محمد بن عبد الله المقدي
في خضمِّ الأمواج المتلاطمةِ مِنَ التياراتِ الفكريةِ وَالعقديةِ، وَفي خضمِّ المدنيةِ المُرهِقةِ وَثورةِ الجسدِ وَهزالِ الروحِ، يقفُ الإنسانُ حائرًا يبحثُ عنْ طريقٍ للخلاصِ، وَمنفذٍ للنجاةِ، وَسبيلٍ يأنسُ إليه وَيعيشُ في كنفِه، موفورَ الكرامةِ مستريحَ البالِ مطمئنَ النفسِ، وَيتساءلُ بلهفةٍ: أينَ أجدُ الحياةَ الطيبةَ وَالسعادةَ الحقيقةَ؟ أينَ أجدُ ربيعَ النفسِ وَسلوَ القلبِ وَبهجةَ الروحِ؟ أينَ أجدُ راحةَ البالِ وَأنسَ الخاطرِ؟ أفِي هذه الحياة الدنيا محلٌّ للسعادةِ؟ أمْ هيَ دارٌ للعملِ وَالنَّصَبِ وَالكدحِ؟
الحياةُ في القرآنِ ... نظراتٌ وَتأملاتٌ:
إنَّ هذه الحياةَ الدنيا خلقَها اللهُ - جل وعلا - للابتلاءِ والاختبارِ ليتميزَ العاملون؛ فاللهُ {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك:2].
وَهذه الحياةُ أُنْسُها منقطعٌ وَلذتُها فانيةٌ وَراحتُها يتبعُها أتراحٌ، وَهي دارُ ممرٍّ لا دار مقرٍّ، {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر:39] بلْ إنَّ الاطمئنانَ إلى هذه الحياةِ الدنيا وَالرضا بها وَالإعراضَ عن الآخرةِ مِنْ صفاتِ الغافلين: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} [يونس:7].
وَمِنْ أسبابِ العقوبةِ عندَ اللهِ تعالى محبةُ الدنيا الملهيةُ عن الآخرةِ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [النحل:107]، وَقدْ نهى اللهُ عمومَ الناسِ عن الاغترارِ بالحياةِ الدنيا؛ فقالَ سبحانَه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33]، وَقَالَ تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر:5].
وَيقولُ سبحانَه: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64].
إنَّ هذه النصوصَ المتكاثرةَ تدلُّ على أنَّ الدنيا إنْ هيَ إلا دارٌ التَرَحُّلُ منها قريبٌ، وَإنما هيَ للإعدادِ والعملِ والنَّصَبِ وَالكدحِ، وَصَدَقَ اللهُ: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} [الرعد:26].
وَفِهْمُ هذه النصوصِ هامٌّ لفهمِ معنى العبوديةِ، وَلفهمِ معنى الجزاءِ في الآخرةِ، ولفهمِ الفرق في السعادةِ بينَ الدارين.
وَهذه الدنيا وَإنْ كانتْ متاعًا وَبُلْغَةً، فإنَّ فيها زادَنا إلى الآخرةِ وَفيها العملَ الصالحَ، يقولُ أُبي بن كعب - رضيَ اللهُ عنه -: (وَهَلْ تَدْرِي مَا الدُّنْيَا؟ إِنَّ الدُّنْيَا فِيهَا بَلاغُنَا، وَفِيهَا أَعْمَالُنَا الَّتِي نُجْزَى بِهَا فِي الآخِرَةِ)([1])، يقولُ تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف:46].
وَفيها نصرُ اللهِ للمؤمنينَ، وَارتفاعُ شأنِهم في الحياةِ الدنيا؛ قالَ اللهُ تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51].
فالحياةُ الدنيا مزرعةٌ يحصدٌ منها كلُّ زارعٍ ما ذَرَاه، وَيبقى قولُ الحقِّ - تبارك وتعالى - أنَّها ليستْ محطَّ الرِّحَالِ بلْ هي دارٌ للمرورِ، وَنكدُها أكثرُ مِنْ سَعْدِها؛ قالَ تعالى مؤكدًا هذا المعنى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20].
ومع هذا كلِّه؛ فإنَّ ثمَّة حياة طيبة يستروحُها المؤمنون، تُصَبِّرُهُمْ على ضَنكِ العيشِ، وَبؤسِ الدنيا، وَنَكَدِ العشيرِ، تُبَدِّلُهُمْ بِالهَمِّ أُنسًا وَبالضيقِ سعادةً وَحَبُورًا؛ قالَ اللهُ تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97].
وَهذه الحياةُ المنشودةُ بها وصفٌ زائد عنْ كونِها حياةً، فهي حياةٌ (طيبةٌ)؛ (أولُ طريقُها: أنْ تعرفَ اللهَ، وَتهتديَ إليه طريقًا يوصلُك إليه، وَيحرقُ ظلماتِ الطبعِ بأشعةِ البصيرةِ؛ فيقومَ بقلبِه شاهدٌ منْ شواهدِ الآخرةِ، فينجذبَ إليها بكلِّيَتِه، وَيزهدَ في التعلُّقاتِ الفانيةِ، وَيدأبَ في تصحيحِ التوبةِ، وَالقيامِ بالمأموراتِ الظاهرةِ وَالباطنةِ، وَترك المنهيَّاتِ الظاهرةِ وَالباطنةِ).([2] )
ويقولُ ابنُ القيم - رحمه الله -: (وَقَدْ فُسِّرَت الحياةُ الطيبةُ بالقناعةِ وَالرضا وَالرزقِ الحسنِ وَغيرِ ذلك، وَالصوابُ أنَّها حياةُ القلبِ وَنعيمُه وَبهجتُه وَسرورُه بالإيمانِ وَمعرفةِ اللهِ وَمحبتِه وَالإنابةِ إليه وَالتوكلِ عليه، فإنَّه لا حياةَ أطيبَ منْ حياةِ صاحبِها، وَلا نعيمَ فوقَ نعيمِه إلا نعيم الجنةِ، كمَا كانَ بعضُ العارفين يقولُ: إنَّه لتمرُّ بي أوقاتٌ أقولُ فيها: إنْ كانَ أهلُ الجنةِ في مثلِ هذا إنَّهم لفي عيشٍ طيبٍ، وَقالَ غيرُه: إنَّه ليمرُّ بالقلبِ أوقاتٌ يرقصُ فيها طَربًا.
