صفةُ العلوِّ

صفةُ العلوِّ



الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، ثم أما بعد؛.. دلَّ القرآنُ والسنةُ والعقلُ على اتصافِ اللهِ سبحانه وتعالى بالعلوِّ والفوقيةِ والاستواءِ على العرشِ، وتُعَدُّ صفةُ العلوِّ مِنْ أظهر الصفاتِ الإلهيةِ التي تنوعتْ فيها الدلائلُ النقليةُ والعقليةُ والفطريةُ على إثباتِها، وبلغتْ مبلغًا عظيمًا من التواترِ، حتى أوصلَها بعضُ أهلِ العلمِ إلى ألفِ دليلٍ([1]).
قالَ شيخُ الإسلامِ: (قالَ بعضُ أكابر أصحابِ الشافعي: في القرآنِ ألفُ دليلٍ أوْ أزيد، تدلُّ على أنَّ اللهَ تعالى عالٍ على الخلقِ، وأنَّه فوقَ عبادِه، وقالَ غيرُه: في ثلاثمائةِ دليلٍ تدلُّ على ذلك)([2]).
فعلوُّ اللهِ تعالى ثابتٌ بأنواعِ الأدلةِ، وسياقُ جميعِ هذه الأدلةِ مما يصعبُ جدًّا في هذا المبحثِ، قالَ شيخُ الإسلامِ - رحمهُ اللهُ -: (فهذا كتابُ اللهِ مِنْ أولِه إلى آخرِه، وسُنةُ رسولِه صلى الله عليه وسلم منْ أولِها إلى آخرِها، ثُمَّ عامة كلامِ الصحابةِ والتابعين، ثمَّ كلام سائرِ الأئمةِ، مملوءٌ بما هوَ إمَّا نَصٌّ وإمَّا ظاهرٌ في أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى هوَ العلي الأعلى، وهوَ فوقَ كُلِّ شيءٍ، وأنَّه فوقَ العرشِ، وأنَّه فوقَ السماءِ؛ مثل قولِه تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]، {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55])، ثمَّ ذكرَ بعضَ الأدلةِ.
ثمَّ قالَ: (إلى أمثالِ ذلكَ مما لا يكادُ يُحصى إلَّا بكلفةٍ، وفي الأحاديثَ الصحاحِ والحِسَانِ ما لا يُحصى إلا بكلفةٍ؛ مثل: قصة معراجِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم إلى ربِّه، ونزولِ الملائكةِ مِنْ عندِ اللهِ وصعودِها إليه ...)، وذَكَرَ جملةً مِنَ الأحاديث.
ثمَّ قالَ: (إلى أمثالِ ذلكَ مما لا يحصيه إلَّا اللهُ، مما هو مِنْ أبلغ المتواتراتِ اللفظيةِ والمعنويةِ، التي تُورِثُ علمًا يقينيًّا مِنْ أبلغِ العلومِ الضروريةِ أنَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم المُبَلِّغُ عَن اللهِ ألقى إلى أمتِه المدعوين أَنَّ اللهَ سبحانه على العرشِ، وأنَّه فوقَ السماءِ، كَمَا فَطَرَ اللهُ على ذلكَ جميعَ الأممِ، عربهم وعجمهم، في الجاهليةِ والإسلامِ، إلَّا مَنْ اجتالَتْهُ الشياطينُ عَنْ فطرتِه، ثُمَّ عَنْ السلفِ في ذلكَ مِنَ الأقوالِ مَا لو جُمِعَ لَبَلَغَ مئتين أوْ ألوفًا)([3]).
وَقَدْ ذَكَرَ ابنُ القيمِ - رحمهُ اللهُ - في النونية واحدًا وعشرين نوعًا منْ أنواعِ الأدلةِ، وتحتَ كُلِّ نوعٍ أكثر مِنْ دليلٍ([4]).
وقدْ ذكرَ - رحمهُ اللهُ - في كتابِ "اجتماع الجيوش الإسلامية" أدلةً مِنَ القرآنِ ومِنَ السنةِ، ثمَّ أَتْبَعَهَا بعددٍ كثيرٍ جدًّا مِنْ أقوالِ السلفِ مِنَ الصحابةِ والتابعين وأتباعِهم، والأئمةِ الأربعةِ وغيرِهم مِنْ أئمةِ الإسلامِ، وَمِنْ بعدِ هؤلاء على اختلافِ طبقاتِهم مِنْ أهلِ الحديثِ والفقهِ وَالتفسيرِ واللغةِ، والزهادِ والصوفيةِ وأهلِ الاتباعِ وغيرِهم([5]).
وقالَ في النونية:

وَقَدْ اقتصرتُ على يسيرٍ مِنْ كثــ

ــيرٍ فائتِ للعدِّ وَالحُسبان

مَــا كُلُّ هذا قابلٌ للتأويلِ وَالتـ

ـحريفِ فاستحيوا مِن الرحمنِ

وَقَدْ أفردَ بعضُ أهلِ العلمِ كُتُبًا خاصةً بهذه المسألةِ([6])، ومنهم الذهبي، فقدْ ألَّفَ جزءًا سمَّاه: "كتاب العلو للعلي الغفار"، وذكرَ النصوصَ مِنَ الكتابِ والسنةِ وإجماعِ الصحابةِ والتابعين وَمَنْ بعدهم على اختلافِ طبقاتِهم.
وقدْ تنوعتْ الآياتُ والأحاديثُ الدالةُ على إثباتِ صفةِ العلوِّ أنواعًا كثيرة؛ منها:
أولًا: أسماءُ اللهِ تعالى الحسنى الدالةُ على ثبوتِ جميعِ معاني العلو له - تبارك وتعالى -؛ كاسمِه الأعلى، واسمِه العلي، واسمِه المتعالي، واسمِه الظاهر، واسمِه القاهر وغيرِها.
قال َتعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1].
وقالَ تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255].
وقالَ تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء: 34].
وقالَ تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج: 62].
وقالَ تعالى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [الليل: 19، 20].
ثانيًا: التصريحُ بالاستواءِ مقرونًا بأداةِ "على" مختصًّا بـ"العرش"، الذي هو أعلى المخلوقاتِ، مصاحبًا في الأكثرِ بأداةِ "ثُمَّ" الدالة على الترتيبِ والمهملةِ، هو بهذا السياقِ صريحٌ في معناه الذي لا يفهم المُخَاطَبُون غيرَه مِنَ العلوِّ وَالارتفاعِ.
قالَ تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54].
وقالَ تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [يونس: 3].
وقالَ تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5].
وقالَ تعالى: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59].
وقالَ تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} [السجدة: 4].
ثالثًا: التصريحُ بالفوقيةِ مقرونةً بأداةِ "مِنْ" التي تَدُلُّ على فوقيةِ الذات؛ نحو قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50].
رابعًا: ذِكْرُها مجردةً عَنْ الأداةِ؛ كقولِه تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18].
وَلَمَّا حَكَمَ سعدُ بن معاذ رضي الله عنه في بني قريظة بِأَنْ تُقْتَلَ مقاتِلَتُهم، وتُسبى ذراريهم، وتُغنمُ أموالُهم؛ قالَ له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((لقدْ حَكَمْتَ فيهم بحكمِ المَلِكِ))([7])، وفي لفظٍ: ((منْ فَوقِ سبعِ سماواتٍ))([8]).
وعنْ أنس بن مالك رضي الله عنه قالَ: كانتْ زينب تفخرُ على أزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، تقولُ: (زَوَّجَكُنَّ أهاليكُنَّ، وزَوَّجَنِي اللهُ تعالى مِنْ فوقِ سبعِ سماواتٍ)([9]).
وعنْ أبي هريرة رضي الله عنه، عَن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: ((إنَّ اللهَ لَمَّا قَضَى الخَلقَ كَتَبَ عندَه فوقَ العرشِ: إنَّ رحمتي سَبَقَتْ غَضَبِي))([10]).
خامسًا: التصريحُ بأنَّه تعالى في السماءِ؛ قَالَ تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك: 16-17].
وعنْ أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قالَ: ((بعثَ عليُّ بن أبي طالب إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ اليمن بذهيبة([11]) في أديم مقروظ، لَمْ تحصل مِنْ ترابِها، قالَ: فقسَّمَها بينَ أربعةِ نَفَر؛ بين عيينة بن حصن، والأقرعِ بن حابس، وزيدِ بن الخيل، والرابع: إمَّا علقمة بن علاثة، وإما عامر بن الطفيل، فقالَ رجلٌ مِنْ أصحابِه: كنَّا نحنُ أحقَّ بهذا مِنْ هؤلاء، قَالَ: فبلغَ ذلكَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم؛ فقالَ: ألا تُأَمِّنُونِي؟ وأنا أمينُ مَنْ في السماءِ، يأتيني خبرُ السماءِ صباحًا ومساءً))([12]).
وحديق معاوية بن الحكم رضي الله عنه، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم سألَ الجارية: ((أينَ الله؟ قالت: في السماء، قال:  من أنا؟ قالت: أنتَ رسولُ اللهِ، قال: أَعْتِقْهَا فإنها مؤمنةٌ))([13]).
وحديثُ أبي هريرة رضي الله عنه، عَنْ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: ((الميتُ تحضرُه الملائكةُ، فإذَا كانَ الرجلُ صالحًا؛ قالوا: اخرُجِي أيتها النفسُ الطيبة، كانتْ في الجسدِ الطيبِ، اخرُجي حميدةً، وأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وريحانٍ وَرَبٍّ غير غضبان، فلا يزالُ يُقالُ لها حتَّى تخرجَ، ثُمَّ يُعْرَجُ بِها إلى السماءِ ...)) الحديث([14]).
وعنْ أبي هريرة رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسِي بيدِه، مَا مِنْ رَجُلٍ يدعو امرأتَه إلى فراشِها، فتأبَى عليه؛ إلَّا كانَ الذي في السماءِ ساخطًا عليها حتَّى يرضى عنها))([15]).
ثالثًا ـ أقوالُ الصحابةِ في صفةِ العلوِّ:
وردَ إثباتُ صفةِ العلوِّ للهِ تعالى عنْ جَمْعٍ مِنَ الصحابةِ y؛ ومِنَ الأمثلةِ على أقوالِهم ما يلي:
1- عنْ عبدِ اللهِ بنِ عمرَ - رضيَ اللهُ عنهما - قَالَ: (لَمَّا قُبِضَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ أبو بكر رضي الله عنه: أيها الناس، إِنْ كَانَ محمدٌ إلهَكَم الذي تعبدون فإنَّ إلهَكَم قَدْ مَاتَ، وَإِنْ كَانَ إلهَكُم اللهُ الذي في السماءِ فإنَّ إلهَكُم لَمْ يَمُتْ، ثُمَّ تلا: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144] حتى ختم الآية)([16]).
2- وَلَمَّا قَدِمَ عمرُ رضي الله عنه الشامَ استقبلَه الناسُ وهوَ على بعيرِه، فقالوا: (يا أميرَ المؤمنين، لَوْ ركبتَ برذونًا([17]) تلقاكَ عظماءُ النَّاسِ ووجوهُهُم؟! فقالَ عمرُ: لا أراكُم ههنا، إنَّما الأمرُ مِنْ ههنا - وأشارَ بيدِه إلى السماءِ - خَلُّوا سبيلَ جملي)([18]).
4- وعنْ ابنِ عباس - رضيَ اللهُ عنهما -، أنَّه دخلَ على عائشة وهيَ تموت فقالَ لها: (كُنْتِ أَحَبَّ نساءِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ولَمْ يكنْ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يحبُّ إلا طيبًا، وأنزلَ اللهُ براءَتَكِ مِنْ فوقِ سبعِ سماوات، جاءَ بها الروحُ الأمينُ، فأصبحَ ليسَ مسجد مِنْ مساجد اللهِ تعالى يُذْكَرُ فيه اللهُ إلَّا وهي تُتْلَى فيه آناءَ الليلِ وَالنهارِ)([19]).
5- وعنْ ابنِ مسعود رضي الله عنه في قولِه: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}؛ قَالَ: (العرشُ على الماءِ، واللهُ فوقَ العرشِ، وهوَ يعلمُ ما أنتم عليه)([20]).
رابعًا ـ أقوالُ التابعين في صفةِ العلو:
ومِنَ الأمثلةِ لأقوالِ التابعين والسلفِ في إثباتِ صفةِ العلوِّ ما يلي:
1- عنْ قتادة قالَ: (قالتْ بنو إسرائيل: يا رَبِّ! أنتَ في السماءِ ونحنُ فِي الأرضِ، فكيفَ لنا أنْ نعرفَ رضاكَ وغضبَك؟ قالَ: إذَا رضيتُ عنكم أَسْتَعْمِلُ عليكم خيارَكم، وإذا غضبتُ عليكم اسْتَعْمَلْتُ عليكُم شرارَكم)([21]).
2- وعنْ عطاء بن يسار([22]) قالَ: (أتى رجلٌ كعبًا وهو في نفرٍ، فقالَ: يا أبا إِسْحَاقَ! حَدِّثْنِي عَنِ الْجَبَّارِ، فَأَعْظَمَ الْقَوْمُ قَوْلَهُ، فَقَالَ كَعْبٌ: دَعُوا الرَّجُلَ، فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا تَعَلَّمَ، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا ازْدَادَ عِلْمًا، ثُمّ قَالَ كَعْبٌ: أُخْبِرُكَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ، وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ، ثُمَّ جَعَلَ مَا بَيْنَ كُلِّ سَمَاءَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَالأَرْضِ، وَكُثُفُهُنَّ مِثْلُ ذَلِكَ، ثُمَّ رَفَعَ الْعَرْشَ فَاسْتَوَى عَلَيْهِ، فَمَا فِي السَّمَوَاتِ سَمَاءٌ إِلا لَهَا أَطِيطٌ كَأَطِيطِ الرَّحْلِ الْعِلافِيِّ أَوَّلَ مَا يَرْتَحِلُ مِنْ ثِقَلِ الْجَبَّارِ فَوْقَهُنَّ)([23]).
3- وعنْ كعب قالَ: قالَ اللهُ تعالى: ((أنا اللهُ فوقَ عبادِي، وَعرشي فوقَ جميعِ خلقِي، وأنَا على عرشي أُدَبِّرُ أمرَ عبادِي في سمائِي وأرضي، وإنْ حُجِبُوا عني فلا يغيبُ عنهم عِلْمِي، وإليَّ يُرْجَعُ كُلُّ خَلْقِي، فأثيبُهم بما خَفي عليهم مِنْ علمِي، أَغْفِرُ لِمَنْ شِئْتُ منهم بمغفرتِي، وأُعَذبُ مَنْ شِئْتُ منهم بعقابِي)([24]).
4- وقالَ الأوزاعي: (كُنَّا والتابعون متوافرون نقولُ: إنَّ اللهَ فوقَ عرشِهِ، ونؤمنُ بما وَرَدَتْ به السنةُ مِنْ صفاتِه)([25]).
5- وقالَ التيمي: (لَوْ سُئِلْتُ: أينَ الله تبارك وتعالى؟ قلتُ: في السماءِ، فإنْ قالَ: فأينَ عرشُه قَبْلَ أنْ يخلقَ السماءَ؟ قُلْتُ: على الماءِ، فَإِنْ قَالَ لي: أينَ كَانَ عَرْشُهُ قَبْلَ أنْ يخلقَ الماءَ؟ قلتُ: لا أدري)([26]).
خامسًا ـ الإجماع:
أجمعَ السلفُ وعلماءُ الأمةِ على إثباتِ صفةِ العلوِّ؛ ومِمَّنْ نُقِلَ ذلكَ عنهم ما يلي:
1- الدرامي؛ حيثُ قالَ - رحمهُ اللهُ -: (ثُمَّ إجماعٌ مِنَ الأولين والآخِرِين، العالِمِين منهم والجاهلِين، أَنَّ كُلَّ واحدٍ ممن مضى وممنْ غَبَرَ، إذا استغاثَ باللهِ تعالى أوْ دعاه أوْ سألَه، يمدُّ يديه وبصرَه إلى السماءِ يدعوه منها، ولم يكونوا يدعوه مِنْ أسفلَ منهم مِنْ تحتِ الأرضِ، ولا مِنْ أمامِهم، ولا مِنْ خلفِهم، ولا عَنْ أيمانِهم، ولا عَنْ شمائِلِهم، إلَّا مِنْ فوقِ السماءِ؛ لمعرفتِهم باللهِ أنَّه فوقَهم.
حتَّى اجتمعتْ الكلمةُ مِن المصلين في سجودِهم: "سبحانَ ربي الأعلى"، لا ترى أحدًا يقولُ: ربي الأسفل!! حتَّى لَقَدْ عَلِمَ فرعونُ في كفرِه وعتوِّه علوَّ اللهِ، وَأَنَّ اللهَ عزوجل فوقَ السماءِ؛ فقالَ: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36، 37])([27]).
2- أبو الحسن الأشعري قالَ - رحمهُ اللهُ -: (ورأينا المسلمين جميعًا يرفعون أيديهم إذَا دَعَوا نحوَ السماءِ؛ لأنَّ اللهَ عزوجل مُسْتَوٍ على العرشِ الذي هوَ فوقَ السماواتِ، فلولا أنَّ اللهَ عزوجل على العرشِ لم يرفعوا أيديهم نحوَ العرشِ، كَمَا لا يحطونها إذا دعوا إلى الأرضِ)([28]).
3- حكَى كثيرٌ مِن المتكلمين - مِنْ أهلِ الإثباتِ - إجماعَ الخلائقِ على إثباتِ العلوِّ؛ مثل عبدِ اللهِ بن كلاب([29])، فقدْ قالَ بَعْدَ ذِكْرِ حديثِ الجارية: (كيفَ وَقَدْ غَرَسَ في بَنيةِ الفطرةِ، وتَعَارفِ الآدميين مِنْ ذلكَ مَا لا شيءَ أبينَ منه ولا أوكد، بَلْ لا تسأل أَحدًا مِنَ الناسِ عنه عربيًّا وَلَا عجميًّا ولا مؤمنًا ولا كافرًا، فتقول: أينَ ربك؟ إلَّا قالَ: في السماءِ، إنْ أفصحَ، أوْ أومأَ بيدِه أوْ أشارَ بطرفِه، إنْ كانَ لا يفصحُ.
لا يشيرُ إلى غيرِ ذلكَ مِنْ أرضٍ ولا سَهْلِ ولا جَبَلٍ، ولا رأينا أحدًا داعيًا له إلَّا رافعًا يديه إلى السماءِ، ولا وجدنا أحدًا غيرَ الجهميةِ يسألُ عَنْ ربِّه فيقول: "في كلِّ مكان"، كمَا يقولون، وهُم يَدَّعُون أنهم أفضل الناسِ كلهم، فتاهتْ العقولُ، وسقطتْ الأخبارُ، واهتدى "جهم" وحدُه وَخمسون رجلًا معه، نعوذُ باللهِ مِنْ مضلاتِ الفتنِ)([30]).
4- أبو عثمان الصابوني قَالَ - رحمهُ اللهُ -: (ويعتقدُ أصحابُ الحديثِ ويشهدون أنَّ اللهَ سبحانه فوقَ سبعِ سماواتِه، على عرشِه مستوٍ، كمَا نطقَ به كتابُه في قولِه عزوجل في سورةِ الأعراف: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] ...)، وذكرَ بعضَ النصوصِ ثُمَّ قَالَ: (وعلماءُ الأمةِ وأعيانُ الأئمةِ مِنَ السلفِ - رحمهُم اللهُ - لم يختلفوا في أنَّ اللهَ تعالى على عرشِه، وعرشُه فوقَ سماواتِه)([31]).
5- شيخُ الإسلامِ ابنِ تيمية قالَ - رحمهُ اللهُ -: (وأمَّا أهلُ السنةِ المُثْبِتُون للعلوِّ فيقولون: إنَّ ذلكَ ثابتٌ بالكتابِ والسُّنة والإجماعِ، مع فطرةِ اللهِ التي فطرَ العبادَ عليها، وضرورة العقلِ، ومع نظرِ العقلِ واستدلالِه)([32]).
6- العلامةُ ابنُ القيمِ - رحمهُ اللهُ - قالَ: (والرسلُ - صلاة اللهِ وسلامُه عليهم - قدْ قامتْ البراهينُ اليقينيةُ على صدقِ كُلِّ فردٍ منهم، وقدْ اتفقتْ كلمتُهم وتواطأَ خبرُهم على إثباتِ العلوِّ والفوقيةِ للهِ، وأنَّه على عرشِه فوقَ سماواتِه، بائنٌ مِنْ خَلْقِهِ)([33]).
وقالَ أيضًا: (فهذا كتابُ اللهِ، ليسَ فوقَ بيانِه مرتبةٌ في البيانِ، وهذه سنةُ رسولِه مطابقةٌ له، أعظم مِنْ مطابقةِ البنانِ للبنانِ، وهذه أقوالُ أعقلِ الأممِ بعدَه والتابعين لهم بإحسانٍ، لا يختلفُ منهم في هذا البابِ اثنان، ولا يوجدُ عنهم فيه قولان متنافيان، بلْ تتابعوا كلُّهم على إثباتِ الصفاتِ، وعلوِّ اللهِ على خَلْقِهِ، واستوائِه على عرشِه ... وسائر ما وَصَفَ بِهِ نفسَه ووَصَفَه بِهِ رسولُه، كتتابعِ الأسنانِ)([34]).
 
الهوامش:

([1]) انظر: الجواب الصحيح، ابن تيمية، (3/84)، واجتماع الجيوش الإسلامية، ابن القيم، ص(96-150)، بل ذكر العلامة ابن القيم نقلًا عن بعض أهل العلم، أنه أوصلها إلى مائة ألف دليل، انظر: الصواعق المرسلة، (4/1279)، والفتاوى، (5/226)، وشرح العقيدة الطحاوية، (2/381)، وألَّف الذهبي كتاب "العلو"، أودع فيه أحاديث صفة العلو وأقوال الصحابة والتابعين والسلف في إثبات صفة العلو.

([2]) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية، (5/121).

([3]) انظر: الحموية ضمن مجموع الفتاوى، ابن تيمية، (5/14-15)، والتسعينية، له، (3/954).

([4]) انظر: شرح القصيدة النونية، ابن عيسى، (1/ 534).

([5]) انظر: اجتماع الجيوش الإسلامية، ابن القيم، (96-331).

([6]) مثل كتاب العرش، ابن أبي شيبة، وإثبات صفة العلو، ابن قدامة.

([7]) رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب إذا نزل العدو على حكم رجل، (3043)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب جواز قتل من نقض العهد وجواز إنزال أهل الحصن على حكم حاكمٍ عدل أهلٍ للحكم، (1768).

([8]) رواه الذهبي في مختصر العلو، ص(87).

([9]) رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}، {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}، (7420)، ومسلم، كتاب النكاح، باب زواج زينب بنت جحش، ونزول الحجاب، وإثبات وليمة العرس، (1428)، واللفظ للبخاري.

([10]) رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}، (3194)، ومسلم، كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبَه، (2751).

([11]) ذهيبة: قال ابن الأثير: (وهو تصغير ذهب، وأدخل الهاء فيها لأن الذهب يؤنث)، انظر: لسان العرب، (5/66).

([12]) رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ}، وقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}، (7432)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، (1064)، واللفظ لمسلم.

([13]) رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من الإباحة، (537).

([14]) رواه النسائي في سننه، (4/8)، وابن ماجه، (4262)، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، (4262)، واللفظ لابن ماجه.

([15]) رواه مسلم، كتاب النكاح، باب تحريم امتناعها من فراش زوجها، (1436).

([16]) رواه الدرامي في الرد على الجهمية، ص(53)، رقم: (78).

([17]) جمعها "براذين"، وهي الخيل غير العراب والعتاق، وسُميت بذلك لثقلها، وأصل البرذنة الثقل، انظر: مشارق الأنوار، عياض موسى اليحصبي، (1/131).

([18]) رواه أبو نعيم في الحلية، (1/47)، والذهبي في مختصر العلو، ص(102)، رقم: (46)، وقال الألباني: إسناده صحيح على شرط الشيخين.

([19]) رواه الدارمي في الرد على الجهمية، ص(57)، رقم: (84).

([20]) رواه البخاري في خلق أفعال العباد، ص(20).

([21]) رواه الدارمي في الرد على الجهمية، ص(59)، رقم: (87).

([22]) هو: عطاء بن يسار الهلالي القاضي المدني الفقيه، مولى ميمونة أم المؤمنين، ثقةٌ إمام، روى عن أبي أيوب، وزيد، وعائشة، وأبي هريرة، وروى عنه: زيدُ بن أسلم، وصفوان بن سليم، وعمرو بن دينار، تُوفي (103هـ)، انظر: السير، (4/448)، شذرات الذهب، أبو الفلاح، (2/19).

([23]) رواه الدارمي في الرد على الجهمية، ص( 59)، رقم: (88).

([24]) رواه البيهقي في الأسماء والصفات، (2/304)، وانظر: سير أعلام النبلاء، الذهبي، (7/120-121)، وتذكرة الحفاظ، الذهبي، (1/181-182)، وقال: إسناده صحيح، واجتماع الجيوش الإسلامية، ابن القيم، ص(131).

([25]) رواه اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد، (3/444)، رقم: (671).

([26]) انظر سير أعلام النبلاء، الذهبي، (6/24).

([27]) انظر الرد على الجهمية، ص(44-45).

([28]) انظر: الإبانة، أبو الحسن الأشعري، ص(116).

([29]) عبد الله بن سعيد بن كلاب القطان أبو محمد البصري، يُلقب كلابًا؛ لأنه كان يجر الخصم إلى نفسه ببيانه وبلاغته كما يجتذبُ الكلبُ الشيءَ، رأس المتكلمين بالبصرة في زمانه، من مؤلفاته: كتاب الصفات، كتاب الرد على المعتزلة، وغيرها، تُوفي سنة (241هـ)، انظر: سير أعلام النبلاء، الذهبي، (11/174)، لسان الميزان، ابن حجر العسقلاني، (3/290).

([30]) نقله عنه شيخُ الإسلام في درء تعارض العقل والنقل، (6/194).

([31]) انظر: عقيدة السلف وأصحاب الحديث، الصابوني، ص(175-176).

([32]) انظر: الفتاوى، شيخ الإسلام ابن تيمية، (16/110).

([33]) انظر: الصواعق المرسلة، ابن القيم، (3/872).

([34]) انظر: المصدر السابق، (3/953-954).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
صفةُ العلوِّ.doc doc
صفةُ العلوِّ.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى