ تعالى.
رابعًا: هَبْ أن ذلك الإقرار منهم كائنٌ حالَ المناظرةِ والمجادلةِ، إذا هم قومٌ وقَّافُون عند الحقِّ حين يخاصِمون فيه فيرجِعون إليه ويقرِّون به! فلماذا لا يكون ذلك حالُهم في كلِّ ما يُقام عليهم فيه حجة؟! أتُراهم أقرُّوا بالرسالة وقد ظهرت لهم دلالاتُها حتى علموا في قرارةِ أنفسِهم أنها ليست من عند محمد صلى الله عليه وسلم؟! أتُراهم أقرُّوا بالبعثِ والنشورِ وقد قامت الدلائلُ عليه في كتابِ اللهِ تعالى بأبلغ بيانٍ وأظهر حجة؟!
الهوامش
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.