وَإذا كانت حياةُ القلبِ حياةً طيبةً تَبِعَتْهُ حياةُ الجوارحِ؛ فإنَّه مَلِكُها، وَلهذا جعلَ اللهُ المعيشةَ الضنكَ لِمَنْ أعرضَ عن ذكرِه، وَهي عكسُ الحياةِ الطيبةِ)([3]).
فالحياةُ الطيبةُ مليئةٌ بالراحةِ وَالهناءِ الحِسِّي وَالمعنوي، الظاهرِ وَالباطنِ، مِنْ رزقٍ حلالٍ وَسعادةٍ ودوامِ الصلةِ باللهِ وَانشراحِ الصدرِ، يشعرُ بها المؤمنُ، وَيذوقُ حلاوتَها الموحدُ، فهي لذةٌ تعتلجُ في القلبِ وَلا تصفُها الكلماتُ، فإذا استطعنا أنْ نحدِّدَ معنى تغريدِ العندليبِ وَهبوبِ النسيمِ وَعبيرِه وَصدى الروابي؛ استطعنا وصفَ هذه الحياةِ، إنها حياةٌ تجيءُ إلى حَشَاشَةِ الفؤادِ منْ دونِ استئذانٍ، وَتسري فيه دونَ ممانعةٍ مِنْ صاحبِ القلبِ الحي.
هلْ يمكن أنْ نحبسَ النسيمَ أوْ نمسكَ الظلالَ السابحةَ فوقَ المروجِ؟!
فوصفُ هذه الحياةِ بـ(الطيبةِ) هوَ وصفٌ لازمٌ لها، فليسَ المرادُ حياةَ اللعبِ وَاللهوِ بلْ الحياةَ الطيبةَ المؤمنةَ، المتصلةَ بخالقِها، التي تجسِّدُ العبوديةَ في سَكَنَاتها .. في أفراحِها ... في ألمِها ... في كلِّ مُنْقَلَبٍ لها .. فهي للهِ .. وباللهِ .. وعلى اللهِ .. وَثمَّة السعادة.
إنَّ الصلةَ باللهِ هي قوامُ الحياةِ الطيبةِ، بها يسكنُ القلبُ، وتهفو الروحُ وتصلحُ الجوارحُ، ويُلَمُّ شعثَ الفؤادِ؛ لأنَّ (القلب لَا يصلح وَلَا يفلح وَلَا ينعم وَلَا يسر وَلَا يلتذ وَلَا يطيب وَلَا يسكن وَلَا يطمئن إِلَّا بِعبَادة ربه وحبه والإنابة إِلَيْهِ وَلَو حصل لَهُ كل مَا يلتذ بِهِ من الْمَخْلُوقَات لم يطمئن وَلم يسكن إِذْ فِيهِ فقر ذاتي إِلَى ربه من حَيْثُ هُوَ معبوده ومحبوبه ومطلوبه وَبِذَلِك يحصل لَهُ الْفَرح وَالسُّرُور واللذة وَالنعْمَة والسكون والطمأنينة.
وَهَذَا لَا يحصل لَهُ إِلَّا باعانة الله لَهُ فَإِنَّهُ لَا يقدر على تَحْصِيل ذَلِك لَهُ إِلَّا الله فَهُوَ دَائِما مفتقر إِلَى حَقِيقَة {إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين} فَإِنَّهُ لَو أعين على حُصُوله كل مَا يُحِبهُ ويطلبه ويشتهيه ويريده وَلم يحصل لَهُ عبَادَة لله فَلَنْ يحصل إِلَّا على الْأَلَم وَالْحَسْرَة وَالْعَذَاب وَلنْ يخلص من آلام الدُّنْيَا ونكد عيشها إِلَّا بإخلاص الْحبّ لله بِحَيْثُ يكون الله هُوَ غَايَة مُرَاده وَنِهَايَة مَقْصُوده وَهُوَ المحبوب لَهُ بِالْقَصْدِ الأول وكل مَا سواهُ إِنَّمَا يُحِبهُ لأَجله لَا يحب شَيْئا لذاته إِلَّا الله وَمَتى لم يحصل لَهُ هَذَا لم يكن قد حقق حَقِيقَة (لَا إِلَه إِلَّا الله) وَلَا حقق التَّوْحِيد والعبودية والمحبة لله وَكَانَ فِيهِ من نقص التَّوْحِيد وَالْإِيمَان بل من الْأَلَم وَالْحَسْرَة وَالْعَذَاب بِحَسب ذَلِك)([4]).
وَلكي نشعرُ بهذه الحياةِ الطيبةِ ثمَّة شرط لابدَ منْ توافرِه، ألا وَهو العملُ الصالحُ، وَالأعمالُ الصالحةُ كثيرةٌ متفاوتةٌ في درجاتِها وَشعبِها.
وَلكن أعظمُها وَأهمُها توحيدَ اللهِ تعالى وَطاعتَه، فكلما كانَ المرءُ أعظمَ توحيدًا وَأكثرَ طاعةً كلما اكتملَ طيبُ حياتِه وسرورُها، وَكلما ابتعدَ عنْ حقائقَ التوحيدِ وَمعاني الطاعةِ كلما ازدادَ وحشةً وهمًّا وألمًا.
فلننظر كيفّ يعيشُ الموحدُ الذي جعلَ رضا اللهِ غايةً له في جميعِ أعمالِه؟ كيفَ يبدلُه اللهُ بثقلِ التكليفِ راحةً واطمئنانًا وسكينةً؟ وَلننظرْ أخرى إلى منْ شَرَدَ عن هدى اللهِ كيفَ يبدلُه اللهُ بالمشتهياتِ المحرمةِ ألمًا وَحيرةً وَاضطرابًا: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك:22].
الحياة .. التوحيد .. الطاعة:
قالَ اللهُ تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم:24].
يقولُ سيد قطب - رحمه الله -: (وَهذه الآياتُ تدلُّ على أنَّ التوحيدَ هو الأساسُ الذي يقومُ عليه البناءُ، وَلكنَّ هذا الأساسُ لا يكفي في النجاةِ دونَ العملِ الصالحِ وَتزكيةَ النفسِ وَاستقامةَ السلوكِ، كما لا يكفي أساسُ البناءِ دونَ رفعِ الأعمدةِ وَالجدرانِ ليتمَّ الانتفاعُ مِنَ البناءِ، وَلا تكفي جذورُ الأشجارِ دونَ أنْ تنبتَ الأغصانُ وَتُثْمِرَ الثمارُ.
أما كلمةُ الشركِ فهي كالشجرةِ الخبيثةِ التي لا أصلَ لها وَلا ثبات، وَقدْ تهيجُ وَتتعالى وَيُخَيَّلُ إلى الناظرِ أنها أقوى مِنَ الشجرةِ الطيبةِ، لكنَّها تظلُّ هشةً لا جذورَ لها تترسخُ بها، وَما هي إلا فترةً ثمَّ تُجْتَثُّ مِنْ فوقِ الأرضِ، فلا يبقى له قرارٌ، وَهذا هوَ حالُ المشركِ في اضطرابِه وقلقِه وعدمِ رسوخِه وهو مقطوعُ الأصلِ لا صلة له بالفطرةِ السليمةِ التي أوجدَها اللهُ في النفسِ)([5]).
يقولُ العلامةُ ابن القيم - رحمه الله -: (فشَبَّه - سبحانه وتعالى - الكلمةَ الطيبةَ بالشجرةِ الطيبةِ؛ لأنَّ الكلمةَ الطيبةَ تُثْمِرَ العملَ الصالحَ، وَالشجرةَ الطيبةَ تُثْمِرُ الثمرَ النافعَ)([6]).
فأثرُ هذه الكلمةِ الطيبةِ التثبيتُ في الدنيا وفي الآخرةِ؛ كما قالَ الحقُّ - تبارك وتعالى - في آخرِ الآياتِ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].
فتوحيدُ اللهِ - جل وعلا - مَنْ حَقَّقَه دخلَ الجنةَ بغيرِ حسابٍ وَلا عذابٍ، وهو سببٌ لمغفرةِ الذنوبِ وِتكفيرِها، وَسببٌ لتفريجِ كرباتِ الدنيا وَالآخرةِ وَدفعِ عقوبتِهما، ويمنعُ الخلودَ في النارِ إذا كانَ في القلبِ منه أدنى مثقالُ حبةِ خردلٍ، وَأنَّه إذا كَمُلَ في القلبِ يمنعُ دخولَ النارِ بالكليةِ.
وَيحصلُ لصاحبِه الهدى وَالكمالُ وَالأمنُ التامُّ في الدنيا والآخرةِ، وهوَ السببُ الوحيدُ لنيلِ رضا اللهِ وَثوابِه، وَأسعدُ الناسِ بشفاعةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ قالَ: (لا إله إلا الله) خالصًا من قلبِه.
وَجميعُ الأعمالِ وَالأقوالِ الظاهرةِ وَالباطنةِ متوقفةٌ في قبولِها وفي كمالِها وفي ترتيبِ الثوابِ عليها على التوحيدِ، وتوحيدُ اللهِ - جل وعلا - يحرِّرُ العبدَ مِنْ رِقِّ المخلوقين وَالتعلُّقِ بهم، وخوفِهم ورجائِهم، وَالعملِ لأجلِهم، وَهذا هوَ العزُّ الحقيقيز
وَالتوحيدُ يخفِّفُ عَن العبدِ المكارهَ، وَيُهوِّنُ عليه الآلامَ، وبقدرِ زيادةِ العبدِ مِنَ الطاعةِ الخالصةِ للهِ تعالى بقدرِ ما ينالُ مِنَ الراحةِ وَالاطمئنانِ وَالحياةِ الطيبةِ؛ يقولُ الشيخُ عبدُ الرحمن السعدي - رحمه الله -: (وَشواهدُ هذه الجملِ مِنَ الكتابِ وَالسنةِ كثيرةٌ معروفةٌ، وَاللهُ أعلم)([7]).
إنَّ التوحيدَ الذي ننشدُه هوَ الذي يملأُ النفسَ حركةً وَفعلًا، يملأُ الروحَ تقى وَخشيةً، إنَّه التوحيدُ الذي يلتجئُ صاحبُه إلى اللهِ فِي كلِّ ملماتِه، فلا يخشى إلا اللهَ وَلا يرجو إلا اللهَ، وبِه يستدفعُ آلامَ الحياةِ الدنيا وَأوصابِها وَعذاباتِها، وعلى اللهِ يتوكلُ في جميعِ أمورِه، وَمَنْ كانَ هذا حالَه صارَ اللهُ سمعَه وبصرهَ ... وَثمَّة الحياة.
في ظلال الحياة الطيبة:
إنَّ العملَ الصالحَ أصلٌ عامٌّ لتحصيلِ الحياةِ الطيبةِ بشمولِه وَعمومِه، فَمِنْ فروعِه الجالبةِ للحياةِ الطيبةِ ذكرُ اللهِ تعالى، وَمِنْ أعظمِه قراءةُ القرآنِ.
{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82].
وقالَ سبحانه عن القرآنِ: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت:44].
وَيقولُ سبحانه عنْ أثرِ ذكرِه على قلوبِ المؤمنين: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
إنَّ الذاكرَ للهِ هو الحيُّ حقيقةً؛ عنْ أبي موسى - رضيَ اللهُ عنه - قالَ: قالَ النبيُّ - صلى اللهُ عليه وسلم -: ((مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ))([8]).
