لقد استحق هذا الزمان – وبامتياز – أن يسمى بعصر تنوع المعارف والعلوم، لقد توفرت المعلومة عن طريق وسائل الاتصال المتنوعة، الشبكة العالمية، والبث الفضائي، ووسائل نقل المعلومات المتعددة، مما يجسد فورة في المعلومات، لم يكن لها مثيل في سابق الدهر، ولكن مع هذه الفورة العلمية نجد ضعفًا في الرسوخ العلمي يظهر أثره في قلة الموقعين عن الله تعالى وفي كثرة الشبهات، وقلة المتصدي لها، وفي انحسار المد الدعوي، وانشغال رجالات الدعوة في إطفاء حرائق المارقين على المستويين العقائدي والسلوكي، كذا نجد أثره في ضعف السالكين لدرب العلم مع قلتهم، ومن أعظم آثاره الضعف العلمي العام والانجفال عن العلوم الشرعية، كذا كثرة تتبع الشذوذ في المسائل وأغلوطاتها، ولست ممن يلقي كلامه على عواهنه بل إن من ينظر إلى بلاد العالم الإسلامي المترامية نظرة موضوعية ليظهر له صدق ما نبديه.
إن المتأمل في الساحة الدعوية ليلمس حرجا في النفوس من مباينةٍ للمنهج الحق في مسائل متعددة وتنكب للسبيل في وقائع متفرقة وهذا التباين مرده لشهوة نفس أو هوى متبع يوجب مدافعة للخطأ بتبيين ماهنالك مع حفظ مقام كل صاحب علم ودعوة.
عن معاذ بن جبل –رضي الله عنه – وكان يوصي أصحابه بوصية جامعة نافعة فقال: «وأحذركم زيغة الحكيم فإن الشيطان قد يقول كلمة الظلال على لسان الحكيم، قال الراوي: قلت لمعاذ وما يدريني –يرحمك الله- إن الحكيم قد يقول كلمة الظلالة قال: بلى، اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات التي يقال فيها: ماهذه ؟ ولا يثنيك ذلك عنه فإنه لعله أن يراجع، وتلق الحق إذا سمعته فإن على الحق نورا»[1].
فتحصل من كلام معاذ –رضي الله عنه- هجر الأقوال والأعمال والاعتقادات التي ليست على السَنَن، وهي سنةٌ عند أهل العلم ينبغي أن تحيا ويعمل بها مع كل قول شاذ مخالف للكتاب وصحيح السنة ولو كان قائلها فاضلا.
وقد كثرت – لعمر الله – في زمننا مشتهرات الحكيم وزيغاته، فتُلقفت شواذ الفتيا، ومرجوح الأقوال، وزلل المخطأ من الدعاة، وصُدِّرت كمسائل يسع فيها الخلاف، فالحجاب بدعة، ونصرة الكافرين على المسلمين من الكفر العملي، والسحر أمسى أمرا بمعروف بعد أن كان ينهى عنه لنكارته، وحد الردة محل نقاش، وتهنئة الكفار بأعيادهم الخلاف فيها ضعيف! والولاء والبراء لايفيد علاقات متزنة مع الأعداء، وبغض مبغضي صحابة رسول لله صلى الله عليه وسلم لا يخدم فقه التوازنات، وتتبع الآثار المكانية للرسول الكريم عليه الصلاة والسلام من القربات، والتشديد في الإنكار على المبتدع هفوة سلفية! والأعياد المبتدعة كالعيد الوطني وعيد الأم والزواج والمولد النبوي تحتاج إلى مراجعة للنظر في بدعيتها، والموسيقى في خلفية النشرات الإخبارية لابأس بها لأن ابن تيمية فرّق بين السماع والاستماع! وكما قال بعضهم: التدريس واجب ولا أستطيعه إلا بالدخان فمالا يتم الواجب إلا به فهو واجب!
ألا رحم الله الحياء!
بله سماع الغناء وتمثيل الصحابة ونشيد النساء للرجال والرجال للنساء.. وصلاة المرأة بالرجال!
حسنا! لا أريد الحديث عن صلاة المرأة بالرجال! فذاك أمر عز نظيره!
ومن البلية عذل من لا يرعوي **** عن غيه وخطاب من لا يفهم
فالمؤمن بين دائرتين: دائرة توجب معرفة الفضل لأهله، وأخرى توجب النهي عن المنكر متى استبانت نكارته، وكلتا الدائرتين منصوص عليهما ولكن العبرة في الطريق الذي نسلكه لتبين الزلل مع تخير من الألفاظ أقربها إيصالا للحق من غير إيغار للنفوس.
وهذا نوع من الأدب عز نظيره في زماننا!
يقول ابن تيمية –رحمه الله – «الناس ثلاثة أقسام: إما أن يعترف بالحق ويتبعه، فهذا صاحب الحكمة، وإما أن يعترف به لكن لا يعمل به، فهذا يوعظ حتى يعمل، وإما أن لا يعترف به فهذا يجادل بالتي هي أحسن؛ لأن الجدال فيه مظنة الإغضاب، فإذا كان بالتي هي أحسن حصلت منعته بغاية الإمكان»[2].
إن الدعاة إلى الله هم بقيةٌ من ركب الدعوة الأولى تخلفوا عن بدر والقادسية واليرموك وحطين ليأتوا في كهولة الزمن فيعيدوا الإسلام غضا طريا، إنهم يسيرون على خطى.
"عصابة الإيمان وأئمة الهدى ومصابيح الدجى وأنصح الأمة للأمة وأعلمهم بالأحكام وأدلتها وأفقههم في دين الله وأعمقهم علما وأقلهم تكلفا" فقد شرفوا لانتسابهم لدعوة الناس إلى الخير، فالدعوة إلى الله تعالى هي الهدى المستقيم، وهي سبيل الله، وهي طريقة رسل الله تعالى، والدعاة هم القائمون بتبليغ حجة الله، مستجيبين لأمر الله يقول الله تعالى مجليا هذه المعاني {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدىً مُسْتَقِيمٍ} [سورة الحج: 67] {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة القصص: 87] {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [سورة الأعراف: 59] {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يوسف: 108] {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [سورة النحل: 125] {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} [سورة النساء: 165]
يقول ابن القيم –رحمه الله – «الذين يدعون إلى دينه وعبادته ومعرفته ومحبته، وهؤلاء خواص خلق الله وأفضلهم منزلة عند الله وأعلاهم قدرا. ..فمقام الدعوة أفضل مقامات العبد»[3]، وليس من شرط هذا المقام العظيم للداعية إلى الله عدم الزلل، سواء أكان ذلك الزلل علميا أو عمليا، ومعلوم "أن الرجل قد يجتمع فيه كفر وإيمان وشرك وتوحيد وتقوى وفجور ونفاق وإيمان وهذا من أعظم اصول أهل السنة"[4]، فاجتماع الخطأ والزلل مع الإيمان والبذل والجهاد في ذات الله تعالى من باب أولى.
يقول ابن تيمية –رحمه الله- مؤكدا هذا المعنى: «وإذا اجتمع في الرجل الواحد خيرٌ وشرٌ، وفجور وطاعة ومعصية، وسنة وبدعة استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة»[5]، ومتى حصل تبيين الخطأ وجب اتباع الصواب "لأن درك الصواب في جميع أعيان الأحكام إما متعذر أو متعسر"[6]، فالشريعة قائمة على خلاف داعية الهوى، والحق واحد عند الله لا يتعدد.
وقد رجع الإمام الحبر عبد الله بن عباس –رضي الله عنه – عن قوله في ربا الفضل قال ابن عبد البر –رحمه الله- "رجع ابن عباس أو لم يرجع، في السنة كفاية عن قول كل أحد، ومن خالفها رد أليها، قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ردوا الجهالات الى السنة"[7].
نُقل عن وكيع –يرحمه الله-أنه كان يصوم الدهر، وانه كان يختم كل ليلة، وأنه كان يشرب النبيذ الكوفي فعلق الذهبي –رحمه الله – على ذلك بقوله: «هذه عبادة مفضولة، قد صح نهيه عليه السلام عن صوم الدهر، وصح أنه نهى أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاث، والدين يسر، ومتابعة السنة أولى، فرضي الله عن وكيع، واين مثل وكيع ؟! وكل واحد يؤخذ من قوله ويترك، فلا قدوة في خطأ العالم، نعم ولا يوبخ بما فعله باجتهاد»[8].
