عروة بن الزبير

عروة بن الزبير





كان بحراً من بحور العلم، وإماماً في الصبر واليقين. قال أبو نعيم فى وصفه: ومنهم المعطى ما تمنى، حمل العلم عنه إذ فيه تعنَّى، مُكن من الطاعة فاكتسب، وامتُحن بالمحنة فاحتسب، عروة بن الزبير بن العوام، المجتهد الصوام([1]).
وقوله: "المعطى ما تمنى" إشارة إلى ما رواه ابن أبي الزناد عن أبيه قال: اجتمع في الحجر مصعب، وعبد الله، وعروة بنوا الزبير، وابن عمر. فقالوا: تمنوا، قال عبد الله: أما أنا فأتمنى الخلافة، وقال عروة: أتمنى أن يؤخذ عني العلم، وقال مصعب: أما أنا فأتمنى إمرة العراق، والجمع بين عائشة بنت طلحة، وسكينة بنت الحسين، وأما ابن عمر فقال: أتمنى المغفرة، فنالوا ما تمنوا، ولعل ابن عمر قد غفر له([2]).
وأئمة المسلمين هم أئمة في العلم والعمل والصبر واليقين، فهذا عروة بن الزبير يُحْكِم ما عند خالته عائشة رضي الله عنها قبل وفاتها بثلاث سنين، ثم هو يسرد الصوم، ويقوم الليل بربع القرآن كل ليلة، ثم يُصَابُ بقرحة في ساقة فتبتر ساقه، ويرفض أن يأخذ ما يذهب بعقله حتى لا يحرم من عبادة ربه عز وجل، ثم هو ينظر إليها في الطست بعد أن قطعت فيقول: والله ما مشيت بها إلى معصية، وفي هذه الأثناء، يموت أحد أبنائه السبعة فيحمد الله أن أخذ أحد أبنائه وأبقى له ستة، وأخذ أحد أعضائه وأبقى له ثلاثة، والرجل يبتلى على قدر دينه، فرحم الله أئمتنا، وغفر لنا ولهم، وجمعنا وإياهم في فردوسه الأعلى، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه، والحمد لله رب العالمين.
1- اسمه ومولده وصفته:
اسمه: عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشي، الأسدي، أبو عبد الله المدني الفقيه، أحد الفقهاء السبعة. مولده: قال خليفة: ولد عروة سنة ثلاث وعشرين.
وقال مصعب بن عبد الله: ولد لست سنين خلت من خلافة عثمان. وقال مرةً: ولد سنة تسع وعشرين([3]).
صفته: عن محمد بن هلال قال: رأيت عروة بن الزبير لا يحفي شاربه جداً، يأخذ منه أخذاً حسناً([4]).
وعن إسحاق بن يحيى قال: رأيت عروة يلبس رداءً معصفراً([5]).
2- ثناء العلماء عليه:
قال محمد بن سعد: كان ثقة كثير الحديث فقيهاً عالماً مأموناً ثبتاً([6][6]).
وقال أحمد بن عبد الله العجلي مدني تابعي ثقة، وكان رجلاً صالحاً لم يدخل في شيء من الفتن([7]).
وعن عمر بن عبد العزيز قال: ما أحد أعلم من عروة بن الزيير وما أعلمه يعلم شيئاً أجهله([8]).
وعن الزهري قال: رأيت عروة بحراً لا تكدره الدلاء([9]).
وعن هشام قال: والله ما تعلمنا جزءاً من ألفي جزء من حديث أبي([10]).
وعن عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن قال: دخلت مع أبي المسجد، فرأيت الناس قد اجتمعوا على رجل. فقال أبي: انظر من هذا، فنظرت فإذا هو عروة، فأخبرته وتعجبت فقال: يا بُني لا تعجب لقد رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه([11]).
وعن سفيان بن عيينة قال: كان أعلم الناس بحديث عائشة ثلاثة: القاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، وعمرة بنت عبد الرحمن([12]).
وعن أبي الزناد قال: ما رأيت أحداً أروى للشعر من عروة([13]).
وقال الذهبي: وكان ثبتاً حافظاً فقيهاً عالماً بالسيرة، وهو أول من صنف المغازي([14]]).
وعن الزهري قال: كنت آتي عروة، فأجلس ببابه مَليًا، ولو شئت أن أدخل دخلت، فأرجع وما أدخل إعظاماً له([15]).
3- حرصه على طلب العلم:
عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال: العلم لواحد من ثلاثة: لذي حسب يزينه به، أو لذي دين يسوس به دينه، أو مختبط سلطاناً يتحفه بعلمه، ولا أعلم أحداً أشرط لهذه الخلال من عروة، وعمر بن عبد العزيز([16]]).
وعن هشام عن أبيه قال: لقد رأيتني قبل موت عائشة بأربع حجج وأنا أقول لو ماتت اليوم ما ندمت على حديث عندها إلا وقد وعيته، ولقد كان يبلغني عن الرجل من المهاجرين الحديث، فآتيه، أجده قد قال، فأجلس على بابه فأسأله عنه يعني: إذا خرج([17]).
وعن قبيصة بن ذؤيب قال: كنا في خلافة معاوية وإلى آخرها نجتمع في حلقة بالمسجد بالليل، أنا ومصعب وعروة ابنا الزبير وأبو بكر بن عبد الرحمن بن عوف، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وكنا نتفرق بالنهار، فكنت أنا أجالس زيد بن ثابت، وهو مترئس بالمدينة في القضاء والفتوى والقراءة والفرائض في عهد عمر وعثمان وعلي، ثم كنت أنا وأبو بكر بن عبد الرحمن نجالس أبا هريرة، وكان عروة يغلبنا بدخوله على عائشة([18]).
4- عبادته رحمه الله:
وعن ابن شوذب قال: كان عروة يقرأ ربع القرآن كل يوم في المصحف نظراً، ويقوم به الليل، فما تركه إلا ليلة قطعت رجله، وكان وقع فيها الأكلة فنشرت، وكان إذا كان أيام الرطب يثلم حائطه، ثم يأذن للناس فيه، فيدخلون يأكلون ويحملون([19]).
وعن عبد الله بن محمد بن عبيد قال: لم يترك عروة بن الزبير ورده إلا في الليلة التي قطعت فيها رجله. قال: وتمثل بأبيات معن بن أوس:
لعمرك ما أهويت كفي لريبة                ولا حملتني نحو فاحشة رجلي
ولا قادني سمعي ولا بصري لها               ولا دلني رأيي عليها ولا عقلي
وأعلم أني لم تصبني مصيبة                  من الدهر إلا قد أصابت فتى قبلي([20])
5- فراره من مخالطة الناس وبناء قصره:
عن هشام بن عروة قال: لما اتخذ عروة قصره بالعقيق قال له الناس:
جفوت مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت مساجدهم لاهية، وأسواقهم لاغية، والفاحشة في فجاجهم عالية، فكان فيما هنالك عما هم فيه عافية([21]]).
ولعروة في قصره بالعقيق:
بنيناه فأحسنا بناه                 بحمد الله في خير العقيق
تراهم ينظرون إليه شزراً            يلوح لهم على وضح الطريق
فساء الكاشحين وكان غيظاً                لأعدائي وسر به صديقي
يراه كل مختلف وسار              ومعتمد إلى البيت العتيق
وقيل: لما فرغ من بنائه وبئاره دعا جماعة فطعم الناس، وجعلوا يبركون وينصرفون([22]).
وعن عبد الله بن حسن قال: كان علي بن حسين بن علي بن أبي طالب يجلس كل ليلة هو وعروة بن الزبير في مؤخر مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد العشاء الآخرة، فكنت أجلس معهما، فتحدثنا ليلة، فذكر جور من جار من بني أمية والمقام معهم وهم لا يستطيعون تغيير ذلك، ثم ذكروا ما يخافان من عقوبة الله لهم. فقال عروة لعلي: يا علي إن من اعتزل أهل الجور والله يعلم منه سخطه لأعمالهم، فإن كان منهم على ميل ثم أصابتهم عقوبة الله، رجي له أن يسلم مما أصابهم. قال: فخرج عروة فسكن العقيق([23]).
6- قصة قدومه على عبد الملك بعد مقتل أخيه:
قال ابن عيينة: لما قتل ابن الزبير خرج عروة إلى المدينة بالأموال فاستودعها، وسار إلى عبد الملك فقدم عليه قبل البريد بالخبر، فلما انتهى إلى الباب قال للبواب: قل لأمير المؤمنين: أبو عبد الله بالباب فقال: من أبو عبد الله؟ قال: قل له كذا، فدخل فقال: ها هنا رجل عليه أثر السفر. قال: كيت وكيت، فقال: ذاك عروة فأذن له، فلما رآه زال له عن موضعه وجعل يسأله: كيف أبو بكر؟ يعني: عبد الله بن الزبير. فقال: قتل رحمه الله، فنزل عبد الملك عن السرير، فسجد، فكتب إليه الحجاج إن عروة قد خرج والأموال عنده. قال: فقال له عبد الملك في ذلك، فقال: ما تدعون الرجل حتى يأخذ سيفه فيموت كريماً، فلما رأى ذلك كتب إلى الحجاج أن أعرض عن ذلك([24]).
7- قصة زواجه من سودة ابنة عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:
عن أبي الأسود عن عروة قال: خطبت إلى ابن عمر بنته سودة ونحن في الطواف فلم يجيبني بشيء، فلما دخلت المدينة بعده مضيت إليه فقال: كنت ذكرت سودة؟ قلت: نعم قال: إنك ذكرتها ونحن في الطواف نتخايل الله بين أعيننا، أفلك فيها حاجة؟ قلت: أحرص ما كنت. قال: يا غلام، ادع عبد الله بن عبد الله، ونافعاً مولى عبد الله، قال: قلت له: وبعض آل الزبير؟ قال: لا. قلت: فمولى خبيب؟ قال: ذاك أبعد. ثم قال لهما:
هذا عروة بن أبي عبد الله، وقد علمتما حاله، وقد خطب إلي سودة، وقد زوجته إياها بما جعل الله للمسلمات على المسلمين من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، وعلى أن يستحلها بما يستحل به مثلها، أقبلت يا عروة؟ قلت: نعم. قال: بارك الله لك([25]).
8- صبره رحمه الله:
عن هشام بن عروة عن أبيه: وقعت الأكلة في رجله فقيل له: ألا ندعو لك طبيباً؟ قال: إن شئتم. فجاء الطبيب فقال: أسقيك شراباً يزول فيه عقلك فقال: امض لشأنك ما ظننت أن خلقاً يشرب شراباً ويزول فيه عقله حتى لا يعرف ربه. قال: فوضع المنشار على ركبته اليسرى، ونحن حوله فما سمعنا له حساً، فلما قطعها جعل يقول: لئن أخذت لقد أبقيت، ولئن ابتليت لقد عافيت، وما ترك حزبه من القراءة تلك الليلة([26]).
وقال عامر بن صالح عن هشام بن عروة: إن أباه خرج إلى الوليد بن عبد الملك، حتى إذا كان بوادي القرى وجد في رجله شيئاً فظهرت به قرحة، ثم ترقى به الوجع، فلما قدم على الوليد قال: يا أبا عبد الله اقطعها. قال: دونك فدعا له الطبيب وقال له: اشرب المرقد فلم يفعل، فقطعها من نصف الساق، فما زاد على أن قال: حس حس. فقال الوليد: ما رأيت شيخاً قط أصبر من هذا.
وأصيب عروة في هذا السفر بابنه محمد، ركضته بغلة في اصطبل، فلم نسمع منه كلمة في ذلك، فلما كان بوادي القرى قال: ((لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً)) [الكهف:62] اللهم كان لي بنون سبعة فأخذت منهم واحداً وأبقيت لي ستة، وكان لي أطراف أربعة فأخذت طرفاً وأبقيت ثلاثة، فإذا ابتليت لقد عافيت، ولئن أخذت لقد أبقيت([27]).
وعن عبد الله بن عروة: أنا أباه نظر إلى رجله في الطست فقال: الله يعلم أني ما مشيت بها إلى معصية قط وأنا أعلم([28]).
وعن عبد الملك بن عبد العزيز وغيره أن عيسى بن طلحة جاء إلى عروة بن الزبير حين قدم من عند الوليد بن عبد الملك، وقد قطعت رجله، فقال لبعض بنيه: اكشف لعمك عن رجلي ينظر إليها فنظر. فقال عيسى بن طلحة: يا أبا عبد الله! ما أعددناك للصراع ولا للسباق، ولقد بقى الله لنا ما كنا نحتاج إليه منك رأيك وعلمك. فقال عروة: ما عزاني أحد عن رجلي مثلك([29]).
وقال ابن خلكان: كان أحسن من عزاه إبراهيم بن محمد بن طلحة، فقال: والله ما بك حاجة إلى المشي، ولا أرب في السعي، وقد تقدمك عضو من أعضائك، وابن من أبنائك إلى الجنة، والكل تبع للبعض إن شاء الله، وقد أبقى الله لنا منك ما كنا إليه فقراء من علمك ورأيك، والله ولي ثوابك والضمين بحسابك([30]).
9- درر من أقواله رحمه الله:
عن هشام بن عروة قال: قال عروة لبنيه: يا بني لا يهدين أحدكم إلى ربه عز وجل ما يستحي أن يهديه إلى كريمه، إن الله عز وجل أكرم الكرماء، وأحق من اختير إليه.
وكان يقول: يا بني تعلموا فإنكم إن تكونوا صغراء قوم عسى أن تكونوا كبراءهم، واسوأتاه، ماذا أقبح من شيخ جاهل.
وكان يقول: إذا رأيتم خلة شر رائعة من رجل فحذروه، وإن كان عند الناس رجل صدق، فإن لها عنده أخوات، إذا رأيتم خلة خير رائعة من رجل فلا تقطعوا عن إياسكم، وإن كان عند الناس رجل سوء، فإن لها عنده أخوات، وقال: الناس بأزمنتهم أشبه منهم بآبائهم وأمهاتهم([31]).
وعن هشام عن أبيه قال: مكتوب في الحكمة: لتكن كلمتك طيبة، وليكن وجهك بسطاً، تكن أحب إلى الناس ممن يعطيهم العطاء([32]).
وعن معاوية بن إسحاق عن عروة قال: ما بر والده من شذ الطرف إليه([33]).
وقال هشام: قال أبي: رب كلمة ذل احتملتها أورثتني عزاً طويلاً([34][).
وقال: ما حدثت أحداً بشيء من العلم قط لا يبلغه عقله إلا كان ضلالة عليه([35]).
10- وفاته رحمه الله:
قال الزبير: توفي عروة وهو ابن سبع وستين سنة([36]).
وقال ابن المديني: مات عروة سنة ثلاث وتسعين، وقال الهيثم والواقدي، وأبو عبيدة، ويحيى بن معين والفلاس: سنة أربع وتسعين([37]).
وقال معاوية بن صالح عن يحيى بن معين في تسمية تابعي أهل المدينة ومحدثيهم: أبو بكر بن عبد الرحمن مات سنة أربع وتسعين، عروة بن الزبير، وسعيد، وعلي بن الحسين، وكان يقال: سنة الفقهاء([38]).
وعن عبد الحكيم بن عبد الله بن أبي فروة قال: مات عروة بن الزبير في أمواله بمجاح من ناحية القُرع، ودفن هناك يوم الجمعة سنة أربع وتسعين.

الهوامش:

([1]) حلية الأولياء (2/189).

([2]) رواه أبو نعيم في الحلية (2/176)، وذكره الذهبي في السير (4/431)

([3] سير أعلام النبلاء (4/422).

([4] طبقات ابن سعد (5/179).

([5] طبقات ابن سعد (5/179).

([6][6]) طبقات ابن سعد (5/179).

([7][7]) تهذيب الكمال (20/15، 16).

([8] تهذيب الكمال (20/17)

([9] سير أعلام النبلاء (4/425).

([10]) سير أعلام النبلاء (4/335).

([11]) سير أعلام النبلاء (4/425).

([12]) تهذيب الكمال (8/20).

([[13]) تاريخ الإسلام (6/426).

([14]) تاريخ الإسلام (6/246).

([15])  سير أعلام النبلاء (4/432).

([16]) سير أعلام النبلاء (4/426)، والمختبط الذي يسألك بلا وسيلة ولا معرفة

([17]) تاريخ الإسلام (6/426).

([18]) سير أعلام النبلاء (4/424).

([19]) سير أعلام النبلاء (4/426).

([20]) حلية الأولياء (2/178).

([[21]) حلية الأولياء (2/180).

([22]) سير أعلام النبلاء (4/428)، وقوله: وبئاره أي: حفر آباره، قال الذهبي: وبئر عروة مشهور بالعقيق طيب الماء.

([23][) طبقات ابن سعد (5/181).

([24][) سير أعلام النبلاء (4/432، 433).

([25]) سير أعلام النبلاء (4/433).

([26]) تهذيب الكمال (20/20، 21).

([27]) تاريخ الإسلام (6/427).

([28][) تاريخ الإسلام (6/427، 428).

([29][) تهذيب الكمال (20/21).

[[30]) وفيات الأعيان (3/256).

([31]) حلية الأولياء (2/177).

(32]) حلية الأولياء (2/178).

([33]) سير أعلام النبلاء (4/433)

([34][) سير أعلام النبلاء (4/436)

([35]) سير أعلام النبلاء (4/437).

([36][) طبقات ابن سعد (5/182).

([37]) سير أعلام النبلاء (4/434).

([38]) تهذيب الكمال (20/24).   

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
عروة بن الزبير.doc doc
عروة بن الزبير.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى