اعتبار الفقهاء للسِّيَاسة الشَّرعيَّة
د. سعد بن مطر العتيبي
بعد أن خلصت الحلقات السابقة إلى أنَّ مجالات السياسة الشرعية من جهة الأحكام والمسائل تشمل : كلّ ما صدر عن أولي الأمر ، من أحكام وإجراءات ، منوطة بالمصلحة ، فيما لم يرد بشأنه دليل خاص ، مُتَعَيِّنٌ - فهو داخل في مجالات السِّيَاسة الشَّرعيَّة ، كما مرَّ بيانه في تعريفها .
تنتقل هذه الحلقة إلى بيان اعتبار علماء الإسلام وفقهاء الشريعة رحمهم الله للسياسة الشرعية ، على نحو ما تم تأصيله في المقالات السابقة .. والحق أنه موضوع يستحق عناية الباحثين من طلبة العلم ، لكشف المسائل السياسية ومستنداتها الشرعية ، ومادته مادة ثرية واسعة شاملة ، تسع عشرات الباحثين الجادين ، كما أنه لطيف في مضمونه ، وعميق في مداركه .
ولمّا كان بهذه المنزلة ، رأيت أن أقتصر على نماذج من تلك المسائل ، مأخوذة من المذاهب الأربعة الذين يستنبطون مسائل السياسة الشرعية وفق طرق الاستدلال السابقة وغيرها ، كما رأيت إضافة أهل الظاهر ، لبيان اتفاقهم مع بقية المذاهب على اعتبار السياسة الشرعية ، عكس ما قد يوحي به ما عُرِف من طريقتهم في الفقهيات .
واعتبار الفقهاء العملَ بالسياسة الشرعيـة أمر لا ينكر ؛ فلا يخلو كتاب من كتب الشروح الفقهية وغيرها من كتب أهل العلم المطولة - في عدد من المباحث الفقهية ، ضمن المجالات التي سبق ذكرها - من تعليل الفقهاء لبعض الأحكام بـ( السياسة ) ، أو بمـا هو مرادف لمرادهم بها في الغالب ، كـ( المصلحة ) أو ( دفع الضّرر ) أو ( الافتقار إلى حكم الحاكم ) ، أو ما كان في معنى ذلك ؛ وقد تَتَبَّعت هذه التعليلات في مجال علم السِّيَر في بعض المراجع الفقهية المهمّة ، ولاحظت تتكرر التعليل بعبارات مرادفة لمعنى السياسة الشرعية ، هي أشبه بدلائل تفرع المسألة - محل التعليل - عن السياسة الشرعية – ومنها على سبيل التمثيل – قولهم : … ويجوز قتله سياسة ؛ … لأنّهم مضرّة على المسلمين ؛ … لأنّه جُعِلَ في مصلحة ؛ … لأنّ مصلحته تفوت بتأخيره ؛ … لئلا يرى الجاسوس قلَّتهم بتفرُّقهم ؛ … لأنّ المصلحة تتعين في قتالهم ؛ … وإنما يجوز للإمام فعل ما فيه المصلحة ؛ … لأنّ ضرره يعود على الجيش كلِّه ؛ … لا يقتل إن جرت العادة ألّا يقتل ؛ … فمتى رأى الإِمام المصلحة في خصلة من هذه الخصال تعَّينَتْ عليه ولم يجز العدول عنها … ؛ … لأنّ الحاجة تدعو إلى ذلك ، فإننا لو قتلنا رسلهم لقتلوا رسلنا فتفوت مصلحة المراسلة ؛ … أو تكون العادة لم تجر بذلك بيننا وبين عدونا ؛ فإذا فعلناه بهم فعلوه بنا فهذا يحرم ؛ لما فيه من الإضرار بالمسلمين ؛ … أو كانوا يفعلون ذلك بنا ، فيفعل بهم ذلك ؛ لينتهوا ؛ … ما لا تدعو إلى أخذه حاجة عامة ، لا يجوز أخذه ؛ … وإن دعت الحاجة جاز لأنّها حال ضرورة ؛ … لأنّـ الحاجة تدعو إلى هذا ، وفي المنع منه مضرّة بالجيش وبدوابِّهم ؛ … لأنّ القتال به معتاد ؛ … جائز عند شدَّة الحاجة إليه ، وتعيُّن المصلحة فيه ؛ … إن كان بالمسلمين حاجة إليه ، أو قوّة به ، أو شغل عنه أُخِّر … ؛ … لأنّه يتعلق بنظر الإمام ؛ … لأنّ ذلك ذريعة إلى إرقاق الولد ؛ وغيرها من التعليلات الفقهية التي تبين فقه الشريعة وتكشف عن مجالات السياسة الشرعية موضوعات ومسائل .
و لا يخلو منها مذهب من المذاهب الفقهية ؛ حتى مذهب أهل الظاهر ؛ وهذا يؤكِّد اعتبار الفقهاء قاطبة للعمل بالسياسة الشرعية في الجملة ، وإن اختلفت المسميات ، والتعبيرات ؛ فالعبرة بالحقائق والمعاني لا بالألفاظ والمباني ؛ يؤكِّـد ذلك أمور ، منها :
الأول : من الناحية النظرية :
فإن مسائل السياسة الشرعية منها ما يرجع في تأصيله إلى النصّ والإجماع ، ومنها ما يرجع إلى ما تفرَّع عن ذلك من قواعد كلية ، ومقاصد مرعية ؛ فأمَّا ما يرجع تأصيله إلى النصِّ والإجماع ، فليس مما يُشَكَّكُ في التسليم به ، وإن وُقِفَ فيه على نزاع ، فليس نزاعا في جملة العمل بالسياسة الشرعية ؛ وإنَّما هو في أمر آخر ؛ كصحة الدليل - إن لم يكن قرآناً - أو صحة الاستدلال وعدمه ، أو اعتبار طريق الاستنباط ، أو تحقيق المناط .
وأمَّا ما يرجع في تأصيله إلى طريق من طرق الاستنباط ( الاستدلال ) ؛ فالخلاف فيه في أهم مسائله ، خلاف لفظي ؛ ثم هو لا يقدح في اعتبار الفقهاء للعمل بالسِّيَاسة الشَّرعيَّة في الجملة .
الثـاني : من الناحية التطبيقية : وتتضح من خلال مجالين :
المجال الأول : التأليف الخاص ؛ حيث يوجد عدد من المؤلفات الفقهية الخاصَّة – في المذاهب الفقهية الأربعة - في السياسة الشرعية في عدد من مجالاتها ، ومن المجالات المتفق على مشروعيتها عندهم جميعا من حيث الأصل ( التعزير ) ، ومن الكتب التي أفردت فيه مثلا : السياسة الشرعية ، لإبراهيم خليفة المعروف بدده أفندي رحمه الله ، و من الكتب التي أفردت في طرق القضاء : الطرق الحكمية ، لابن القيم رحمه الله ، ومن الكتب المعاصرة التي أفردت في مجال أدق : السياسة الشرعية في الأحوال الشخصية لعبد الفتاح عمرو عايش رحمه الله .
المجال الثاني : التأليف العام ؛ حيث يوجد كثير من المسائل الفقهية المندرجة تحت السِّيَاسة الشَّرعيَّة ، منثورة في أمهات كتب أهل العلم من الشروح الفقهية وغيرها ، و لاسيما ما كان منها ذا عناية بفقه النوازل ، و التدليل والتعليل .
وهذه نماذج من نصوص العلماء في بعض مسائل السِّيَاسة الشَّرعيَّة ، مما هو منثور في الكتب الفقهية العامَّة (1) :
أ- أمثلة مما جاء من السياسة الشرعية عند الحنفية :
قال ابن الهمام : فيمن سرق من تابوت في القافلة وفيه الميت : " لو اعتاد لصٌّ ذلك ؛ للإمام أن يقطعه سياسة ، لا حدَّاً …" (2) .
وقال ابن نجيم : " وما ورد في الحديث من الأمر بقتل الفاعل والمفعول به ؛ فمحمول على السياسة أو على المستحلّ ، قال الزيلعي : ولو رأى الإمام مصلحة في قتل من اعتاده ، جاز له قتلُه " (3) .
وقال ابن عابدين : " قوله : للإمام أن يقتله سياسة ، أي : إن سرق بعد القطع مرتين ، لا ابتداءً ، كذا ذكره بعضهم …" (4)
و قال " ولا جمع بين جلد ورجم في المحصن ، ولا بين جلد ونفي أي تغريب في البكر ، وفسره في النهاية بالحبس وهو أحسن وأسكن للفتنة من التغـريب لأنَّه يعود على موضوعه بالنقض إلا سياسة وتعزيرا ؛ فيفوض للإمام وكذا في كل جناية " (5)
وكلام الحنفية في ذلك ، كثير جداً (6) .
ب- أمثلة مما جاء منها عند المالكية :
قول بعض فقهائهم : " وإن كتب شهادته على من لا يعرفه بالعين والاسم لم يصح أن يشهد بها إلا على عينه وإنما تسامح العلماء والخيار في وضع شهادتهم على من لا يعرفونه سياسة في نفع العامة " (7) .
وقول ابن رشد : " يمنع من ذبح الفتى من الإبل مما فيه الحمولة ، وذبح الفتى من البقر مما هو للحرث ، وذبح ذوات الدرّ من الغنم ؛ للمصلحة العامَّة للناس ، فتمنع المصلحة الخاصة " (8) .
وقال الزرقاني مبيناً محلَّ وجوب قتل قاطع الطريق إذا قتل : "… محل وجوب قتله … ما لم تكن المصلحة في إبقائه ؛ بأن يُخشى بقتله فساد أعظم من فئته المتفرقين ؛ فلا يجوز قتله بل يطلق ارتكاباً لأخف الضررين …" (9) .
وكم يلحق بهذه المسألة من مسائل في هذا العصر !
وللمالكية بروز في العمل بالسياسة الشرعية (10) ؛ ولهذا قال ابن القيم : " وأما كلام مالك وأصحابه في ذلك ، فمشهور " (11) .
هذا اتسع المجال لذكره في هذه المقالة ، وللمقالة بقية كما هو ظاهر من ترقيمها ، والله أعلم .
جـ- أمثلة لما جاء منها عند الشافعية :
- قال بدر الدين الزركشي - رحمه الله - عند ذكرهِ قاعدة : ( تصرف الإمام على الرعيّة منوط بالمصلحة ) - : "… نصَّ عليه … قال الشافعي : منزلة الوالي من الرعيَّة ، منزلة الولي من اليتيم انتهى ، وهو نصّ في كلِّ والٍ … وحيث يُخيَّر الإمام في الأسير بين القتل ، والاسترقاق ، والمنّ ، والفداء .. لم يكن ذلك بالتشهـي ؛ بل يرجع إلى المصلحة ، حتى إذا لم يظهر له وجه المصلحة ، حبسهم إلى أن يظهر " (12) .
- و جاء في إعانة الطالبين : " غالب الأحاديث لا تكاد تخلو عن حكم ، أو أدب شرعي ، أو سياسة دينية " (13) .
- وجاء عندهم في عقوبة الذميِّ إذا قتل المرتدَّ ثلاثة أقوال : وجوب القصاص ، وعدمه : " والثالث : يجب القصاص سياسة ، ولا تجب الدية ؛ لأنَّه غير معصوم " (14) .
- وجاء في روضة الطالبين : " والرابع إن قذفها بزنا أضافه إلى ما قبل الزوجية وأثبته ببينة ثم قذفها به ، لم يلاعن ، وإن قذفها بزنا في الزوجية ، وأثبته ببينة ثم قذفها به ، لاعن ؛ وحمل النصين عليهما ، ثم ظاهر نصه في الروايتين أنه لا يُعزَّر إلا بطلبها ، وحكى الإمام وجهاً : أنه يعزِّره السلطان سياسةً وإن لم تطلب ، كما يعزِّر من يقول : الناس زناة ، والصحيح الأول … " (15) .
واعتبارهم للسياسة الشرعية ظاهر لمن له نظر في كتبهم ، وإن كانوا أقل المذاهب استعمالاً لمصطلح ( السياسة ) )17( ، فإنهم يعللون بـ( المصلحة ) ونحوها مما هو رديف له (16) .
د- أمثلة لما جاء منها عند الحنابلة :
ذكر ابن القيم أمثلة لاعتبار الإمام أحمد ، للسياسة الشرعية ، ومن ذلك :
- قوله في المُخنَّث (18) : " والمُخَنَّثُ ينفى ؛ لأنَّه لا يقع منه إلا الفساد والتعرض له ، وللإمام نفيه إلى بلد يأمن فساد أهله ، وإن خاف به عليهم حبسه " (19) .
- ونصُّه فيمن طعن في الصحابة : " أنَّه قد وجب على السلطان عقوبته ، وليس لسّلطان أن يعفو عنه ؛ بل يعاقبه ويَسْتَتِيبه ؛ فإن تاب وإلا أعاد العقوبة " (20) .
-و قال أبو الوفاء ابن عقيل في الفنون : " للسلطان سلوك السياسة وهو الحزم عندنا ولا تقف السياسة على ما نطق به الشرع (21) ؛ إذ الخلفاء الراشدون رضي الله عنه قد قتَّلوا ومثَّلوا وحرَّقوا المصاحف ، ونفى عمرُ نصرَ بن حجَّاج خوف فتنة النساء " (22) . قال ابن مفلح في بيان هذه العبارة : " قال شيخنا : مضمونه ، جواز العقوبة ، ودفع المفسدة ، وهذا من باب المصالح المرسلة ، وقد سلك القاضي في الأحكام السلطانية أوسع من هذا " (23) .
- ونقل عنه ابن القيم قوله : " جرى في جواز العمل في السلطنة ، بالسياسة الشرعية : أنَّه هو الحزم عندنا ، ولا يخلو من القول به إمام " (24) .
- وقال : " وصرح أصحابنا في أنَّ النساء إذا خيف عليهن المساحقة (25) ، حرم خلوة بعضهن ببعض " (26).
قلت : وقد رأينا في هذا العصر شيئا من حكمة هذا الحكم ، الذي لا يماري في صحته عارف بالواقع فقيه في السياسة . وفي بلاد الإفرنج وجدناهم يضعون من القوانين في أماكن التجمعات النسائية ما يحفظ النساء من النساء !
- ومما جاء عند الحنابلة - أيضاً - تقييد ما حكي من الإجماع على وجوب طاعة الإمام في غير المعصية بقولهم : " ولعل المراد : في السياسة والتدبير والأمور المجتهد فيها ، لا مطلقاً ؛ ولهذا جزم بعضهم : تجب في الطاعة ، وتسنُّ في المسنون ، وتكره في المكروه …" (27) .
هـ – أمثلة لما جاء من السياسة في فقه أهل الظاهر :
- من ذلك أنَّ القاضي يحجر على المدين ، ويمنعه من التصرفات الضارَّة بالغرماء ؛ كالإقرار ، والبيع بأقل من القيمة ؛ وللقاضي بيع ماله إذا امتنع عن بيعه ويقسم ثمنه بين الغرماء بالحصص (28) .
- وقال أبو محمد ابن حزم : " ومن أتى منكرات جمَّة ؛ فللحاكم أن يضربه لكل منكر منها عشر جلدات فأقل بالغاً ذلك ما بلغ ؛ لأنَّ الأمر في التعزير جاء مجملاً فيمن أتى منكراً : أن يُغير باليد …" (29) .
- وقال : " الصلاة جائز أن يليها العربي والمولى والعبد والذي لا يحسن سياسة الجيوش والأموال والأحكام والسِّيَر الفاضلة ، وأما الخلافة فلا يجوز أن يتولاها إلا قرشي صليبة (30) عالم بالسياسة ووجوهها ، وإن لم يكن محكِما للقراءة …" (31) .
قلت : والشاهد قوله : " عالم بالسياسة ووجوهها ، وإن لم يكن محكما للقراءة " .
و – أمثلة لما جاء من السياسة في فقه أهل العصر :
وهي كثيرة جدا ، يمكن الباحث تمييزها بالنظر في تعريف السياسة الشرعية وتطبيقه عليها – وسأقتصر منها هنا على مثالين جمعا رأي جمع من كبار علماء العصر :
- أولهما قرار فتوى نظرية ، جاءت في قرار من المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة مدعما بقرار مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية ، ونصه :
" الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، سيدنا ونبينا محمد أما بعد : فإنَّ مجلس المجمع الفقهي الإسلامي ، قد نظر في الكتاب الوارد إلى الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي ، من معالي وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية في الأردن الأستاذ كامل الشريف، والبحث المقدم من معاليه إلى مجلس الوزراء الأردني بعنوان "الأرقام العربية من الناحية التاريخية" ، والمتضمن أن هناك نظرية تشيع بين بعض المثقفين، مفادها أن الأرقام العربية في رسمها الراهن (1-2-3-4-الخ) هي أرقام هندية ، وأن الأرقام الأوروبية (..etc , 1,2,3,4). هي الأرقام العربية الأصلية، ويقودهم هذا الاستنتاج إلى خطوة أخرى ، هي الدعوة إلى اعتماد الأرقام في رسمها الأوربي في البلاد العربية ، داعمين هذا المطلب، بأن الأرقام الأوروبية أصبحت وسيلة للتعامل الحسابي مع الدول والمؤسسات الأجنبية ، التي باتت تملك نفوذًا واسعًا في المجالات الاقتصادية والاجتماعية في البلدان العربية، وأن ظهور أنواع الآلات الحسابية و (الكمبيوتر) التي لا تستخدم إلا هذه الأرقام يجعل اعتماد رسم الأرقام الأوروبية في البلاد العربية أمرًا مرغوبًا فيه، إن لم يكن شيئًا محتومًا لا يمكن تفاديه .
ونظر أيضًا فيما تضمنه البحث المذكور، من بيان للجذور التاريخية لرسم الأرقام العربية والأوربية.
واطلع المجلس أيضًا، على قرار مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، في دورته الحادية والعشرين، المنعقدة في مدينة الرياض مابين 17-28 من شهر ربيع الآخر عام 1403هـ في هذا الموضوع والمتضمن أنه لا يجوز تغيير رسم الأرقام العربية المستعملة حاليًّا إلى رسم الأرقام المستعملة في العالم الغربي للأسباب التالية :
أولاً: أنه لم يثبت ما ذكره دعاة التغيير، من أن الأرقام المستعملة في الغرب هي الأرقام العربية، بل إن المعروف غير ذلك، والواقع يشهد له . كما أن مضي القرون الطويلة، على استعمال الأرقام الحالية في مختلف الأحوال والمجالات، يجعلها أرقامًا عربية، وقد وردت في اللغة العربية كلمات لم تكن في أصولها عربية، وباستعمالها أصحبت من اللغة العربية، حتى إنه وجد شيء منها في كلمات القرآن الكريم (وهي التي توصف بأنها كلمات معرَّبة).
ثانيًا: أن الفكرة لها نتائج سيئة وآثار ضارة ، فهي خطوة من خطوات التغريب للمجتمع الإسلامي تدريجيًّا ، يدل علـى ذلك ما ورد في الفقرة الرابعة من التقرير المرفق بالمعاملة ، ونصها : (صدرت وثيقة من وزراء الإعلام في الكويت تفيد بضرورة تعميم الأرقام المستخدمة في أوربا، لأسباب أساسها وجوب التركيز على دواعي الوحدة الثقافية والعلمية، وحتى السياحية على الصعيد العالمي).
ثالثًا: أنها (أي هذه الفكرة)، ستكون ممهدة لتغيير الحروف العربية، واستعمال الحروف اللاتينية، بدل العربية، ولو على المدى البعيد.
رابعًا: أنها (أيضًا) مظهر من مظاهر التقليد للغرب واستحسان طرائقه.
خامسًا: أن جميع المصاحف والتفاسير، والمعاجم، والكتب المؤلفة كلها تستعمل الأرقام الحالية في ترقيمها، أو في الإشارة إلى المراجع، وهي ثروة عظيمة هائلة، وفي استعمال الأرقام الإفرنجية الحالية (عوضًا عنها) ما يجعل الأجيال القادمة، لا تستفيد من ذلك التراث بسهولة ويسر.
سادسًا: ليس من الضروري متابعة بعض البلاد العربية، التي درجت على استعمال رسم الأرقام الأوربية، فإن كثيرًا من تلك البلاد قد عطلت ما هو أعظم من هذا وأهم ، وهو تحكيم شريعة الله كلها، مصدر العز والسيادة، والسعادة في الدنيا والآخرة، فليس عملها حجة.
وفي ضوء ما تقدم يقرر مجلس المجمع الفقهي الإسلامي ما يلي:
أولاً : التأكيد على مضمون القرار الصادر عن مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في هذا الموضوع والمذكور آنفًا، والمتضمن عدم جواز تغيير رسم الأرقام العربية المستعملة حاليًّا، برسم الأرقام الأوربية المستعملة في العالم الغربي للأسباب المبينة في القرار المذكور.
ثانيًا: عدم جواز قبول الرأي القائل بتعميم رسم الأرقام المستخدمة في أوربا بالحجة التي استند إليها من قال ذلك، وذلك أن الأمة لا ينبغي أن تدع ما اصطلحت عليه قرونًا طويلة، لمصلحة ظاهرة وتتخلى عنه تبعًا لغيرها.
ثالثًا: تنبيه ولاة الأمور في البلاد العربية، إلى خطورة هذا الأمر، والحيلولة دون الوقوع في شرك هذه الفكرة الخطيرة العواقب على التراث العربي والإسلامي.
والله ولي التوفيـق. وصـلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم "( توقيع الرئيس ونائبه والأعضاء )(32) .
- وثاني المثالين اللذين رأيت الاقتصار عليهما : تطبيق عملي ، وهذا نصه :
" الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، سيدنا ونبينا محمد أما بعد : فإنَّ مجلس المجمع الفقهي الإسلامي ، قد نظر في جلسته الأولى من صباح يوم الأحد 9/4/1403 هـ في موضوع انتخاب رئيس للمجلس ، خلفا لسماحة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد – رحمه الله – وبناء على ما ورد في المادة الرابعة من نظام المجمع الفقهي الإسلامي ، والذي جاء فيها : " يتم انتخاب الرئيس من قبل مجلس المجمع بأكثريته المطلقة " . وعليه فقد قرر المجلس بالاتفاق أن يكون صاحب السماحة معالي الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيسا لمجلس المجمع الفقهي الإسلامي . والله ولي التوفيق ، وصلى الله على خير خلقه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم " ( توقيع الرئيس ونائبه والأعضاء )(33).
وبهذا يتبين أنَّ الفقهاء يعتبرون العمل بالسياسة الشرعية في الجملة ؛ وإن اختلفوا في العمل بها بين موسِّعٍ ومضيِّق ؛ ولهذا قال أبو الوفاء ابن عقيل : " ولا يخلو من القول به إمام " (34) .
-----------------------
(1)أمَّا ما جاء من مسائل السياسة الشرعية في كتب السِّيَاسة الشَّرعيَّة المتخصصة ، فأظهر من أن يُذكر ؛ فلا يطال بذكر شيءٍ منه ؛ بل تكفي عناوينها أو تصفحها في بيان المقصود .
(2)فتح القدير شرح الهداية ، لابن الهمام : 5/376 . وانظر ذكراً لمفهوم السياسة في أخذ السلطان الزكاة ممن لم يدفعها للإمام مدعياً دفعها للفقراء. في المصدر نفسه : 2/225.
(3)البحر الرائق شرح كنز الدقائق ، لابن نجيم : 5/18 . ونص الحديث المشار إليه : (( من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به )) . رواه أبو داود : ك/ الحدود ، ب/ فيمن عمِل عمَل قوم لوط ، ح(4462) ؛ و الترمذي : ك/الحدود ، ب/ ما جاء في حد اللوطي ، (1456) ؛ وابن ماجه : ك/الحدود ، ب/ من عمِل عمل قوم لوط ، ح(2561) .
وقد صححه ابن حبان (11/103) ، والحاكم (4/355) ؛ والذهبي ( تلخيص المستدرك ) ؛ وابن القيم : ( في مواضع من كتبه ، منها : زاد المعـاد في هـدي خير العباد :5/40) ؛ وينظر : التلخيص الحبير ، لابن حجر : 4/54-55 ؛ و إرواء الغليل ، للألباني : 8/17،ح(2350) ؛ وتعليق د. سعد بن عبد الله الحميد على : مختصر استدراك الحافظ الذهبي على مستدرك أبي عبد الله الحاكم ، لابن الملقن : 7/3125 .
(4)منحة الخالق على البحر الرائق ، لابن عابدين ، بهامش البحر الرائق : 5/67 ؛ وينظر : رد المحتار على الدر المختار في شرح تنوير الأبصار ، لابن عابدين :4/16 . والعبارة أوردها ابن نجيم نقلاً عن الفتاوى السراجية ؛ وجاء فيه : " إذا سرق ثالثاً ورابعاً ، للإمام أن يقتله سياسة ؛ لسعيه في الأرض بالفساد " ، نقله عن السراجية . وفيه : قال : " فما يقع من حكام زماننا من قتله أول مرَّة زاعمين أن ذلك سياسة ، جور وظلم وجهل ، والسياسة الشرعية عبارة عن شرع مغلظ " . نفس الموضع .
(5)الدر المختار شرح تنوير الأبصار ، للحصكفي ، مطبوع بأعلى حاشيته : رد المحتار على الدر المختار ، لابن عابدين :4/15 . وفي هذه الحاشية ، بحث في السياسة معنون بـ" مطلب في الكلام على السياسة " : 4/15-17.
(6)ينظر فوق ما سبق : رسائل ابن نجيم : 117 .
(7)التاج والإكليل لمختصر خليل [ بحاشية مواهب الجليل ] : 8/225 .
(8)نقله عنه صاحب : مواهب الجليل لشرح مختصر خليل : 4/347
(9)شرح الزرقاني على مختصر خليل ، لعبد الباقي الزرقاني : 4/110 . وعدَّ بعض من أفتى به من المالكية ؛ وينظر : حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ، لمحمد عرفة الدسوقي : 4/350 .
(10)ينظـر : الذخيـرة ، للقرافي :10/42 وما بعدها ؛ وتبصرة الحكام ؛ فقد عقد مؤلفه ابن فرحون المالكي ، القسم الثالث من الكتاب : " في القضاء بالسياسة الشرعية "، و ذكر فيه كثيـراً مـن الأمثلة ، من شتَّى أبواب الفقه : 2/ 137-366 .
(11)إعلام الموقعين : 4/458 .
(12) المنثور في القواعد :1/309 .
(13) للدمياطي :4 /351 .
(14) الوسيط في المذهب ، للغزالي : 6/246 .
(15) للإمام النووي : 6/308 .
(16) قال ابن القيم رحمه الله : " وأبعد الناس من الأخذ بذلك الشافعي مع أنَّه اعتبر قرائن الأحوال في أكثر من مائة موضع … وهل السياسة الشرعية إلا من هذا الباب …" . إعلام الموقعين ، لابن القيم : 4/458 .
(17) ينظر فوق ما سبق : نهاية المحتاج ، للرملي : 8/240 ؛ والتلخيص ، لأبي العباس الطبري ابن القاص : 74-75 ؛ والتجريد لنفع العبيد ، للبجيرمي : 4/232 .
(18) الفروع ، لابن مفلح : 6/115-116 ؛ والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف ، علي بن سليمان المرداوي :10/250 . والمخنَّث : الذي يتشبَّه بالنساء والذي يمكن غيره من نفسه. قال أبو العباس ابن تيمية : " فإنَّ المخنَّث فيه إفساد للرجال والنساء ؛ لأنَّه إذا تشبه بالنساء فقد تعاشره النساء ويتعلمن منه ، وهو رجل فيفسدهن ؛ ولأنَّ الرجال إذا مالوا إليه فقد يُعْرِضُون عن النساء ؛ ولأنَّ المرأة إذا رأت الرجل يتخنَّث فقد تترجل هي ، وتتشبه بالرجال فتعاشر الصنفين ، وقد تختار هي مجامعة النساء كما يختار هو مجامعة الرجال ؛ وأما إفساده للرجال فهو أن يُمَكِّنَهم من الفعل به - كما يفعل بالنساء - بمشاهدته ومباشرته وعشقه …" . مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية : 15/310 . وينظر : 15/322 ؛ و الكليات ، للكفوي : 872 .
(19) إعلام الموقعين ، لابن القيم : 4/457 .
(20) المصدر السابق : 4/458 .
(21) قال البهوتي بعد أن نقل هذه العبارة : " قلت : ولا تخرج عما أمر به أو نهى عنه ". كشاف القناع عن متن الإقناع ، لمنصور البهوتي : 6/126-127 .
(22) الفروع ، لابن مفلح : 6/115-116 ؛ ينظر : الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف ، للمرداوي :10/250 . ولم أقف على هذه العبارة في المطبوع من كتاب الفنون ( جزآن ) مع استعراضه وتكرار البحث فيه ؛ فلعله في الأجزاء التي تُقدر بالمئآت مما لم يطبع بعد ، إن كان موجودا .
(23) الفروع ، لابن مفلح : 6/115-116 .
(24) الطرق الحكمية : 14؛ وإعلام الموقعين ، لابن القيم : 4/451 .
(25) المساحقة : إتيان المرأة المرأة ، و قد يعبر عنه بـ : تدالك المرأتين . ينظر : المغني ، لابن قدامة [ مع الشرح الكبير] :10/157 ؛ وكشاف القناع عن متن الإقناع ، للبهوتي : 6/121.
(26) إعلام الموقعين ، لابن القيم : 4/458 .
(27) الفروع ، لابن مفلح : 2/158. ويذكرون ذلك في كتبهم عند بيانهم أحكام صلاة الاستسقاء .
(28) ينظر : الإمام داود الظاهري وأثره في الفقه الإسلامي ، د. عارف خليل أبو عيد : 437
(29) المحلَّى : 11/404 .
(30) صليبة ، أي : خالص النسب ، من صلب قريش ، مجازي . ينظر : أساس البلاغة ، للزمخشري :358 مادة ( صلب ) .
وشرط النسب القرشي في الخليفة هو ما عليه جماهير العلماء ومنهم الأئمة الأربعة ، وحكى الإجماع عليه غير واحد من العلماء المتقدمين . ولكن هذا الشرط إنما يراعى عند الاختيار من قبل أهل الحل والعقد ، أما من تولّى إمامة المسلمين بغير هذه الطريقة فلا يشترط فيه القرشية ، كالمتغلب مثلا ومن عُهد إليه من إمام سابق وخشيت الفتنة إن عُزِل ؛ ففي مثل هذه الحالة تجب طاعته في غير معصية والجهاد معه ونحو ذلك ، وله من الحقوق ما جاءت به النصوص في وجوب طاعة أولي الأمر في غير معصية ، وما جاءت به من النهي عن الخروج عليهم ، وإن لم تكتمل شروط الخلافة فيه .
ينظر : الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة ، للشيخ د. عبد الله بن عمر الدميجي :265-295 .
(31) الإحكام في أصول الأحكام ، لابن حزم : 7/1268 .
(32) القرار الثالث للدورة السابعة المنعقدة من يوم 11/16 1404هـ .
(33)القرار الأول من الدورة السادسة سنة 1403هـ .
(34) الطرق الحكمية : 14 ؛ وإعلام الموقعين ، لابن القيم : 4/451 .
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.