يقولُ الصحابيُّ الفقيهُ معاذُ بن جبل - رضيَ اللهُ عنه -: (مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ عَمَلًا قَطُّ أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، قَالُوا: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: وَلا إِلَى أَنْ يُضْرَبَ بِسَيْفِهِ حَتَّى يَنْقَطِعَ، لأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45])([9]).
قِيلَ لأَبِي الدَّرْدَاء، وَكَانَ لا يَفْتُرُ مِنَ الذِّكْرِ: (كَمْ تُسَبِّحُ يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ فِي كُلِّ يَوْمٍ؟ قَالَ: مِائَةَ أَلْفٍ إِلا أَنْ تُخْطِئَ الأَصَابِعُ)([10]).
قالَ أبو الحسين الوراق: (حياةُ القلبِ في ذكرِ الحيِّ الذي لا يموتُ، وَالعيشُ الهنيُّ الحياةُ معَ اللهِ تعالى لا غير، وَلهذَا كانَ الفوتُ عندَ العارفين باللهِ أشدَ عليهم مِنَ الموتِ؛ لأنَّ الفوتَ انقطاعٌ عَنْ الحقِّ، وَالموتَ انقطاعٌ عنْ الخلقِ، فكمْ بينَ الانقطاعين؟!)([11]).
يقولُ ابنُ القيمِ - رحمه الله - عنْ حالِ شيخِه شيخ الإسلامِ، وَما مرَّ به مِنْ سعادةٍ وَهناءٍ وَراحةٍ وهوَ مستغرقٌ في ذكرِ اللهِ مَعْ أنَّه مسجونٌ:
(سَمِعْت شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ يَقُولُ: إنَّ فِي الدُّنْيَا جَنَّةً مَنْ لَمْ يَدْخُلْهَا لَمْ يَدْخُلْ جَنَّةَ الْآخِرَةَ.
وَقَالَ لِي مَرَّةً: مَا يَصْنَعُ أَعْدَائِي بِي أَنَا جَنَّتِي وَبُسْتَانِي فِي صَدْرِي أَيْنَ رُحْت فَهِيَ مَعِي لَا تُفَارِقُنِي، أَنَا حَبْسِي خَلْوَةٌ، وَقَتْلِي شَهَادَةٌ، وَإِخْرَاجِي مِنْ بَلَدِي سِيَاحَةٌ.
وَقَالَ لِي مَرَّةً: الْمَحْبُوسُ مَنْ حُبِسَ قَلْبُهُ عَنْ رَبِّهِ، وَالْمَأْسُورُ مَنْ أَسَرَهُ هَوَاه، ولما دخل إلى القلعة وصار داخل سورها نظر إليه وقال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13].
قوَعَلِمَ اللَّهُ مَا رَأَيْت أَحَدًا أَطْيَبُ عَيْشًا مِنْهُ قَطُّ مَعَ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ ضِيقِ الْعَيْشِ وَخَلَاقِ الرَّفَاهِيَةِ وَالنَّعِيمِ بَلْ ضِدِّهَا مَعَ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ الْحَبْسِ وَالتَّهْدِيدِ وَالْإِرْجَافِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ أَطْيَبُ النَّاسِ عَيْشًا وَأَشْرَحُهُمْ صَدْرًا ، وَأَقْوَاهُمْ قَلْبًا وَأَسَرُّهُمْ نَفْسًا تَلُوحُ نَضِرَةُ النَّعِيمِ عَلَى وَجْهِهِ.
وَكُنَّا إذَا اشْتَدَّ بِنَا الْخَوْفُ وَسَاءَتْ مِنَّا الظُّنُونُ وَضَاقَتْ بِنَا الْأَرْضُ أَتَيْنَاهُ فَمَا هُوَ إلَّا أَنْ نَرَاهُ وَنَسْمَعَ كَلَامَهُ فَيَذْهَبَ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَيَنْقَلِبَ انْشِرَاحًا وَقُوَّةً وَيَقِينًا وَطُمَأْنِينَةً، فَسُبْحَانَ مَنْ أَشْهَدَ عِبَادَهُ جَنَّتَهُ قَبْلَ لِقَائِهِ وَفَتَحَ لَهُمْ أَبْوَابَهَا فِي دَارِ الْعَمَلِ فَأَتَاهُ مِنْ رُوحِهَا وَنَسِيمِهَا وَطِيبِهَا مَا اسْتَفْرَغَ قُوَاهُمْ لِطَلَبِهَا وَالْمُسَابَقَةِ إلَيْهَا)([12]).
وَمِنْ أغذيةِ الحياةِ الطيبةِ أداءُ الفرائض:
إنَّ الإنسانَ قدْ طُبِعَ بطابعِ الهلعِ؛ فإنْ أصابَه الخيرُ منعَ، وَإنْ أصابَه الشرُّ جزعَ، وَهذَا وَلاشكَّ اضطرابٌ يعتري الإنسانَ إلَّا إذا كانَ مصليًا؛ قالَ اللهُ تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ} [المعارج: 19-22]، إنَّها صورةٌ للأمنِ النفسي وَسكينةِ الحياةِ التي يشعرُ بها المصلي.
عنْ أبي هريرة - رضيَ اللهُ عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم -: ((أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟ قَالُوا: لَا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ. قَالَ: فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا))([13]).
وَقالَ - صلى اللهُ عليه وسلم -: ((أَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ يَا بلال))([14]).
وعنْ أنس بن مالك - رضيَ اللهُ عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم -: ((حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ النِّسَاء وَالطِّيب، وَجُعِلَ قُرَّة عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ))([15]).
وَصَدَقَ ابنُ رواحةٍ حينَ قالَ:
وَفِينَا رَسُولُ اللَّهِ يَتْلُو كِـتَابَهُ إِذَا انْشَقَّ مَعْرُوفٌ مِنَ الفَجْرِ سَاطِعُ
أَرَانَا الهُدَى بَعْدَ العَمَى فَقُلُوبُنَا بِـــهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَالَ وَاقِعُ
يَبِيتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ إِذَا اسْتَثْقَلَتْ بِالْمُشْرِكِينَ المَضَاجِعُ
أَرَانَا الهُدَى بَعْدَ العَمَى فَقُلُوبُنَا بِـــهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَالَ وَاقِعُ
يَبِيتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ إِذَا اسْتَثْقَلَتْ بِالْمُشْرِكِينَ المَضَاجِعُ
إنَّها لذةُ الطاعةِ، وَحلاوةُ المناجاةَ، وَأنسُ الخلوةِ باللهِ، وَسعادةُ العيشِ في مرضاةِ اللهِ؛ حيثُ يجدُ العبدُ في نفسِه سكينةً، وفي قلبِه طمأنينةً، وفي روحِه خفةً وَسعادةً، مما يورثُه لذةً لا يساويها شيءٌ منْ لذائذِ الحياةِ ومُتَعِها، فتفيضَ على النفوسِ وَالقلوبِ محبةٌ للعبادةِ وَفَرحًا بها، وَطَرَبًا لها، لا تزالُ تزدادُ حتى تملأَ شغافَ القلبِ فلا يرى العبدُ قرةَ عينِه وَراحةِ نفسِه وَقلبِه إلا فيها ... وثمَّة الحياة.
عنْ أبي هريرة أنَّ رسولَ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم - قالَ: ((الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ))([16]).
فالصلاةُ تورثُ السكينةَ وَالاطمئنانَ، وَتغسلُ الذنوبَ، وَتمحوها، وبها تحصلُ راحةُ الفؤادِ، وَبها قرةُ العينِ، وَهي تُكَفِّرُ الذنوبَ وَالخطايا ... وَثمَّة الحياة.
يقولُ عدي بن حاتم - رضيَ اللهُ عنه -: (مَا دَخَلَ وَقْتُ الصلاةِ حتى أشتاقَ إليها)، وعنه: (مَا أُقيمتْ الصلاةُ منذُ أسلمتُ إلَّا وَأنَا على وضوءٍ)([17]).
(إنَّ الصلاةَ صلةٌ وَلقاءٌ بينَ العبدِ وَالربِّ، صلةٌ يستمدُ منها القلبٌ قوةَ، وَتحسُّ فيها الروحُ صلةً؛ وَتجدُ فيها النفسُ زادًا أنفسَ منْ أعراضِ الحياةِ الدنيا، ولقدْ كانَ رسولُ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم - إذا حزبَه أمرٌ فَزِعَ إلى الصلاةِ، وهوَ الوثيقُ الصلةِ بربِّه، الموصولُ الروحِ بالوحي وَالإلهامِ، وَما يزالُ هذا الينبوعُ الدافقُ في متناولِ كلِّ مؤمنٍ يريدُ زادًا للطريقِ، وريًّا في الهجيرِ، وَمدَدًا حينَ ينقطعُ المَدَدُ، وَرصيدًا حينَ ينفدُ الرصيدُ ...)([18]).
ومنْ أغذيتِها الاستجابةُ للهِ ولرسولِه - صلى اللهُ عليه وسلم -؛ قالَ اللهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24].
قالَ ابنُ قتيبة: ({لما يحيكم} يعني الشهادةَ، وقال بعضُ المفسرين: {لما يحيكم} يعني الجنةَ؛ فإنها دارُ الحيوانِ وفيها الحياةُ الدائمةُ الطيبةُ، وَالآيةُ تتناولُ هذا كلَّه، فإنَّ الإيمانَ وَالإسلامَ وَالقرآنَ وَالجهادَ يُحْيِي القلوبَ الحياةَ الطيبةَ، وَكمالُ الحياةِ في الجنةِ، والرسولُ داعٍ إلى الإيمانِ وإلى الجنةِ، فهو داعٍ إلى الحياةِ في الدنيا وَالآخرةِ)([19]).
إنها دعوةٌ إلى الحياةِ بكلِّ صورِ الحياةِ، وبكلِّ معاني الحياةِ ...
إنَّه يدعوهم إلى عقيدةٍ تُحْيِي القلوبَ وَالعقولَ، وَتُطْلِقُها مِنْ أوهاقِ الجهلِ والخرافةِ، ومنْ ضغطِ الوهمِ وَالأسطورةِ، وَمِنَ الخضوعِ المُذِلِّ للأسبابِ الظاهرةِ وَالحتمياتِ القاهرةِ، وَمِنَ العبوديةِ لغيرِ اللهِ وَالمذلةِ للعبدِ أو للشهواتِ سواء ...
فهذه هي الحياةُ الطيبةُ، وفي سُبُلِ تحصيلِها فليتنافسْ المتنافسون، وَإليها فليُسَارِعْ المسارعون، ومنْ أجلِها فليُسَابِقْ المتسابقون ... (ولكنْ كيفَ يصلُ إليها مَنْ عقلُه مسبيٌّ في بلادِ الشهواتِ، وَأملُه موقوفٌ على اجتناءِ اللذاتِ، وَسيرتُه جاريةٌ على أسوأِ العاداتِ، ودينُه مُسْتَهْلَكٌ بالمعاصي وَالمخالفاتِ، وَهِمَّتُه واقفةٌ معَ السُّفليَّاتِ، وَعقيدتُه غيرُ مُتْلَقَّاةٍ مِنَ مشكاةِ النبواتِ)([20]).
الحياة .. الشرك .. البدعة .. المعصية:
فكمّا أنَّ الموحدَ يشعرُ بالهناءِ والسعادةِ والغبطةِ والطمأنينةِ، فبعكسِه المشركُ يطاردُه الشقاءُ وَالألمُ، وَإنْ بدا للناظرِ عكسَ ذلك، فإنَّ اختلالَ الوجهةِ وسوءَ المُنقَلب وَضعفَ البصيرةِ تُورِثُ همًّا وعنتًا في الفؤادِ، وَاختلالًا في المفاهيم، حتى يتبدَّا للرائي الخطأُ صوابًا وَالصوابُ خطأً، وَهذا كلُّه مردُّه الإعراضُ عنْ طريقِ الحقِّ، وَلاشكَّ أنَّ هذا مصدر ضنكٍ عظيمٍ للإنسانِ.
لَيْسَ مَنْ ماتَ فاسْتَرَاحَ بِمَيْتٍ ... إنَّمَا المَيْتُ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ
إنَّ الفَرْقَ بينَ منْ حقَّقَ توحيدَ اللهِ وَبذلَ وُسْعَه في طاعةِ اللهِ وَبينَ المشركِ المتدنسِ بأنواعِ المعاصي كالفرقِ بينَ الحيِّ وَالميتِ؛ قالَ تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:122].
لقدَ ضَرَبَ اللهُ الأمثالَ ليبينَ لنا حالَ المشركِ واضطرابَه وبؤسَه وشقاءَه، فمثلُ المشركِ كَمَنْ يسقُطُ في هوةٍ سحيقةٍ فَتَخْطَفُهُ الطيرُ الجارحُ فَتُمَزِّقُهُ تمزيقًا: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31].
إنها صورةٌ بائسةٌ تقشعرُ لها الأبدانُ وتهلعُ لرؤيتِها الأعين ُوتضطرُب لهولِها القلوبُ، تأمَّلْ المشركَ وقدْ سقطَ في محيطٍ سحيقٍ فتهتوشه الطيورُ الجارحةُ منْ كلِّ حدبٍ وصوبٍ، وتمزقُه بمناقيرِها وقوادمِها، فلا يدري أينَ رأسه منْ رجليه؟ بلْ صارَ هباءً منثورًا.
وصورةٌ أخرى تخلعُ القلوبَ؛ فمثلُ المشركِ كمنْ يسقطُ في هوةٍ سحيقةٍ ليسَ لها قرارٌ، سقوطًا تضطربُ لأجلِه الأفئدةُ ... وَمَا لجرحْ بميتْ إيلامُ.
وُالمشركُ حيران لا يدري إلى أين يتجه؟ وأي طريقٍ يسلكُ؟ بلْ هوَ يتخبطُ تخبطًا؛ قالَ اللهُ تعالى: {قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:71].
ولكن ... منْ هوَ المشركُ الذي يستحقُّ هذه الأمثالَ المضروبة؟
إنَّ المشركَ هوَ منْ اتخذَ ندًّا مع اللهِ، سواء كانَ هذا الند في ربوبيةِ اللهِ أو ألوهيتِه؛ قالَ اللهُ تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22]، وَاتخاذُ الندِّ للهِ أعظمُ الذنوبِ؛ فقد روى الشيخان عن ابنِ مسعودٍ - رضيَ اللهُ عنه - قالَ: سألتُ النبيَّ - صلى اللهُ عليه وسلم -: ((أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ ...))([21])، ويقولُ - صلى اللهُ عليه وسلم -: ((قال الله تعالى: أنا أغْنى الشُّركاء عن الشِّركِ، مَنْ عَمِل عَمَلا أشرك فيه مَعي غيري تركتهُ وشِرْكَهُ))([22]).
يقولُ الطاهرُ بن عاشور - رحمه الله - مُعَرِّفًا الشركَ بأنَّه: (إشراكُ دعاءِ غيرِ اللهِ معَ اللهِ في اعتقادِ الإلهيةِ وَفِي العبادةِ)([23]).
فمَنَ صَرَفَ عبادةً للهِ وَجعلَها لغيرِه فقدْ أشركَ باللهِ؛ كمنْ يدعو غيرَ اللهِ أوْ يسجدُ لقبرِ آدمي ولوْ كانَ صالحًا، أوْ ذبحَ لغيرِ اللهِ أوْ نَذَرَ لغيرِه؛ فقدْ وقعَ في الشركِ ووقعَ في الحيرةِ ووقعَ في الاضطرابِ ولابد .. وثمَّة الشقاء.
والابتداعُ بريدُ الشركِ وطريقٌ مِنْ طرقِه وَسبيلٌ منْ سُبُلِه، إنَّ فسادَ الاعتقادِ في اللهِ يُوَلِّدُ وحشةً في القلبِ، فإلى منْ يلتجئُ منْ اعتقدَ أنَّ اللهَ ليسَ بخارجِ العالمِ وَلا داخله؟! وإلى منْ يرجعُ منْ اعتقدَ أنه حالٌّ في ذاتِ اللهِ؟ أوْ أنَّ اللهَ متوحدٌ معه؟! نعوذُ باللهِ منْ الخذلان.
يقولُ ابنُ تيمية - رحمه الله -: (وأكثرُ الفضلاءِ العارفينَ بالكلامِ وَالفلسفةِ بلْ وَبالتصوفِ الذين لم يحقِّقُوا ما جاءَ بِهِ الرسولُ تجدُهم فيه حيارى، كمَا أنشدَ الشهرستاني في أولِ كتابِه لمَّا قالَ:
عَمْرِي لَقَدْ طُفْتُ الْمَعَاهِدَ كُلَّهَا ... وَسَيَّرْتُ طَرْفِي بَيْنَ تِلْكَ الْمَعَالِمِ
فَلَمْ أَرَ إِلَّا وَاضِعًا كَــفَّ حَائِرٍ ... عَلـَى ذَقَنٍ أَوْ قَارِعًا سِنَّ نَادِم
فَلَمْ أَرَ إِلَّا وَاضِعًا كَــفَّ حَائِرٍ ... عَلـَى ذَقَنٍ أَوْ قَارِعًا سِنَّ نَادِم
وأنشدَ أبو عبدِ اللهِ الرازي في غيرِ موضعٍ منٍ كُتُبِه مثلَ كتابِ "أقسام اللذات":
نِهَايَةُ إِقْدَامِ الْعُقُـــولِ عِقَالُ وَغَايَةُ سَــعْيِ الْعَالَمِينَ ضَلَالُ
وَأَرْوَاحُنَا فِي وَحْشَةٍ مِنْ جُـسُومِنَا وَحَــاصِلُ دُنْيَانَا أَذَى وَوَبَالُ
وَلَمْ نَسْتَفِدْ مِنْ بَحْثِنَا طُولَ عُمْرِنَا سِوَى أَنْ جَمَعْنَا فِيهِ : قِيلَ وَقَالُوا
وَأَرْوَاحُنَا فِي وَحْشَةٍ مِنْ جُـسُومِنَا وَحَــاصِلُ دُنْيَانَا أَذَى وَوَبَالُ
وَلَمْ نَسْتَفِدْ مِنْ بَحْثِنَا طُولَ عُمْرِنَا سِوَى أَنْ جَمَعْنَا فِيهِ : قِيلَ وَقَالُوا
لقدْ تأملتُ الطرقَ الكلاميةَ وَالمناهجَ الفلسفيةَ فما رأيتُها تشفي عليلًا وَلا تروي غليلًا، ورأيتُ أقربَ الطرقِ طريقةَ القرآنِ، "اقرأ"، وَكانَ ابنُ أبي الحديد البغدادي مِنْ فضلاءِ الشيعةِ المعتزلةِ المتفلسفِة، وله أشعارٌ في هذا البابِ كقولِه:
يـكَ يَا أُغْلُوطَةَ الْفِكَرِ حَارَ أَمْرـِي وَانْقَضَى عُمُرِي
سَافَرَتْ فِيكَ الْعُقُولُ فَمَا رَبِـحَتْ إِلَّا أَذَى السَّفَرِ
سَافَرَتْ فِيكَ الْعُقُولُ فَمَا رَبِـحَتْ إِلَّا أَذَى السَّفَرِ
إيابه بعد سفره بأذى السفر!
وَابنُ رشد الحفيد يقولُ لما حضرَه الموتُ: (أموتُ وَلمْ أعرفْ شيئًا إلَّا أنَّ الممكنَ يفتقرُ إلى الممتنعِ، ثمَّ قالَ: الافتقارُ وصفٌ سلبيٌّ، أموتُ وَلمْ أَعْرِفْ شيئًا، حكاه عنه التلمساني وَذَكَرَ أنَّه سَمِعَه منْه وقتَ الموتِ.
وَهذا إمامُ الحرمين تَرَكَ ما كانَ ينتحلُه وَيُقَرِّرُه وَاختارَ مذهبَ السلفِ، وَكانِ يقولُ: يا أصحابنا! لا تَشْتِغِلُوا بالكلامِ، فلوْ أنِّي عرفتُ أنَّ الكلامَ يبلغُ بِي إلى ما بلغَ ما اشتغلتُ بِه، وَقالَ عندَ موتِه: لقدْ خضتُ البحرَ الخضمَّ وَخليتُ أهلَ الإسلامِ وعلومَهم، وَدخلتُ فيما نَهَوْنِي عنْه، وَالآن إنْ لمْ يتداركنْي ربِّي برحمتِه فالويلُ لابنِ الجوينِي، وَهأنذا أموتُ على عقيدةِ أمِّي، أوْ قالَ: عقيدة عجائز نيسابور.
وَابنُ الفارضِ منْ متأخري الاتحاديةِ، صاحبُ القصيدةِ التائيةِ المعروفةِ بِنَظْمِ السلوكِ، لمَّا حضرتْه الوفاةُ أنشدَ:
إنْ كـان مَنزِلَتي في الحبّ عندكُمُ ما قد رأيتُ فقد ضيَّعْتُ أيَّامي
أُمْنِيّة ظـــفِرَتْ روحي بها زَمَنًا وَاليومَ أحسَبُها أضغاثَ أحلامِ)([24])
إنَّه الجهلُ باللهِ وَالعلمُ بأغلوطاتِ العقائد التِي تورثُ الوحشةَ.
وَفِي الْجَهْلِ قَبْلَ الْمَوْتِ مَوْتٌ لِأَهْلِهِ فَأَجْسَامُهُمْ قَبْلَ الْقُبُورِ قُبُورُ
وَإِنْ امْرَأً لَمْ يَحـْيَ بِالْعِلْمِ مَيِّتٌ فَلَيْسَ لَهُ حَتَّى النُّشُورِ نُشُورُ
قالَ ابنُ تيمية - رحمه اللهُ -: (إنَّ القلبَ إذا كانَ خاليًا منْ معرفةِ الحقِّ وَاعتقادِه وَالتصديقَ بِه كانَ مُعَرَّضًا لأنْ يعتقدَ نقيضَه وَيصدِّقَ بِه، لاسيما في الأمورِ الإلهيةِ التِي هي غايةُ مطالبِ البريةِ، وَهيَ أفضلُ العلومِ وَأعلاها وَأشرفُها وَأسماها، وَالناسُ الأكابرُ لهمْ إليه غايةُ التشوُّفِ وَالاشتياقُ، وَإلى جهتِه تمتدُّ الأعناقُ، فالمهتدون فيه أئمةُ الهدى كإبراهيمَ الخليلِ وَأهلِ بيتِه، وَأهلُ الكذبِ فيه أئمةُ الضلالِ كفرعونَ وَقومِه، فمنْ لمْ يكنْ فيه على طريقِ أئمةِ الهدى كانَ ثغرُ قلبِه مفتوحًا لأئمةِ الضلالِ)([25]).
أمَّا منْ يتدنسُ بشيءٍ مِنَ المعصيةِ فإنَّه يقعُ في شيءٍ مِنَ الألمِ وَالشقاءِ بحسبِ عصيانِه؛ فكلما زادَ عصيانُ العبدِ كلمَا زادَ ضنكُه وَبُؤسُه؛ قالَ اللهُ تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124].
يقولُ الحافظُ ابنُ كثير - رحمه اللهُ -: (أَيْ: فِي الدُّنْيَا، فَلَا طُمَأْنِينَةَ لَهُ، وَلَا انْشِرَاحَ لِصَدْرِهِ، بَلْ صَدْرُهُ ضَيِّقٌ حَرج لِضَلَالِهِ، وَإِنْ تَنَعَّم ظَاهِرُهُ، وَلَبِسَ مَا شَاءَ، وَأَكَلَ مَا شَاءَ، وَسَكَنَ حَيْثُ شَاءَ، فَإِنَّ قلبه مَا لَمْ يَخْلُصْ إِلَى الْيَقِينِ وَالْهُدَى، فَهُوَ فِي قَلَقٍ، وَحَيْرَةٍ، وَشَكٍّ، فَلَا يَزَالُ فِي رِيبَةٍ يَتَرَدَّدُ. فَهَذَا مِنْ ضَنْكِ الْمَعِيشَةِ)([26]).
في جِفنه أرقٌ، في نفسه فرقٌ في جسمه سقمٌ، في عقله دخل
إنَّ الذنوبَ وَالمعاصي ضررُها في القلوبِ كضررِ السمومِ فِي الأبدانِ على اختلافِ درجاتِها فِي الضررِ، وَهلْ في الدنيا وَالآخرةِ شرورٌ وَداءٌ إلَّا سببه الذنوب وَالمعاصي؟ فما الذي أخرجَ الأبوين مِنَ الجنةِ دارِ اللذةِ وَالنعيمِ وَالبهجةِ وَالسرورِ، إلى دارِ الآلامِ وَالأحزانِ وَالمصائبِ؟ وَمَا الذي أخرجَ إبليسَ مِنْ ملكوتِ السماءِ إلى الشقاءِ الدائمِ؟
إنَّ العبدَ الذي يُكْثِرُ مِنَ الطاعاتَ وَيُكثرُ كذلكَ مِنْ إيذاءِ المؤمنين هوَ كَمَنَ يبنِي جبالًا راسيات ولكنْ على طبقةِ الماءِ! فأنَّى لها الصمود.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ((أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ، فَقَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ))([27]).
إنَّ باغيَ الجنةِ لابدَّ له أنْ ينحرَ المعصيةَ على أعتابِ الطاعةِ إكرامًا لجنةْ عرضُها السماواتِ وَالأرض.
إنَّ سنّةَ اللهِ لا تحابي أحَدًا، وَنواميسَه لا مجالَ فيها للاستثناءِ؛ قالَ تبارَكَ وتعالى: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} [القمر:43].
وقدْ كانَ أصحابُ محمدٍ - صلى اللهُ عليه وسلم - يفقهون شؤمَ المعصيةِ، فهذا أبو عبيدة عامر بن الجراح - رضيَ اللهُ عنه - يسيرُ في العسكرِ فيقول: (لا رُبَّ مُبَيِّضٍ لِثِيَابِهِ مُدَنِّسٌ لِدِينِهِ، أَلا رُبَّ مُكْرِمٍ لِنَفْسِهِ وَهُوَ لَهَا مُهِينٌ ، ادْرَءُوا السَّيِّئَاتِ الْقَدِيمَاتِ بِالْحَسَنَاتِ الْحَدِيثَاتِ)([28]).
وَحينما احتضرَ أبو سفيان بن الحارث بن عبدِ المطلبِ قالَ: (لا تَبْكُوا عَلَيَّ، فَإِنِّي لَمْ أَتَنَطَّفْ مُنْذُ أَسْلَمْتُ بِخَطِيئَةٍ)([29]).
وَ(صَعَدَ عَبْدُ الملكِ بْن مَرْوَان ذاتَ يومٍ إِلَى المنبر، فخطبَ الناسَ بخطبةٍ بليغةٍ ثمَّ قطعَها وبَكى بكاءً شديدًا، ثمَّ قَالَ: يا ربِّ إنَّ ذنوبِي عظيمةٌ، وَإنَّ قليلَ عفوِك أعظمُ منها، اللَّهُمَّ فامحُ بقليلِ عفوِك عظيمَ ذنوبِي، قَالَ: فبلغَ ذلكَ الْحَسَنَ فبكى، وَقالَ: لو ْكَانَ كلامٌ يُكْتَبُ بالذهبِ لَكُتِبَ هَذَا الكلامُ)([30]).
إنَّها الخطيئةُ المُثَبِّطَةُ عَنْ البصيرةِ الإيمانيةِ، وَالتدفقِ الفكري، وَالتوفيقِ الرباني، وَالقوةِ الشرعيةِ، إنَّها خطايا السمعِ وَالبصرِ، خطايا الفؤادِ، خطايا القدمين وَاليدين: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36].
إنَّ اصطحابَ هذه الخطايا وَأمثالَها لَقَمِن أنْ يُورِثَ وحشةً فِي القلبِ، وَتأنيبًا للضميرِ، وَازْوِرَارًا عن الحقِّ، وَبطئًا في السيرِ إلى الجنَّةِ، وَضَعْفًا في الزادِ الإيماني، وَقبلَ ذلكَ وَبعدَه بُعدٌ عنْ اللهِ وَاستحقاقٌ للعقوبةِ.
يقولُ ابنُ القيم - رحمه اللهُ -: (إنَّ الْقَلْبَ يَصْدَأُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، فَإِذَا زَادَتْ غَلَبَ الصَّدَأُ حَتَّى يَصِيرَ رَانًا، ثُمَّ يَغْلِبُ حَتَّى يَصِيرَ طَبْعًا وَقُفْلًا وَخَتْمًا، فَيَصِيرُ الْقَلْبُ فِي غِشَاوَةٍ وَغِلَافٍ، فَإِذَا حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ الْهُدَى وَالْبَصِيرَةِ انْعَكَسَ فَصَارَ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ)([31]) ... وَثمَّة الشقاء.
الهوامش:
الهوامش:
([8]) صحيح البخاري (5/2352)، وأخرجه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة لنافلة في بيته... رقم (779).
([14]) رواه أبو داود في سننه (4/296) (4986)، والإمام أحمد في مسنده (5/364)، وذكر الزيلعي في تخريج الآثار عن بعض طرقه أنه على شرط البخاري (1/63)، ومثله قال الوادعي في الجامع الصحيح (2/81)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (4172).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.