الحمدُ للهِ وَالصلاةُ وَالسلامُ على رسولِ اللهِ وَآلِه وَصَحْبِه وَمَنْ وَالَاه وبعد...
إنَّ اللهَ خلقَ الخلقَ - الجنَّ وَالإنسَ - لعبادتِه؛ قالَ تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، بلْ إنَّه سبحانه خلقَ الملائكةَ أيضًا لعبادتِه؛ كمَا قالَ تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 19، 20].
فالعبادةُ أنواعٌ كثيرةٌ، كمَا قالَ شيخُ الإسلامِ في تعريفِها: (العبادةُ اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يحبُّه اللهُ وَيرضاه منَ الأقوالِ وَالأعمالِ الظاهرةِ والباطنةِ)([1])، والعباداتُ القلبيةُ التي تكونُ في القلوبِ، مِنَ المحبةِ َالخوفِ وَالرجاءِ وَالتوكلِ وَالإنابةِ التي يجبُ إفرادُها للهِ تعالى، وهذا هو معنى التوحيد، فالناظرُ في كلامِ شيخِ الإسلامِ حينَ تكلَّمَ عنْ أعمالِ القلوبِ يجدُ أنَّه يركزُ على هذا الجانبِ كثيرًا، بلْ جُل كلامِه مُنْصَبٌّ فِي هذا الموضوعِ.
فأقولُ: إنَّ مِنَ الأعمالِ القلبيةِ التي يجبُ إخلاصُها للهِ هوَ الرجاءُ كمَا أسلفنا، لأنَّه بذلكَ تتحققُ العبوديةُ التي خلقنَا اللهُ منْ أجلِها، وهذا منْ أعظمِ ثمراتِ الرجاءِ وَفوائدِه؛ يقولُ شيخُ الإسلامِ - رحمهُ اللهُ -: (وكلمَا قويَ طمعُ العبدِ في فضلِ اللهِ وَرحمتِه، وَرجائه لقضائِه حاجتِه وَدفعِ ضرورتِه؛ قويتْ عبوديتُه له وَحريتُه مما سواه، فكمَا أن طمعَه في المخلوقِ يوجبُ عبوديتَه له، ويأسُه منه يوجبُ غناءَ قلبِه عنه، كمَا قيلَ: استغنِ عمَّن شِئْتَ تَكُنْ نظيرَه، وأَفْضِلْ على منْ شِئْتَ تَكُنْ أميرَه، وَاحتَجْ إلى منْ شِئْتَ تَكُنْ أسيرَه.
فكذلكَ طمعُ العبدِ في ربِّه ورجاؤُه له يوجبُ عبوديتَه له، وَإعراضُ قلبِه عن الطلبِ منَ اللهِ والرجاءِ له يوجبُ انصرافَ قلبِه عن العبوديةِ للهِ، لا سيما منْ كانَ يرجو المخلوقَ وَلا يرجو الخالقَ، بحيثُ يكونُ قلبُه معتمدًا إما على رياستِه وجنودِه وأتباعِه ومماليكِه، وإما على أهلِه وأصدقائِه، وإما على أموالِه وذخائرِه، وإما على ساداتِه وكبرائِه؛ كمالِكِه، ومَلِكِه، وشيخِه، ومخدومِه، وغيرهم ممن هو قَدْ مَاتَ أوْ يموتُ؛ قَالَ تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 58])([2]).
بلْ عدمُ إخلاصِ الرجاءِ للهِ وَتعليقُ القلبِ بغيرِه يورثُ للعبدِ الخيبةَ وَالذلةَ والخذلان، يقولُ شيخُ الإسلامِ - رحمهُ اللهُ -: (اعتمادُه - أي الإنسان - على المخلوقِ وَتوكلُه عليه يوجبُ الضررَ منْ جهتِه، فإنَّه يخذلُه منْ تلك الجهةِ، وهوَ أيضًا معلومٌ بالاعتبارِ وَالاستقراءِ، ما علَّقَ العبدُ رجاءَه وتوكلَه بغيرِ اللهِ إلا خابَ منْ تلكَ الجهةِ، وَلَا استنصرَ بغيرِ اللهِ إلا خُذِلَ، وقدْ قَالَ اللهُ تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم: 81، 82])([3]).
وَفِي ذلك - أي أنَّ مَنْ رجا مخلوقًا في شيءٍ ذلَّ منْ تلكَ الجهةِ - أمثلةٌ كثيرةٌ، منها أنكَ تجدُ (طالبَ الرئاسةِ وَالعلوِّ فِي الأرضِ قلبُه رقيقٌ لمنْ يعينُه عليها، ولوْ كانَ في الظاهرِ مقدمَهم وَالمطاعَ فيهم، فهوَ في الحقيقةِ يرجوهم وَيخافُهم، فيبذلُ لهم الأموالَ وَالولايات، وَيعفو عنهم ليطيعوه وَيعينوه، فهوَ فِي الظاهرِ رئيسٌ مطاعٌ، وَفِي الحقيقةِ عبدٌ مطيعٌ لهمْ)([4]).
وَمِنْ أمثلةِ ذلكَ أيضًا أنَّكَ تجدُ (الرجلَ إذَا تعلق قلبُه بامرأةٍ وَلوْ كانتْ مباحةً له، يبقى قلبُه أسيرًا لها، تتحكمُ فيه وتتصرفُ بما تريدُ، وهوَ في الظاهرِ سيدُها لأنَّه زوجُها، وَفِي الحقيقةِ هوَ أسيرُها ومملوكُها، لاسيما إذا درَّتْ بفقرِه إليها وَعشقِه لها، وأنه لا يعتاضُ عنها بغيرِها، فإنها حينئذٍ تحكمُ فيه بحكمِ السيدِ القاهرِ الظالمِ في عبدِه المقهورِ الذي لا يستطيعُ الخلاصَ منه، بلْ أعظم، فإنَّ أسرَ القلبِ أعظمُ منْ أسرِ البدنِ، وَاستعبادُ القلبِ أعظمُ مِنَ استعبادِ البدنِ)([5]).
فمنَ حقَّق التوحيدَ وَأخلصَ الرجاءَ للهِ؛ فاللهُ يجعلُ له مِنْ كلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَمنْ كُلِّ ضيقٍ مخرجًا، بلْ مِنْ كمالِ إحسانِ اللهِ إلى عبادِه أنْ يمنعَ حصولَ مطالبِهم بالشركِ حتى يصرفَ قلوبَهم إلى التوحيدَ([6]).
فأسألُ اللهَ أنْ يجعلنَا مِنْ محققِي التوحيدِ، وأن يجعلنَا ممنْ يعبدون اللهَ بالمحبةِ وَالخوفِ وَالرجاءِ، وَأنْ يهدينا إلى الصراطِ المستقيمِ، صراطِ الذين أنعمَ اللهُ عليهم مِنَ النبيين وَالصديقين وَالشهداءِ وَالصالحين، وَحَسُنَ أولئكَ رفيقًا.
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.