إن العدل يوجب علينا تصنيف القائلين بتلك الشذوذات لتنوع طرق التعامل مع كل خطأ فالمجتهد الذي استفرغ وسعه وعُرف بنصرة الديانة، ورفع راية الملة ليس مثيلا لمن صار منهجه جمع الزيغات وإتباع المتشابه ابتغاءً للفتنة فقد بلينا بـ"فقيه مترخص وآخر آخذ بالشاذ، والقول المهجور، وثالث لايدري اصطلاح الفقيه في عبارته، ورابع فقاهته بالتشهي"[9].
ومعلوم أن من اجتهد اجتهادا سائغا في الشريعة فإنه لا يُذكر على جهة الذم والتأثيم، وهذا لا يعني عدم المناظرة في المسائل الاجتهادية بله شواذ الفتيا! "وقد كان العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إذا تنازعوا في الامر اتبعوا أمر الله في قوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء: 59] وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة، وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية، مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين"[10]، ولاشك أن تحدث الجاهل في المسائل الشرعية لا يجعله مجتهدا معذورا بالخطأ في المسألة بل هو مأزور لجرأته على الفتيا بغير علم قال شيخ الإسلام: «فليس لأحد من خلق الله كائنا من كان أن يبطل قولا أو يحرم فعلا إلا بسلطان الحجة والبرهان»[11].
فالتفريق مهم بين خطأ المجتهد وزلة العالم الذي استفرغ وسعه لبلوغ الحق وبين من تسور المحراب مخالفا ما اطردت عليه الشريعة من أحكامها وجعل خلافه لما اشتهر عن أهل السنة شعارا له إما جهلا أو اتباعا للهوى، وعليه فالخطاب الشرعي في الإنكار على من سبق ينبغي أن يتفاوت ما بين التغليظ والترفق والإنكار مسارة أوعلانية، فمن عُرف قدمه الراسخ في نصرة الشريعة وابتلي في ذلك واختبر ليس حاله كحال من تتلاعب به الأهواء فالمؤمن "يتوجع لعثرة أخيه المؤمن إذا عثر حتى كأنه هو الذي عثر بها، ولا يشمت به"[12].
يقول ابن تيمية – رحمه الله – «لكن شيوخ أهل العلم الذين لهم لسان صدق، وإن وقع في كلام بعضهم ماهو خطأ منكر، فأصل الإيمان بالله ورسوله إذا كان ثابتا، غُفر لأحدهم خطؤه الذي أخطأه بعد اجتهاد»[13]، يقول عبد الرحمن بن مهدي –رحمه الله-: «لا يكون إماما في العلم من أخذ بالشاذ من العلم»[14]، وقال مالك –رحمه الله-: «بكى ربيعة يوما بكاء شديدا فقيل له: أمصيبة نزلت بك ؟ قال: لا! ولكن استُفتي من لا علم عنده، وظهر في الإسلام أمر عظيم»[15]
وقال ابن القيم –رحمه الله- «والمقصود أنه سبحانه حرًّم القول عليه بلا علم في أسمائه وصفاته وأحكامه»[16] ويقول ابن رجب –رحمه الله-: «ثم قلًّ الدين والورع، وكثُر من يتكلم في الدين بغير علم، ومن ينصب نفسه لذلك وليس هو له بأهل فيدعي هذا أنه إمام الأئمة، ويدعي هذا أنه هادي الأمة، وأنه هو الذي ينبغي الرجوع إليه دون الناس والتعويل عليه دون الخلق ولهذا كان الإمام أحمد يشدد في أمر الفتيا، ويمنع منها من يحفظ مائة ألف حديث ومائتي ألف حديث وأكثر من ذلك»[17]
كان ابن عون عند القاسم بن محمد فجاء رجل يسأل القاسم عن شيء «فقال القاسم: لا أحسنه، فجعل الرجل يقول إني دُفعت إليك، لا أعرف غيرك، فقال القاسم: لا تنظر إلى طول لحيتي، وكثرة الناس حولي، والله ما أحسنه»[18] رحم الله محمد بن القاسم! ومن كلمات سحنون –رحمه الله-: «أجرأ الناس على الفتيا أقلهم علما»[19]. وقال مالك –رحمه الله- عن نفسه: «ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك»[20]
يقول العز بن عبد السلام –رحمه الله- «فمن أتى شيئا مختلفا في تحريمه معتقدا تحريمه وجب الإنكار عليه وإن اعتقد تحليله لم يجز الإنكار عليه – إلا أن يكون مأخذ المحلل ضعيفا»[21]، يقول الذهبي –رحمه الله – «وإنما يمدح العالم بكثرة ماله من الفضائل، فلا تدفن المحاسن لورطة، ولعله رجع عنها، وقد يُغفر له باستفراغه الوسع في طلب الحق»[22] ويلاحظ هنا أن كلام الذهبي –رحمه الله- إنما هو في العالم المستفرغ لجهده، ولا ينسحب هذا على متسوري المحراب!
والعجب بث تينك المسائل على عامة الناس فيقع التلبيس والتشكيك يقول ابن تيمية – رحمه الله- «والواجب أمر العامة بالجمل الثابتة بالنص والإجماع ومنعهم من الخوض في التفصيل الذي يوقع بينهم الفرقة والاختلاف، فإن الفرقة والاختلاف من أعظم ما نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم»[23]، إن من الخطأ البيِّن حمل تيك الأخطاء على منهج أهل السنة في الفهم والسلوك وقصاراها أن تكون زيغة تهجر وقولا شاذا لايعول عليه، ولاشك أن عظم شأن الدعاة قد يوحش الراد ولكن ينبغي أن يكون أمر الشريعة أعظم في النفوس ومدافعة الخطل عنها فرض عين على كل مستطيع.
إن تتابع تلكم المسائل وكثرة التلبيس يوجب نوعا من الحزم -مع مراعاة التأدب- في الإنكار حتى لا ينصرم وفاق الجماعة، فإن الاجتماع مصلحة شرعية تورث رضوان الله تعالى قال ابن تيمية –رحمه الله-: «ونتيجة الجماعة رحمة الله ورضوانه، وصلواته، وسعادة الدنيا والآخرة، وبياض الوجوه. ونتيجة الافتراق عذاب الله، ولعنته، وسواد الوجوه، وبراءة الرسول صلى الله عليه وسلم منهم يقول الله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [سورة الشورى: 13] وقال تعالى {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [سورة آل عمران: 105][24].
ولعل من أسباب هذا الانحراف عن السنن المرسوم:
1-اتباع الشهوات بأنواعها وأشكالها فإن ذلك يورث انحرافا عن الجادة وميلا عن الطريق {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [سورة النساء: 27] إن من أشد الآفات التي تصيب الدعاة هي طغيان الشهوة فحينها "يصبح الدين حرفة وصنعة، لا عقيدة دافعة، -وحينها - يقولون بأفواههم ماليس في قلوبهم، يأمرون بالخير ولا يفعلونه، ويدعون إلى البر ويهملونه، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويؤولون النصوص القاطعة خدمة للغرض والهوى، ويجدون فتاوى وتأويلات لتبرر أغراض وأهواء لمن يملكون المال والسلطان"[25]
وما أحسن قول ابن تيمية –رحمه الله -: «احتج إلى من شئت تكن أسيره، واستغني عمن شئت تكن نظيره، وأحسن الى من شئت تكن أميره»[26] ويقول أبو إسحاق الشاطبي –رحمه الله- «..ومن جملة التكذيب الخفي: العمل على مخالفة العلم الحاصل..»[27]، وبالجملة فما أحسن قول الإمام احمد –رحمه الله-: «عزيزٌ عليَّ أن تُذيبَ الدُّنيا أكبادَ رجالٍ وَعَتْ صُدورُهم القرآن»[28].
2-مرض الشبهات التي تعتور القلب فيظلم وتجتاله الفتنة والزيغ قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [سورة آل عمران: 7] فالشبهات في واقعنا المعاصر متنوعة بتنوع الفتن ومن أشدها الشبهات العائدة إلى تأويل النصوص الشرعية والتي يتنوع أسلوب التشبيه فيها إلى عدة أنواع فمنها: انتزاع النص الشرعي وبتره من سياقه الأصلي، ومنها الزيادة والنقص فيه، ومنها إفقاد النص مقوماته الأساسية واستباقه بمقدمات مصطنعة لدفع الفهم باتجاه معين، ومنها حشد النصوص المدسوسة وتقديمها على أنها نصوص قطعية، ومنها إلزام النص بما ليس من لوازمه، ولمكافحة سيل الشبهات ينبغي رد المتشابه من النصوص إلى المحكم منها، وينبغي رد الشبهة لعدم معقوليتها وينبغي تصنيف الشبهات لينظر محلها من الشريعة من حيث الأولية، وينبغي التفريق بين النص المحكم وفهم العلماء له، ولهذه الكلمات شرح لايتسع له المقام
وموجب العدل لا يجيز إطلاق ألفاظ التبديع والتظليل على من أخطأ بتأويل، وإن كان لا يُتابَع على خطئه فهو إن "جعل الهداية إلى الحق أول مطالبه وأخر هواه فركب الجادة إليه وماشذ له عن ذلك، فإما أن يرده إليه، وإما أن يكله إلى عالمه فلايصح أن يسمى من هذا حاله مبتدعا ولا ضالا، وإن حصل في الخلاف أو خفي عليه، أما أنه غير مبتدع فلأنه اتبع الأدلة ملقيا إليها حكمة الانقياد باسطا يد الافتقار، مؤخرا هواه ومقدما لأمر الله"[29]
يقول ابو اسحاق الشاطبي –رحمه الله- إن «الظلال في غالب الأمر إنما يستعمل في موضع يزل صاحبه لشبهة تعرض له، أو تقليد من عرضت له شبه، فيتخذ ذلك الزلل شرعا ودينا يدين به، مع وجود واضحة الطريق ومحض الصواب»[30]، يقول ابو هلال العسكري «ولا يضع من العالم الذي برع في علمه زلة، إن كانت على سبيل السهو والإغفال، فإنه لم يعر ُ من الخطأ إلا من عصم الله جل ذكره»[31]، وقد ذُكر كلام رديء في الاعتقاد عن عبيد الله العنبري وحينما تبين له موطن الزلل في كلامه قال «إذاً أرجع وأنا صاغر ولأن أكون ذنبا في الحق أحب إلي من أن أكون رأسا في الباطل»[32].
وننبه هاهنا إلى أمور منها:
1-أهمية الأمر بالعروف والنهي عن المنكر فـ"لارخصة لأحد بتركهما عند القدرة والإمكان. وإن من أضاع ذلك وتساهل فيه فهو متهاون بحق الله، وغير معظم لحرماته كما ينبغي، وقد ضعف ايمانه، وقل من الله خوفه وحياؤه ولا خير في الجبن والضعف المانعين من نصرة الدين ومجاهدة الظالمين والفاسقين لردهم إلى طاعة رب العالمين، فإن الغضب لله والغيرة له عند ترك أوامره وارتكاب نواهيه وزواجره، شأن الأنبياء والصديقين"[33]إن دفع المنكر يكون ببث بالمعروف والتواصي به والإحتساب عليه وليس من شرط الاحتساب التهجير في القول والفعل بل كلما زال المنكر بادنى وسيلة كان أولى
2-الرفق في الأمر والنهي {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [سورة آل عمران: 159] يقول صلى الله عليه وسلم «إن الله يحب الرفق في الأمر كله»[34] ويقول صلى الله عليه وسلم «من يحرم الرفق يحرم الخير كله»[35] ولاشك أن الترفق بالمخطىء يوحد الصف، ويذهب زغل القلب، ويصلح ذات البين، ويزيل سخائم الأنفس، ويوصل إلى الحق بأيسر طريق، وجماع ذلك كله قوله صلى الله عليه وسلم «ماكان الرفق في شيء إلا زانه ومانزع من شيء إلا شانه»[36] فهو الزينة مع كمال النصح والبيان.
يقول ابن القيم –رحمه الله –:
وهو الرفيق يحب أهل الرفق *** يعطيهم بالرفق فوق أمان
3-أهمية الرسوخ العلمي وهذا ينجي من غائلة الشهوات والشبهات والأهواء المظلات وقد امتدح الله تعالى الراسخون في العلم وجعلهم في مقابل من في قلوبهم الزيغ متبعي المتشابه "وحين خص أهل الزيغ باتباع المتشابه دل التخصيص على أن الراسخين لا يتبعونه، فإذاً لا يتبعون إلا المحكم وهو أم الكتاب ومعظمه. يقول ابو اسحاق الشاطبي –رحمه الله- ومَنْ «لم يصح بمسبار العلم أنه من المجتهدين، فهو الحري باستنباط ماخالف الشرع»[37]، «إن الراسخ في العلم لو وردت عليه من الشبه بعدد أمواج البحر ما أزالت يقينه، ولا قدحت فيه شكا ؛ لأنه قد رسخ في العلم فلا تستفزه الشبهات، بل إذا وردت عليه ردها حرس العلم وجيشه مغلولة مغلوبة»[38]
فحري بكل راسخ في العلم أن يتقدّم المسيرة وألا يتركها للطغام قال ابن تيمية –رحمه الله- «فالمرصدون للعلم، عليهم للأمة حفظ علم الدين وتبليغه ؛ فإذا لم يبلغوهم علم الدين، أو ضيعوا حفظه، كان ذلك من أعظم الظلم للمسلمين، ولهذا قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [سورة البقرة: 159] فإن ضرر كتمانهم تعدى إلى البهائم وغيرها فلعنهم اللاعنون حتى البهائم، كما أنَّ معلم الخير يصلي عليه الله وملائكته ويستغفر له كلُّ شيءٍ حتى الحيتان في جوف البحر والطير في جو السماء، وكذلك كذبهم في العلم من أعظم الظلم وكذلك إظهارهم للمعاصي والبدع التي تمنع الثقة بأقوالهم وتصرف القلوبَ عن اتِّباعهم، وتقتضي متابعة الناس لهم فيها هي من أعظم الظلم»[39]
قال الشيخ بكر أبو زيد –رحمه الله – معلقا: «فحرام والله حرام على من لا يهتدي لدلالة آي القرآن، ولا يدري السنن والآثار أن يتسنم جناب العلم، ويحل في حرمه، معول هدم لحماه، وخرق لسياجه وحرمته، وهذا هو المعثر المخذول، علمه وبال، وسعيه ضلال، نعوذ بالله من الشقاء»[40]
والحمد لله رب العالمين
الهوامش:
[1] أخرجه ابوداود في السنن باب لزوم السنة 4/201، وانظر صحيح سنن ابي داود 3855
[2] تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، مجموع الفتاوى، ص 2/45
[3] ابن قيم الجوزية، مفتاح دار السعادة، ص1/153 باختصار يسير
[4] ابن قيم الجوزية، الصلاة وحكم تاركها، ص 1/78.
[5] تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، مجموع الفتاوى، ص 28/ 209
[6] المرجع السابق، ص 20/252
[7] أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي، الإستذكار، ص 19 / 212
[8] أبو عبد الله محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني، السير، ص 9/ 140 بتصرف يسير
[9] بكر بن عبد الله أبو زيدا، التعالم، ص 71
[10] تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، مجموع التفاوى، ص 24/172
[11] المرجع السابق 3/245
[12] ابن قيم الجوزية، مدارج السالكين، ص 1/436
[13] تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، الصفدية، ص 1/265
[14] أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي، جامع بيان العلم وفضله، ص 2/820
[15] أبو القاسم شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي الدمشقي المعروف بأبي شامة، الباعث، ص 174
[16] ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين، ص 1/77
[17] ابن رجب الحنبلي، الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة، ص 27،29،37
[18] أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي، جامع بيان العلم وفضله، ص 2/1129
[19] أبو عبد الله محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني، السير 12/63
[20] المرجع السابق 8 /48
[21] أبو محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن، قواعد الاحكام في مصالح الأنام، ص 1/109
[22] أبو عبد الله محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني، السير 16/283
[23] المرجع السابق، ص 12/237
[24] تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، مجموع الفتاوى ص 1/17
[25] أحمد فائز، الدعوة في ظلال القرآن، ص 1/54
[26] تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، مجموع الفتاوى، ص 1/39
[27] إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي، الموافقات، ص 1/90
[28] جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، مناقب الامام أحمد، ص 200
[29] إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي، الاعتصام، ص 1/235
[30] المرجع السابق 1/241
[31] الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري، شرح ما يقع فيه التصحيف، ص 6
[32] انظر تهذيب التهذيب أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني –رحمه الله، ص 7/8 ، وتهذيب الكمال، ص 19/25
[33] محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم الحلاق القاسمي، اصلاح المساجد من البدع والعوائد، ص 28
[34] اخرجه البخاري 6395
[35] صحيح الجامع6606
[36] صحيح الجامع 5654
[37] إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي، الاعتصام، ص 1/258
[38] ابن قيم الجوزية، مفتاح دار السعادة، ص1/140
[39] تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، مجموع الفتاوى، ص 28/186
[40] بكر أبو زيد، التعالم وأثره على الفكر والكتاب، ص 33
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.