الخرقة عند الصوفية (3)

الخرقة عند الصوفية (3)



آداب لبس الخرقة عند الصوفية
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمدٍ رحمةِ الله للعالمين، وعلى آله وصحبه وتابعيه بإحسانٍ، إلى يوم الدِّين.
الناظر في كتب الصوفية يجد أنهم قد جعلوا اللبس الخرقة آدابا ومراسم وشرائط يجب الوفاء بها، وفي ذلك يقول قائلهم:
وخرقة الطريق عندهم لها           شرائط من يدرها فمالها
كذا كآداب ترى كثيرة            في كتب أرباب الولا الشهيرة[1]
       ومن ذلك:
1-  أن لا تلبس الخرقة إلا من يد شيخ:
وجعلوا لها إسنادا متصلا بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال محمد بن طاهر في كتابه صفوة التصوف: "باب السنة في لبس الخرقة من يد شيخ، واحتج بحديث أم خالد"[2]، وقال يوسف بن عبد الهادي:" إن لبس الخرقة من الأفاضل مندوب إليه رجاء التبرك والشمول بالحظ المستقيم"[3].
       ويشترط في الشيخ الذي يتأهل لإلباس الخرقة أن يكون قد اجتاز جميع عقبات الطريق حتى أصبح صاحب قوة وعزم تنزع الأخلاق المذمومة من المريد حال إلباسه الخرقة بزعمهم.
       وفي ذلك يقول الهجويري:" أما من يخلع على المريد المرقعة، فيجب أن يكون مستقيم الحال، قد اجتاز جميع عقبات الطريق، وذاق طعم الأحوال، وأردك مشارب الأعمال، ويجب أيضا أن يكون مشرفا على مريده"[4].
       ويقول أبو الفضل الأحمدي:" شرط لباسها أن يعطي الله ذلك الشيخ من القوة والعزم ما ينزع به عن المريد-حال قوله له اخلع قميصك أو قلنسوتك مثلا- جميع الأخلاق المذمومة فيتعطل عن استعمال شيء منها، فلا يصير فيه خلق مذموم إلى أن يموت ذلك المريد، ثم يخلع على المريد مع إلباسه تتلك الخرقة جميع الأخلاق المحمودة التي هي غاية درجة المريد"[5].
2-أخذ العهد والميثاق:
       يقول السهروردي:" ويد الشيخ في لبس الخرقة تنوب عن يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسليم المريد له تسليم لله رسوله قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} [الفتح: 10] ويأخذ على المريد عهد الوفاء بشرائط الخرقة ويعرفه حقوق الخرقة"[6].
       وأعظم شرائط الخرقة وحقوقها التسليم والانقياد للشيخ:" فيسلم نفسه إليه ويستسلم لرأيه واستصوابه في جميع تصاريفه فيلبسه الخرقة إظهارا للتصرف فيه، فيكون لبس الخرقة علامة التفويض والتسليم ودخوله في حكم الشيخ دخوله في حكم الله وحكم رسوله وإحياء سنة المبايعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم"[7].
       "ولبس الخرقة يزيل إتهام الشيخ عن باطنه في جميع تصاريفه، ويحذر الاعتراض على الشيوخ فإنه السم القاتل للمريدين، وقل أن يكون المريد يعترض على الشيخ بباطنه فيفلح، ويذكر المريد في كل ما أشكل عليه من تصاريف الشيخ قصة موسى مع الخضر عليه السلام، كيف كان يصدر من الخضر تصاريف ينكرها موسى، ثم لما كشف له عن معانها بان لموسى وجه الصواب في ذلك، فهكذا ينبغي للمريد أن يعلم أن لكل تصرف أشكل عليه صحته من الشيخ عند الشيخ فيه برهان للصحة"[8].
       وقد جاء في كيفية أخذ العهد والميثاق عند الطريقة الشاذلية مثلا كالتي:"يبين الشيخ معنى التوبة وكيفيتها ثم يضع يده اليمنى في يد المريد اليمني، ويذكره بأن كليهما شريك في العهد، ثم يغمض الشيخ عينيه ولا يتكلم، ويأخذ في التفكير بأن الله هو التواب، وأما هو فمجرد وسيلة لهداية التائبين، ثم يرفع صوته قائلا:" أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، أستغفر الله العظيم ثلاث مرات، وأتوب عليه، وأسأله أن يهديني إلى ما يحبه ويرضاه، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويقول الحمد لله، وعلى المريد أن يبع الشيخ في كل ما يريد ويردده، وبعد ذلك يسمىي الشيخ شيوخه السابقين إن رغب، ويذكر سنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يعطيه الخرقة ويلقنه الذكر..."[9].
       ويقول علي البدري عند الجواب على أركان العهد ولبس الخرقة: "هي خمسة قدوة، وصحبة، وتبرك، ونسبة، وشهرة"[10].
3-الانقطاع عن الدنيا:
       يقول الهجويري:" ولا يستقيم لبس المرقعة عند الصوفية إلا لطائفتين أولاهما المنقطعون عن الدنيا والأخرى المشتاقون إلى حضرة المولى"[11].
       ويقول:" وشروط لبس الخرقة لبس الكفن، لأنهم يقطعون الأمل من لذة الدنيا، ويطهرون قلوبهم من راحتها، ويقفون عمرهم كله على خدمة الحق جل جلاله، ويبرئون تماما من الهوى، ومن ثم يعز الشيخ المريد بإلباسه الخلعة، وهو يقوم بحقها، ويجتهد تماما في أداء هذا الحق، ويحرم على نفسه رغباتها"[12].
4-لا يلبس الخرقة إلا بعد ثلاث سنوات من التحاقه بالطريقة :
       جاء في الموسوعة الصوفية:" ولا يلبس المرقعة السالك الجديد إلا بعد ثلاث سنوات"[13] وذلك أن المريد يطلب من مقدم الزاوية الالتحاق فيقبله مؤقتا، ويعرض أمره على الشيخ، فإن وافق قبل نهائيا ومن ثم يشتركك معهم في الذكر وغيره، ثم يلقن سلسلة من الوصايا ليصبح-مريدا- عاملا وبعد ثلاث سنوات يتلقى البيعة والتقليد أمام جماعة من الشهود ذوي المراتب في الطريقة[14].
       يقول الهجويري" وقد جرت السنة في عادات المشائخ على أنه عندما يتصل بهم مريد بحكم التبرك، فإنهم يؤدبونه خلال سنوات ثلاث على معان ثلاثة، فإذا أدى حقها وإلا قولوا: إن الطريقة لا تقبله، فسنة منها لخدمة الخلف، وسنة ثانية لخدمة الحق وسنة ثالثة لمراعاة قلبة...
       فإذا توفرت هذه الشروط الثلاثة في المريد يسلم له بلبس المرقعة على وجه التحقيق لا التقليد"[15].
       وبعد اجتياز المريد لهذه المرحلة يتم إلباسه الخرقة من يد شيخ الطريقة في مشهد كبير يحضره مشائخ الصوفية[16].
       ويصاحب الإلباس عادة تلقين الذكر، الذكر عند الصوفية على ثلاث مراتب وهي لا إله إلا الله بالنفي اثات، ثم الله مجردة عنهما، ثم الضمير هو ويعد الذكر بقوله"هو" من أنفس الأذكار وأعلاها، لأن السالك يصل به إلى عالم الأسرار كما يزعمون وفي ذلك يقول العيدروس"إن مكاشفات القلوب بذكر لا إله إلا الله، ومكاشفات الأرواح بذكر الله، ومكاشفات الأسرار بذكر هو"[17]، فيلبس الخرقة بعد ذلك إيذانا بالالتزام لشيخه[18].
       وقد يجمع بين الإلباس والمصافحة، كما يجمع بين الإلباس والتلقيم ويقصد بالتلقيم أن يضح الشيخ لقمة من أكل في فم المريد، ويحصل التلقيم بأي نوع من أنواع الطعام كما قال صاحب رحلة الأشواق القوية عن بعض شيوخه:" لقمنا العصيدة كما لقمه مشايخه، قال والتلقيم له شأن يعرفه أهله، فيه أسانيد مذكورة في كتب القوم وأجازنا وألبسنا ولقننا الذكر"[19].


الهوامش

[1] انظر: فصل في الخرقة من ألفية التصوف (101)، لقطب الدين الشيخ مصطفى بن كمال الدين بن علي البكري.

[2] صفوة التصوف (222).

[3] بدء العلقة (47).

[4] كشف المحجوب (1/352).

[5] درر الغواص(79-80)، والطبقات الكبرى للشعراني (2/153).

[6] عوارف المعارف (103).

[7] المرجع السابق (102).

[8] عوارف المعارف (102).

[9] انظر: قانون طريقة السادة الحامدية الشاذلية (41-44)، والكواكب الزاهرة (236)، وعدة المريد (175).

[10] آداب عمومية لكل طريق (41).

[11] كشف المحجوب (1/252).

[12] المصدر نفسه (1/252)، وانظر: آداب عمومية لكل طريق (42).

[13] (952).

[14] انظر: التصوف في تهامة لمحمد العقيلي (38-39).

[15] كشف المحجوب (1/252).

[16] انظر: عقد اليواقيت الجوهرية (1/140)، وسياحة في التصوف الحضرمي (100).

[17] الكبريت الأحمر (77).

[18] انظر سياحة في التصوف الحضرمي(47).

[19] رحلة الأشواق لعبد الله بن محمد باكثير (15) نقلا عن سياحة في التصوف الحضرمي(107-108).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
الخرقة عند الصوفية (3).doc doc
الخرقة عند الصوفية (3).pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى