صفةُ الكلامِ

صفةُ الكلامِ





الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، ثم أما بعد؛..
صفةُ الكلامِ مِنَ الصفاتِ الذاتيةِ الفعليةِ، وهي صفةٌ قائمةٌ به سبحانه وتعالى، وأنَّ اللهَ يتكلمُ متى شاءَ وكيفَ شاءَ، ويُكَلِّم مَنْ شاءَ، فهيَ صفةٌ ذاتيةٌ مِنْ حيثُ أَنَّ اللهَ مُتصفٌ بها منذُ الأزلِ، وفعليةٌ مِنْ حيثُ أَنَّ الكلامَ راجعٌ إلى مشيئتِه وإرادتِه.
واللهُ تعالى يتكلمُ بحرفٍ وصوتٍ يُسمعُ، وأنَّ كلامَ اللهِ ليس معنى واحد، والقرآنُ كلامُ اللهِ، سَمِعَه منه جبريل بحرفٍ وصوتٍ، وسَمِعَهُ نبيُّنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم مِنْ جبريل، وسَمِعَه الصحابةُ مِن الرسولِ صلى الله عليه وسلم، مُنَزَّلٌ غيرُ مخلوقٍ، منه بدأَ وإليه يعودُ.
وقدْ تنوَّعتْ الأدلةُ في إثباتِ صفةِ الكلامِ للربِّ سبحانه وتعالى؛ قالَ ابنُ القيمِ - رحمهُ اللهُ -: (وقدْ نوَّعَ اللهُ تعالى هذه الصفةَ في إطلاقِها عليه تنويعًا، ويستحيلُ معه نفيُ حقائقِها، بلْ ليستْ في الصفاتِ الإلهيةِ أظهرُ مِنْ صفةِ الكلامِ والعلو وَالفعلِ والقدرةِ.
فإذا كانَ كلامُه، وتكليمُه، وخطابُه، ونداؤُه، وقولُه، وأمرُه، ونهيُه ووصيتُه، وعهدُه وإذنُه، وحُكْمُهُ، وإنباؤه وإخبارُه وشهادتُه، وكلُّ ذلكَ مجازًا لا حقيقةَ له؛ بطلتْ الحقائقُ كلُّها، فإنَّ الحقائقَ إنما حَقَّتْ بكلماتِ تكوينِه: {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [يونس: 82])([1]).
وَقَدْ دَلَّ على إثباتِ صفةِ الكلامِ الكتابُ والسنةُ، وأجمعَ على إثباتِها سلفُ الأمةِ؛ وَمِنَ الأدلةِ على إثباتِها ما يلي:
أولًا ـ الأدلةُ مِنَ القرآنِ:
1- قالَ تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 37].
2- وقالَ تعالى: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 75].
3-وقالَ تعالى: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 39].
4- وقالَ تعالى: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164].
5- {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 115].
ثانيًا ـ الأدلةُ مِنَ السنةِ:
الأدلةُ مِنَ السنةِ على صفةِ الكلامِ كثيرةٌ جدًّا، بَلْ إِنَّ جميعَ الألفاظِ التي تدلُّ في اللغةِ العربيةِ على التكلمِ قَدْ جاءتْ بها النصوصُ؛ كالتكليمِ، والمناداةِ، والمناجاةِ، والقولِ ماضيًا ومستقبلًا.
فَمِنَ السُّنةِ: أحاديثُ الشفاعةِ، وأحاديثُ الإسراءِ وَالمعارجِ، وأحاديثُ رؤيةِ المؤمنين لربِّهم في الآخرةِ، وأحاديثُ تكليمِ اللهِ لملائكتِه وأنبيائِه وَرُسُلِهِ وأهلِ الجنةِ، فَكُلُّ هذه الأحاديث جاءَ فيها تَكَلُّمُ الربِّ سبحانه وتعالى ومخاطبتُه لغيرِه.
وقدْ عَقَدَ البخاريُّ في صحيحِه ثلاثةَ أبوابٍ دالةٍ على إثباتِ صفةِ الكلامِ للهِ تعالى؛ وفيما يلي نذكرُ بعضَ الأدلةِ مِنَ السنةِ على إثباتِ صفةِ الكلامِ للربِّ سبحانه وتعالى:
1- عنْ عدي بنِ حاتم رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((ما منكُمْ مِنْ أحدٍ إلا سَيُكَلِّمُه ربُّه، ليسَ بينَه وبينَه ترجمانٌ ولا حجابٌ يحجبُه))([2]).
2- وعنْ أبي هريرة رضي الله عنه عَن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: ((احتجَّ آدمُ وموسى، فقالَ له موسى: يا آدمُ، أنتَ أبونا، خيَّبتَنا وَأَخْرَجْتَنَا مِنَ الجنةِ، قالَ آدمُ: يا موسى اصطفاكَ اللهُ بكلامِه، وخطَّ لكَ بيدِه، أتلومني على أمرٍ قَدَّرَه اللهُ عليَّ قبلَ أنْ يخلقني بأربعين سنة، فحجَّ آدمُ موسى، فحجَّ آدمُ موسى)) ثلاثًا([3]).
3- وعنه رضي الله عنه، أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: ((تكفَّلَ اللهُ لِمَنْ جاهدَ في سبيلِه، لا يُخْرِجُه إلا الجهادُ في سبيلِه وتصديقُ كلماتِه بأنْ يُدْخِلَه الجنةَ، أوْ يُرْجِعَهُ إلى مسكنِه الذي خرجَ منه معَ ما نالَ مِنْ أجرٍ أوْ غنيمةٍ))([4]).
4- وعنْ أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قالَ: ((جاءَ رجلٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: الرجلُ يقاتلُ للمغنمِ، والرجلُ يقاتلُ للذِّكْرِ، والرجلُ يقاتلُ ليرى مكانَه، فَمَنْ في سبيلِ اللهِ؟ قَالَ: مَنْ قَاتلَ لتكونَ كلمةُ اللهِ هي العليا فهوَ في سبيلِ اللهِ))([5]).
5- وعنْ أبي هريرة رضي الله عنه، عَنْ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: ((ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ: رَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ لَقَدْ أَعْطَى بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى وَهُوَ كَاذِبٌ، وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ، وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ؛ فَيَقُولُ اللَّهُ: الْيَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ))([6]).
ثالثًا ـ أقوالُ الصحابةِ فِي إثباتِ صفةِ الكلامِ:
وردتْ آثارٌ كثيرةٌ عَن الصحابةِ في إثباتِ صفةِ الكلامِ للربِّ سبحانه وتعالى؛ منها:
1- لما خاطبَ أبو بكر قومًا مِنْ أهلِ مكةَ على أنَّ الرومَ تَغْلِبُ فارسَ، فغلبتْ الرومُ، فنزلتْ: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم: 1-2]، فأتى قريشًا فقرأها عليهم فقالوا: كلامُكَ أَمْ كلامُ صاحبِك؟ فقالَ: (ليسَ بكلامِي وَلَا كلامِ صاحبِي، ولكنَّهُ كلامُ اللهِ عز وجل)([7]).
2- قالَ نيازُ بنُ مكرم الأسلمي رضي الله عنه: (لَمَّا نَزَلَتْ {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم: 1، 2]؛ خرجَ أبو بكر يصيحُ يقولُ: كلامُ ربِّي)([8]).
3- وعنْ ابنِ عباسٍ - رضيَ اللهُ عنهما -: (لمَّا كلمَ اللهُ موسى كانَ النداءُ في السماءِ، وَكَانَ اللهُ في السماءِ)([9]).
4- وعنْ عبدِ اللهِ بنِ مسعود رضي الله عنه: (إذا تكلمَ اللهُ بالوحي سمعَ أهلُ السماواتِ شيئًا، فإذا فزعَ عَنْ قُلوبِهم وسكنَ الصوتُ؛ عرفوا أنَّ الحقَّ مِنْ رَبِّكُمْ، ونادوا: ماذَا قالَ ربُّكم؟ قالوا: الحقَّ)([10]).
5- وعنْ عبدِ اللهِ بنِ عباس - رضيَ اللهُ عنهما - قالَ: (يا معشرَ المسلمين، كيفَ تسألون أهلَ الكتابِ وكتابُكم الذي أُنْزِلَ على نبيِّه صلى الله عليه وسلم أحدثُ الأخبارِ باللهِ؟! تقرؤنه لَمْ يَشْب، وَقَدْ حَدَّثكُم اللهُ أنَّ أهلَ الكتابِ بَدَّلُوا مَا كَتَبَ اللهُ، وغيَّروا بأيديهم الكتابَ ... إلخ)([11]).
رابعًا ـ أقوالُ التابعين في إثباتِ صفةِ الكلامِ:
1- عنْ عامر الشعبي([12]) قالَ: (لقي ابنُ عباس كعبًا بعرفة، فسألَه عنْ شيءٍ فَكَبَّرَ، حتى جَاوَبَتْهُ الجبالُ، فقالَ ابنُ عباس: إنا بنو هاشم نزعمُ أَنْ نقولَ إنَّ محمدًا قَدْ رأى ربَّه مرتين، فقالَ كعب: إنَّ اللهَ قسَّمَ رؤيتَه وكلامَه بينَ موسى ومحمدٍ - عليهما السلامُ -، فرأى محمدٌ ربَّه مرتين، وكَلَّمَ موسى مرتين)([13]).
2- وعنْ عبدِ الرحمنِ بن مهدي([14])، قالَ: (مَنْ قالَ: إنَّ اللهَ U لَمْ يُكَلِّمْ موسى فيُستَتَاب، فإنْ تابَ وإلا قُتِلَ)([15]).
3- عَنْ محمد بن كعب القرظي([16])، قَالَ: (قالتْ بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: مَا شبَّهْتَ صوتَ ربِّك تعالى حينَ كَلَّمَكَ؟ قَالَ: شَبَهُ صوتِ الرعدِ حينَ لا يترجعُ)([17]).


الهوامش:

([1]) انظر: مختصر الصواعق، ابن القيم، ص(407).

([2]) رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}، (7443)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو بكلمة طيبة وأنها حجاب من النار، (1016)، واللفظ للبخاري.

([3]) رواه البخاري، كتاب القدر، باب تحاج آدم وموسى عند الله، (6614)، ومسلم، كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام، (2652).

([4]) رواه البخاري، كتاب فرض الخمس، باب قول النبي رضي الله عنه: ((أُحِلَّت لكم الغنائمُ))، (2123)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب قضل الجهاد والخروج في سبيل الله، (104-1786).

([5]) رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، (2810)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، (1904).

 ([6]) رواه البخاري، كتاب المساقاة، باب من رأى صاحب الحوض أو القربة أحق بمائه، (2369)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان غلط تحريم إسبال الإزار، (106).

([7]) رواه ابن خزيمة في التوحيد، (1/404)، وعبد الله بن أحمد في السنة، (1/143) (116)، والبيهقي في الأسماء والصفات، (1/585) (501).

([8]) رواه البخاري في خلق أفعال العباد، ص(18).

([9]) المصدر السابق، ص(19).

([10]) رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ}.

([11]) رواه البخاري، كتاب الشهادات، باب لا يسأل أهل الشرك عن الشهادة وغيرها، (2685).

([12]) هو عامر بن شراحبل بن عبد بن ذي كبار، الإمام، علامة العصر، أبو عمر الهمذاني ثم الشعبي، وهو تابعي جليل القدر، وافر العلم، وُلد في زمن خلافة عمر بن الخطاب، روى عن: سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وأبي موسى الأشعري، وعمر، روى عنه: الحكم، وحماد، وأبو إسحاق، وداود بن أبي هند، تُوفي (105 هـ)، انظر: حلية الأولياء، أبو نعيم، (4/310)، وفيات الأعيان، ابن خلكان، (3/12).

([13]) رواه عبد الرزاق في تفسيره، (2/252)، والترمذي، أبواب تفسير القرآن، (3274)، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة، (3/554).

([14]) عبد الرحمن بن مهدي بن حسان بن عبد الرحمن العنبري، وقيل الأزدي، الثقة الحافظ الإمام، من أعلم الناس بالحديث وعلومه، روى عنه: جرير بن حازم، وعكرمة بن حماد، ومالك وشعبة، وروى عنه: ابن المبارك، وابن وهب، وإسحاق ويحيي بن معين، تُوفي سنة (198هـ)، انظر: الجرح والتعديل، ابن أبي حاتم، (1/251)، تهذيب التهذيب، ابن حجر، (6/279).

([15]) انظر: الآجري في الشريعة، (2/85).

([16]) محمد بن كعب القرظي، أبو حمزة، وقيل: أبو عبد الله المدني، من حلفاء الأوس، وكان أبوه من سبي قريظة، سكن الكوفة ثم الدينة، كان ثقةً عالمًا، كثيرَ الحديث ورعًا، من أئمة التفسير، روى عن: ابن عباس بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، وروى عنه: أخوه عثمان، ويزيد بن أبي زياد، وحمد بن المنكدر، انظر: حلية الأولياء، أبو نعيم، (9/420)، تهذيب التهذيب، ابن حجر، (3/212).

([17]) المصدر السابق، (2/90).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
صفةُ الكلامِ.doc doc
صفةُ الكلامِ.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى