قال ابن فارس: (رَغِبَ: الراء والغين والباء أصلان؛ فالأول: الرغبة في الشيء: الإرادة له، وإذا لم تُرِدْه قلتَ: رَغِبْتُ عنه، والآخر: الشيء الرغيبُ: الواسعُ الجوفِ)[1].
بل قال بعضُ العلماء: أن أصل الرغبة هو السعة في الشيء، فلا تُطْلَق الرغبة على مجرد الإرادة، بل لابد من أن يكون هناك نوعٌ من السعةِ في هذه الإرادة، بأن يسعى صاحبُها في الحصول عليها.
قال الراغب: (أصلُ الرغبة السعة في الشيء، والرغبة والرغب والرغبي: السعة في الإرادة ... فإذا قيل: رَغِبَ فيه وإليه: يقتضي الحرص عليه ... وإذا قيل: رَغِبَ عنه: اقتضى صرف الرغبة عنه والزهد فيه)[2].
يقول الله تبارك وتعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 7-8]، ويقول سبحانه: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90]، وفي الدعاء الذي يُقرأ إذا أوى إلى فراشه: ((اللهمَّ أسلمتُ نفسِي إليك، ووجهتُ وجهي إليكَ، وفوضتُ أمرِي إليك، وألجأتُ ظهرِي إليك، رغبةً ورهبةً إليك))[3].
فالرجاء والرغبة عند الإطلاق يُقصد بهما شيءٌ واحد، وهو إرادة الحصول على الشيء المحبوب للنفس، ولكن الرغبة أقوى من الرجاء؛ إذ هي تتضمن معنى زائدًا على مجرد الطمع والإرادة، فهي الطمع والإرادة مع الطلب.
قال ابن القيم: (الفرقُ بين الرغبةِ والرجاء، أن الرجاءَ طمعٌ والرغبة طلبٌ، فهي ثمرةُ الرجاء، فإنه إذا رجا الشيءَ طلبَه، والرغبةُ من الرجاءِ كالهربِ من الخوفِ، فمن رجا شيئًا طلبَه ورغبَ فيه، ومن خافَ شيئًا هربَ منه) ... ثم قال: (فالفرقُ الصحيحُ أن الرجاءَ طمعٌ، والرغبةُ طلبٌ، فإذا قوى الطمعُ صارَ طلبًا)[4]؛ إذًا معنى الرجاء والرغبة متقارب، وفي النصوص يُطلق أحدُهما على الآخر[5].
2. الخوف والرجاء:
الرجاءُ والخوفُ متلازمان لا ينفكان عن بعضهما البعض، فقد ذكرهما اللهُ تعالى في كثير من الآيات الكريمة منها:
- {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57].
- {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 98].
- {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} [الرعد: 6].
وروى أنسٌ رضي الله عنه أن ((رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلَ على شابٍّ وهو في الموت، فقال: كيف تجدُك؟ فقال: أرجو اللهَ وأخافُ ذنوبي؛ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: لا يجتمعان في قلبِ عبدٍ في مثلِ هذا الموطنِ إلَّا أعطاه ما يرجو وأَمَّنَه مما يخاف))([6]).
ويقول الغزالي - رحمه الله -: (إن الرجاء والخوف جناحان بهما يطير المُقَرَّبُون إلى كلِّ مقامٍ محمود، ومطيتان بهما يقطع من طرق الآخرة كلَّ عقبةٍ كؤود، فيقود إلى قربِ الرحمنِ وروحِ الجنانِ - مع كونه بعيدَ الأرجاء، ثقيلَ الأعباء، محفوفًا بمكارِه القلوبِ ومشاقِّ الجوارحِ والأعضاء - إلا أزمة الرجاء، ولا يصدُّ عن نارِ الجحيمِ والعذابِ الأليم - مع كونِه محفوفًا بلطائف الشهوات وعجائب اللذات - إلا سياط التخويف وسطوات التعنيف)([7]).
(فالخوفُ والرجاءُ كجناحي الطائر إذا استويا استوى الطيرُ وتمَّ طيرانُه، وإذا نقصَ أحدُهما وقعَ فيه النقص، وإذا ذهبا صارَ الطائرُ في حدِّ الموتِ، فمنْ حملَ نفسَه على الرجاءِ تَعَطَّل، ومن حَمَلَ نفسَه على الخوفِ قنط، ولكن مِنْ هذه مرة ومِنْ هذه مرة)([8]).
وقيل: (للسالكِ نظران: نظرٌ إلى نفسِه وعيوبِه وآفات عملِه، يفتح عليه بابَ الخوفِ إلى سعةِ فضلِ ربِّه وكرمِه وبِرِّه، ونظرٌ يفتح عليه بابَ الرجاء، ولهذا قيل في حدِّ الرجاء: هو النظرُ إلى سعةِ رحمة الله تعالى)([9]).
وإذا قال قائلٌ: أيهما أفضل؛ الخوف أم الرجاء؟ قيل: هذا سؤالٌ فاسد يضاهي قولَ القائل: الخبز أفضل أم الماء؟ وجوابه أن يُقال: الخبزُ أفضل للجائع، والماءُ أفضل للعطشان، فإن اجتمعا نظرَ إلى الأغلب، فإن كان الجوعُ أغلبَ فالخبز أفضل، وإن كان العطشُ أغلبَ فالماء أفضل، وإن استويا فهما متساويان.
(فالخوفُ والرجاءُ لازمهما كبيرٌ، فهما دواءان تُدَاوى بهما القلوب، ففضلهما بحسبِ الداء الموجود، فإن غلبَ على القلبِ داءُ الأمنِ من مكرِ الله والاغترار به، فالخوفُ أفضل، وإن غلبَ عليه اليأسُ فالرجاء أفضل)([10]).
فالعبد المؤمن لابدَّ أن يجمع بين الرجاء والخوف، وهذا الطريقُ هو طريق الاعتدال، لأنه إن غلبَ على المؤمن الرجاءُ حتى فَقَدَ الخوفَ البتة، ووقعَ في طريقِ الأمن من مكر الله، ولا يأمن مكرَ الله إلا القومُ الخاسرون، وإن غلب عليه الخوفُ حتى فَقَدَ رجاءَ الله وقعَ في طريقِ اليأس، ولا ييأس من روحِ اللهِ إلا القومُ الكافرون.
وإن جمع بين الخوف والرجاء فهو طريقُ أولياءِ الله وأصفيائه؛ قال الله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 98]، {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} [الرعد: 6].
و(قال صاحب منازل السائرين - رحمه الله -: (الرجاءُ أضعفُ منازل المريدِ)، وفي كلامِه نظرٌ، بل الرجاء والخوف على الوجه المذكور من أشرف منازل المريد؛ وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((يقولُ اللهُ عز وجل: أنا عندَ ظنِّ عبدِي بِي، فليظنَّ بي ما شاء))([11]).
وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: ((سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول قبلَ موتِه بثلاث: لا يموتنَّ أحدُكم إلا وهو يُحْسِنُ الظنَّ بربِّه))([12])؛ ولهذا قيل: إن العبدَ ينبغي أن يكون رجاؤه في مرضِه أرجحَ من خوفِه، بخلاف زمن الصحة، فإنه يكون خوفُه أرجحَ من رجائه.
وقال بعضُهم: من عَبَدَ اللهَ بالحبِّ وحدَه فهو زنديق، ومن عَبَدَه بالخوف وحده فهو حروري، ورُوي: ومن عَبَدَه بالرجاءِ وحده فهو مرجئ، ومن عَبَدَه بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن مُوحِّدٌ، ولقد أحسنَ محمود الوراق في قوله:
لو قدْ رأيتَ الصغيرَ منْ عَمَلِ الـ |
خيرِ ثوابًا عَجِبتَ من كبره |
أَوَ قَدْ رَأيتَ الحقيرَ من عملِ الشَّـ |
رِّ جزاءً أشفقتَ من حَذَرِه)([13]) |
و(الجمع بين الرجاء والخوف من وجهين؛ أحدهما: أن يرجو حين يذكر صفات ربه ويخاف حين يذكر صفات نفسه؛ لقوله تعالى: {مَنْ خَشَيَ الرَّحْمَنَ}، فسمَّاه بالرحمن في حال خوفه.
وثانيهما: أن يخاف على نفسه ويرجو لغيرِه، وتأمَّل قولَ الخليل عليه السلام في خوفه على نفسه: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}، ولم يقُل: "والذي يغفر لي"، كما قال: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيسْقِين وَإِذا مَرِضت فَهُوَ يَشْفِين}، وكذا قوله: {عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقيًّا}، وقال عليه السلام في حق غيره: {وَمنْ عَصَانِي فَإنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، فانظر ما أشد خوفه على نفسه وأوسع رجاءه لغيره، وهذا عكس ما عليه الأكثرون، والله المستعان)[14].
3. الرجاء والتمنِّي:
(الطاقةُ في الإتيان بأسباب الظفر والفوز و"التمني": حديثُ النفس بحصولِ ذلك مع تعطيل الأسباب الموصلة إليه؛ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 218]، فطوى سبحانه بساطَ الرجاءِ إلا عن هؤلاء، وقال المغترون: إن الذين ضيَّعوا أوامرَه وارتكبوا نواهيه واتبعوا ما أسخطه وتجنبوا ما يرضيه أولئك يرجون رحمته، وليس هذا ببدعٍ من غرورِ النفسِ والشيطانِ لهم!!
فالرجاء لعبدٍ قد امتلأ قلبُه من الإيمان بالله واليوم الآخر، فمثل بين عينيه ما وعدَه اللهُ تعالى من كرامته وجنته، امتد القلبُ مائلًا إلى ذلك شوقًا إليه وحرصًا عليه، فهو شبيهٌ بالمادِّ عنقَه إلى مطلوبٍ قد صارَ نُصبَ عينيه.
وعلامةُ الرجاءِ الصحيح أن الراجي يخافُ فوتَ الجنةِ وذَهَاب حظِّه منها بترك ما يخافُ أن يحولَ بينَه وبين دخولِها، فمَثَلُه مَثَلُ رجلٍ خطبَ امرأةً كريمةً في منصبِ شرفٍ إلى أهلِها، فلما آنَ وقتُ العقدِ واجتماع الأشراف والأكابر وإتيان الرجل إلى الحضور، عَلِمَ عشية ذلك اليوم ليتأهب الحضور فتراه المرأةُ وأكابرُ الناس.
فأخذَ في التأهبِ والتزين والتجمل، فأخذَ من فضولِ شعره، وتنظَّف وتطيَّب ولبس أجمل ثيابه، وأتى إلى تلك الدار متقيًا في طريقه كلَّ وَسَخْ ودَنَسْ وأَثَرٍ يصيبه أشدَّ التقوى، حتى الغبار والدخان وما هو دون ذلك؛ فلما وصلَ إلى البابِ، رَحَّبَ به ربُّها، ومكَّنَ له في صدرِ الدارِ على الفرشِ والوسائدِ، ورمقته العيونُ، وقُصِدَ بالكرامةِ من كل ناحيةٍ.
فلو أنه ذهبَ بعد أخذ هذه الزينة فجلس في المزابل وتمرَّغَ عليها، وتمعَّك بها وتلطخَ في بدنه وثيابه بما عليها من عَذرة وقَذَرَ، ودخل ذلك في شعرِه وبشرتِه وثيابِه، فجاءَ على ذلك الحال إلى تلك الدارِ، وقصدَ دخولها للوعدِ الذي سبقَ له؛ لقام إليه البوابُ بالضربِ والطردِ والصياحِ عليه والإبعادِ له من بابِها وطريقِها، فرجعَ متحيزًا خاسئًا؛ فالأولُ حالُ الراجي وهذا حال المتمني.
وإن شئتَ مثَّلْتَ حالَ الرجلين بِمَلِكٍ هو من أغير الناس وأعظمهم أمانة وأحسنهم معاملة، لا يضيع لديه حقُّ أحدٍ، وهو يعامل الناسَ من وراء سترٍ، لا يراه أحدٌ، وبضائعه وأمواله وتجارته وعبيده وإماؤه ظاهرٌ بارزٌ في داره للعامِلين.
فدخل عليه رجلان؛ فكان أحدُها يعامله بالصدق والأمانة والنصيحة، لم يُجَرِّبْ عليه غشًّا ولا خيانةً ولا مكرًا، فباعَه بضائعه كلها، واعتمد مع مماليكه وجواريه ما يجب أن يعتمدَ معهم، فكان إذا دخلَ إليه ببضاعةٍ تخيَّر له أحسنَ البضائع وأحبها إليه، وإن صنعها بيده بذلَ جهدَه في تحسينِها وتنميقِها، وجعل ما خفيَ منها أحسنَ مما ظهرَ، ويستلم المؤنة ممن أمره أن يستلمها منه، وامتثل ما أمره به السفيرُ بينه وبينه في مقدارِ ما يعملُه صفته وهيئته وشكله ورقَّته وسائر شئونه.
وكان الآخر إذا دخلَ دخلَ بأخسِّ بضاعةٍ يجدها، لم يخلِّصها من الغشِّ، ولا نصحَ فيها، ولا اعتمدَ في أمرها ما قاله المترجم عن المَلِكِ والسفير بينه وبين الصناع والنجار، بل كان يعملها على ما يهواه.
ومع ذلك فكان يخون المَلِكَ في دارِه إذ هو غائبٌ عن عينِه، فلا يلوح له طمعٌ إلا خانه، ولا حرمة للمَلِكِ إلا مدَّ بصرَه إليها، وحرص على إفسادها، ولا شيءَ يُسْخِطُ المَلِكَ إلا ارتكبه إذا قَدرَ عليه، فمضيا على ذلك مدةً، ثم قيل: إن المَلِكَ يبرز لمعامليه حتى يحاسبهم ويعطيهم حقوقهم، فوقف الرجلان بين يديه، فعَامَلَ كلَّ واحدٍ منهما بما يستحقه.
فتأمَّلْ هذين المثالين؛ فإن الواقع مطابق لهما، فالراجي على الحقيقة لَمَّا صارت الجنةُ نصبَ عينيه ورجاءه وأملَه؛ امتدَّ إليها قلبُه وسعى لها سعيها، فإن الرجاء هو امتدادُ القلب وميله، وحقق رجاءَه كمالُ التأهب وخوفُ الفوتِ والأخذُ بالحذر.
وأصله من التنحي، ورجا البئر ناحيته، وإرجاء السماء نواحيها، وامتداد القلب إلى المحبوب منقطعًا عما يقطعه عنه هو تنحٍّ عن النفس الأمارة وأسبابها وما تدعو إليه، وهذا الامتداد والميل والخوف من شأن النفس المطمئنة، فإن القلب إذا انفتحت بصيرتُه فرأى الآخرةَ وما أعدَّ اللهُ فيها لأهلِ طاعتِه وأهلِ معصيتِه؛ خافَ وخَفَّ مرتحلًا إلى اللهِ والدار الآخرةِ، وكان قبلَ ذلك مطمئنًا إلى النفس، وإلى الشهوات والدنيا، فلما انكشفَ عنه غطاء النفس خَفَّ وارتحل عن جوارِها، طالبًا جوار العزيز الرحيم في جنات النعيم.
ومن هنا صار كلُّ خائفٍ راجيًا، وكلُّ راجٍ خائفًا، فأُطْلِقَ اسم أحدهما على الآخر، فإن الراجي قلبه قريب الصفة من قلب الخائف، هذا الراجي قد نجَّى قلبه عن مجاورة النفس والشيطان مرتحلًا إلى اللهِ، قد رُفِعَ له من الجنةِ علمٌ فشمَّر إليه وله، مادًّا إليه قلبه كله.
وهذا الخائفُ فارٌّ من جوارهما – النفس والشيطان -، ملتجئٌ إلى الله من حبسه في سجنهما في الدنيا فيُحبس معهما بعد الموت ويومَ القيامةِ، فإن المرءَ مع قرينه في الدنيا والآخرة، فلما سَمِعَ الوعيد ارتحل من مجاورة جار السوء في الدارين، فأُعطي اسم الخائف، ولما سمع الوعدَ امتدَّ واستطار شوقًا وفرحًا بالظفر به؛ فأُعطي اسم الراجي.
وحالاه متلازمان لا ينفك عنهما، فكلُّ راجٍ خائفٌ من فوات ما يرجوه، كما أن كلَّ خائفٍ راجٍ أمنَه مما يخاف؛ فلذلك تداول الاسمان عليه؛ قال تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13]، قالوا في تفسيرها: لا تخافون للهِ عظمةً، وقد تقدَّم أنه سبحانه طوى الرجاءَ إلا عن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا.
وقد فسَّر النبيُّ الإيمانَ بأنه ذو شعب وأعمال ظاهرة وباطنة، وفسَّر الهجرةَ بأنها هَجْرُ ما نهى اللهُ عنه، والجهادَ بأنه جهادُ النفسِ في ذات اللهِ؛ فقال: ((وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ الْخَطَايَا وَالذَّنُوبَ))([15])، والمقصودُ بأن اللهَ سبحانه جعلَ أهلَ الرجاء من آمن وهاجر وجاهد، وأخرج من سواهم من هذه الأمم.
وأما الأماني فإنها رءوسُ أموالِ المفلسين، أخرجوها في قالب الرجاء وتلك أمانيهم، وهي تصدر من قلبٍ تزاحمت عليه وساوسُ النفسِ فأظلمَ من دخانها، فهو يستعملُ قلبَه في شهواتها، وكلما فعل ذلك مَنَّتْهُ حسنَ العاقبةِ والنجاة، وأحَالَتْهُ على العفوِ والمغفرة والفضل، وأن الكريم لا يستوفي حقَّه، ولا تضرُّه الذنوبُ ولا تُنْقِصُهُ المغفرةُ، ويسمِّي ذلك رجاءً، وإنما هو وسواس وأماني باطلة، تقذفُ بها النفسُ إلى القلبِ الجاهلِ فيستريحَ إليها.
قال تعالى: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [النساء: 123]، فإذا ترك العبدُ ولايةَ الحقِّ ونصرتَه تركَ اللهُ ولايتَه ونصرتَه، ولم يجدْ له من دونِ اللهِ وليًّا ولا نصيرًا، وإذا ترك ولايتَه ونصرتَه تولتْه نفسُه والشيطانُ، فصارا وليين له، وَوُكِلَ إلى نفسه فصار انتصاره لها، بدلًا من نصرة الله ورسوله، فاستبدل بولايةِ اللهِ ولاية نفسه وشيطانه، وبنصرته نصرة نفسه وهواه، فلم يدعْ للرجاء موضعًا.
فإذا قالت لك النفسُ: أنا في مقام الرجاء!! فطالِبْها بالبرهانِ، وقُل: هذه أمنيةٌ فهاتوا برهانكم إنْ كنتم صادقين، فالكيِّسُ يعمل أعمالَ البرِّ على الطمعِ والرجاءِ، والأحمقُ العاجزُ يُعَطِّلُ أعمالَ البرِّ ويَتَّكِلُ على الأماني التي يسميها رجاءً، والله الموفق)([16]).
4. الرجاء والأمل:
لفظُ الرجاء بمعنى التوقع والأمل، قال في "مجمع البحار": ("وتكرر فيه الرجاء": بمعنى التوقع والأمل، وقال في "النهاية": وقد تكرَّرَ فيه ذكر الرجاء بمعنى: التوقع والأمل، يُقال: رجوتُه أرجوه رجوًا ورجاءً ورجاوةً، وقال في "القاموس": الرجاءُ ضد اليأس، كالرجو والرجاءة والرجاوة والترجي والارتجاء والترجية.
وقال في "الصحاح": والرجاء من الأمل ممدود، يُقال: رجوتُ فلانًا رجوًا ورجاءً ورجاوةً، وقال في "المصباح المنير": رجوتُه أرجوه رجوًا على فعول: أملتُه أو أردتُه؛ قال تعالى: {لا يَرْجُونَ نِكَاحًا} [النور: 60]، أي لا يريدونه، والاسم الرجاء بالمد.
ولا يخفاك أن الرجاءَ - بمعنى التوقع والأمل - مصدرٌ أو اسمُ مصدرٍ، لا يصحُّ حملُه على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالموطأةِ، فإذًا هو إما مبني للفاعل أو للمفعول، لا سبيل إلى الاحتمال الأول وهذا ظاهر؛ فتعيَّن الثاني.
كما في قوله تعالى في سورة هود: {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا} [هود: 62]، قال البيضاوي تحت هذه الآية: لِمَا نرى فيك من مخايل الرشدِ والسداد، أن تكون لنا سيدًا ومستشارًا في الأمور، وفي فتح البيان: أي كنا نرجو أن تكون فينا سيدًا مطاعًا ننتفعُ برأيك، ونسعدُ بسعادتك؛ لِمَا نرى فيك من مخايل الرشد والسداد، لأنه كان من قبيلتهم، وكان يُعِينُ ضعيفَهم، ويُغْنِي فقيرَهم.
ولكن لابد من أن يُعْلَم هناك أن من الرجاء ما هو مختصٌّ باللهِ تعالى، بمعنى أن المرجو فيه لا يصلح إلا لله تعالى، كرجاء كشف الضرِّ والسوء وتحويله وإجابة المضطر إذا دعاه، وإنزال الماء من السماء وشفاء المريض وبسط الرزق وإعطاء الأولاد ومغفرة الذنوب، وغيرهما مما لا يقدرُ عليه إلا الله تعالى، وهذا الرجاء هو الذي أثنى اللهُ تعالى على فاعليه في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57])([17]).
5. الرجاء والطمع:
قال ابن فارس: (فالطاء والميم والعين أصلٌ واحدٌ صحيح، يدل على رجاءٍ في القلبِ قويٍّ للشيء)([18])، وهو الذي أمرنا اللهُ أن ندعوه متلبسين به؛ حيث قال: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الأعراف: 56]، فعبَّر عن الرجاء بالطمع.
يقول الله تبارك وتعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 75]؛ يقولُ ابن جرير: (أفترجون يا معشرَ المؤمنين بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم والمصدِّقِين ما جاءَ من عندِ الله، أن يؤمنَ لكم يهودُ بني إسرائيل)؟([19])
وهو الذي ذكره إبراهيم عليه السلام في ثناء الله تعالى: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82]، وهو الذي ذكرَه اللهُ تعالى في وصفِ المؤمنين فقال: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة: 16].
قال في التحرير والتنوير: (الطمع: ترقبُ حصول شيءٍ محبوب، وهو يرادفُ الرجاءَ، وهو ضد اليأس)([20])، والترادف بين الطمع والرجاء من كلِّ وجهٍ ليس صحيحًا؛ إذ الطمعُ أشدُّ من الرجاء، حيث إن تعلق النفس بالشيء ورغبتها فيه هو الرجاء، وإذا اشتدَّ التعلقُ صار طمعًا([21])؛ وعليه فالطمع هو الرغبة في الشيء بدون سبب يدعو إليه، ولهذا ذُم الطمع ولم يذم الرجاء كما في قوله تبارك وتعالى: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب: 32].
([6]) رواه الترمذي، كتاب الجنائز، باب ما جاء في تلقين المريض عند الموت والدعاء له، (988)، وقال: حديث غريب.
([11]) رواه البخاري، كتاب التوحيد، (1274)، ومسلم، كتاب التوبة، باب الحض على التوبة والفرح بها، (1098).
([13]) شرح العقيدة الطحاوية، محمد بن أبي العز الحنفي، وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، الطبعة: الأولى، 1418 هـ، تحقيق: أحمد شاكر، (1/313).
([14]) إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات إلى المذهب الحق من أصول التوحيد، ابن الوزير القاسمي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة: الثانية، 1987م، ص(357).
([15]) رواه أحمد في مسنده، (23958)، والنسائي في السنن الكبرى، (11794)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، (549).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.